الرئيسيةالأولىكيف واجه المستعمر الحركة المسرحية المغربية بوجدة شرق المغرب سنة 1934م

كيف واجه المستعمر الحركة المسرحية المغربية بوجدة شرق المغرب سنة 1934م

طرحنا هذا السؤال على الدكتور عزيز زروقي مدير المهرجان الوطني لسينما المقهى بتازة وهو الباحث المتخصص في الحقل السينمائي والمسرحي وله دراسات وأبحاث علمية وأكاديمية في الموضوع. وكان جوابه شاف للغليل . عبارة عن مقال مطول موثق بالمصادر والمراجع. حاولنا هنا تكثيف مركز لمضمونه بما ينير ويسلط الضوء على النشاط المسرحي كواجهة للمقاومة وردود المستعمر الفرنسي ضد الحركة المسرحية بوجدة شرق المغرب بداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
يقول الدكتور عزيز زروقي عند الحديث عن المسرح بمعناه الأوروبي في شرق المغرب سنجد أن أول جمعية بدأت تهتم بالمسرح بشكل منظم هي “الجمعية الأندلسية للطرب والمسرح والآداب” التي تأسست سنة 1921م، مع ظهور المسرح أول الأمر في بعض المدن المغربية كفاس التي عرفت أول عرض مسرحي عربي سنة 1923م، على إثر الزيارة التي قامت بها فرقة فاطمة رشدي المصرية رفقة الفنان محمد عز الدين. حيث قدمت مسرحية “صلاح الدين الأيوبي”، وبرـأي الباحث فقد شكلت هذه الزيارة حافزا مباشرا لتدشين حركة مسرحية وطنية على يد بعض التلاميذ والمهتمين، في مختلف المدن المغربية كفاس نفسها والدار البيضاء، والرباط ومراكش ووجدة وغيرها. ليس لكون تلاميذ المدارس مثل ” مدرسة سيدي زيان ” يقدمون في مختلف المناسبات – وفي آخر السنة الدراسية على وجه الخصوص – مسرحيات وسكيتشات بنكهة تحررية بل لأن المدرسين الفرنسيين هم الذين يشرفون على هذه المسرحيات، لذلك، غالبا ما كانت فرصة للاطلاع على الأدب والثقافة الفرنسية في شكل مقاطع من الكوميديا الفرنسية، ولاسيما (المولييريات) Les Molières، أو مقاطع مسرحية قصيرة تعليمية. وهنا لابد من الإشارة إلى طبيعة الفكر الاستعماري الذي كان يمرر أفكارا تهدف إلى الإشادة بفرنسا وتاريخها وأمجادها وتقاليدها. كل ذلك طبعا من أجل ترسيخ الفكر الاستعماري في نفوس المواطنين المغاربة، ومحاولة إبهارهم بحضارة أوروبا قصد طمس ثقافتهم وتقاليدهم الوطنية. وفي ذات السياق يورد الباحث تأكيدا من الأستاذ يحي لعتيقي أحد المشاركين في بعض العروض ما بين سنة 1932– 1933. وهو تلميذ آنذاك في مدرسة “سيدي زيان”، وكانت هذه العروض المسرحية تقام على مسرح الهواء الطلق داخل الحديقة، التي كان يطلق عليها اسم Le parc. وهو الذي يحمل اليوم اسم “حديقة للاعائشة”، وما زال ذلك المسرح قائما إلى يومنا هذا على يمين المدخل الرئيسي للحديقة بوجدة، وقد بناه رئيس المجلس البلدي آنذاك Le chef service Municipal الذي كان يسمى René le maitre. وهو رجل فن متخصص في الحدائق، وله يعزى الفضل في تقديم كثير من الأعمال المسرحية بالفرنسية والدارجة المغربية. كما أنه كان يشرف كذلك على تدريب التلاميذ على فن الميم وإعداد الممثل، وكانت الإدارة الفرنسية تتكلف بأداء واجب الديكور والملابس وغيرها، من لوازم العرض المسرحي.
ويستعرض د عزيز زروقي كيف بدأ الوطنيون يفكرون في خلق قنواتهم التواصلية الوطنية للنضال ضد المستعمر. عبر إنشاء المدارس الوطنية الحرة التي من شأنها أن تعيد للمواطن ثقته بلغته، وتاريخه وأصالة تقاليده من جهة، وأن تتكلف بتقديم مسرح وطني يخدم القضية الوطنية الأم، ويكون بديلا للمسرح الاستعماري من جهة أخرى. غير أنه منذ بداية الثلاثينات ومباشرة بعد الإعلان عن ظهير 16 مايو 1930م، بدأ الحراك الوطني يتقوى.
في هذا الصدد يستشهد الباحث بالمرحوم قدور الورطاسي وهو يوضح كيف أن الوطنيين في وجدة بعثوا إلى إخوانهم في فاس سنة 1934م، يستشيرونهم في أمر تأسيس مدرسة حرة بوجدة. وبالفعل تم تأسيس هذه المدرسة الحرة الأولى بوجدة وأطلق عليها اسم “مدرسة أهل فاس”، وأسندت إدارتها للأستاذ عبد السلام الوزاني، الشيء الذي أثار حفيظة المستعمر الفرنسي ليؤسس مدرسة أخرى لمقاومتها سماها “مدرسة أهالي وجدة”، أو “المدرسة الأهلية” l’ école Urbaine، لتتحول بعد ذلك إلى “المدرسة الفرنسية الإسلامية”l’école franco Musulmane. ويؤكد الباحث أن مع ظهور المدارس الحرة ستبدأ مرحلة جديدة من تاريخ المسرح بمدينة وجدة، لأن هذه المدارس ستضطلع بمهمة نشر الوعي السياسي والديني، والوطني والثقافي. بإشراف قادة الحركة الوطنية، وكان من أهدافها الأساسية محاربة المستعمر عن طريق نشر العلم، وإعادة الاعتبار للغة العربية التي حاول المستعمر طمسها بكل أساليبه الدنيئة، خاصة أن لغة المسرحيات التي كان يشرف عليها المستعمر هي الفرنسية أو الدارجة المغربية. لهذا فأول شيء ركزت عليه هذه المدارس الوطنية الحرة، هو ترويج اللغة العربية من خلال الدروس والمحاضرات والأنشطة الثقافية والفنية.
وفي ظل عدم تكافئ القوى، ولما كان المسرح من أنجع الفنون وأقدرها على خلق التواصل المباشر والحي مع الجمهور، فقد جعلته هذه المدارس الحرة المفعمة بالوطنية من بين أول اهتماماتها، وقد بدأت أنشطتها بشكل محتشم نظرا إلى قلة التكوين وانعدام المؤطرين الأكفاء، في مقابل المؤطرين الفرنسيين الذين كانوا على دراية بأصول فن المسرح. ولكن مع ذلك، فقد كانت هذه المدارس تقوم أول الأمر بعرض بعض السكيتشات التعليمية داخل حجرات الدرس أو في بعض الدور القديمة، فقد كان المسؤولون عن المدارس الحرة غالبا ما يعلنون عن تقديم عرض مسرحي، لا لشيء إلا ليكون مناسبة التقاء المناضلين. وهو ما يعني دخول الفن التعبيري المعركة كواجهة للنضال. بمعنى آخر، أن المسرح صار يقوم بوظيفتين: الأولى هي أنه “عمل فني” يساهم في تربية الروح وتغذية العقل، وتحسيس المواطن المغربي بقضيته ووطنيته ولغته ودينه، والثانية هي أنه “وسيلة لالتقاء الوطنيين” لتمرير بعض المنشورات أو الرسائل، وتبادل الرأي والمشورة، وتقديم التعليمات والأوامر من القادة.
ويبرز الباحث الحراك المتنامي والإيمان المتزايد لدى الفئات الشعبية بالدور الكبير الذي تلعبه الفنون التعبيرية داخل الفضاءات المغلقة والحرة كمحرك أساسي للوطنية. هكذا بدأت هذه المدارس الحرة تتكاثر نظرا إلى الدور الوطني المنوط بها، متخذة ألقابا مستمدة من الواقع والتاريخ. ويلاحظ الباحث أن اختيار أسماء هذه المدارس لم يكن اعتباطيا، لأنها كانت تحمل من الدلالات الوطنية ما يغني عن كل تعليق، فكلمات مثل؛ العروبة، القرآن الكريم، الترقي، زيري… إلخ. تفيد كلها مدى تمسك سكان مدينة وجدة بوطنيتهم ودينهم وتاريخهم، مناهضة منهم للاستعمار الذي كان يسعى بكل الوسائل إلى طمس كل ذلك.
ومن بين هذه المدارس الحرة النشيطة في المجال المسرحي، يورد الباحث «مدرسة الترقي” وقد كان يديرها الأستاذ أحمد زكي بوخريص، وهو مناضل من فاس انتدبه “حزب الاستقلال” كي يتكفل بتنشيط الحركة المسرحية والكشفية في وجدة، ويعد من أهم الأطر السياسية والفنية التي تركت بصمات هامة على الحركة الوطنية عامة بهذه المدينة. فمباشرة بعد وصوله إلى مدينة وجدة قدم مسرحية بعنوان “حصان عربي”، وهي مسرحية سياسية شديدة الإيحاء، كتبت باللغة العربية الفصحى.
ويستفاد من هذه الفقرة بالذات وسم كل الأشكال التعبيرية المقدمة خلال هذه الفترة الحساسة من تاريخ الشرق المغربي بالوطنية والرغبة الشديدة نحو التحرر. وظل المنحى السياسي واضحا في كل المشاهد المسرحية المعروضة والتي تأخذ طابعا رمزيا في الغالب، وقد قدمت مسرحية ” حصان عربي” سنة 1946م بمناسبة عيد العرش الذي كان رمزا للوطنية والوحدة، وقام بإخراجها الأستاذ أحمد زكي بوخريص. وأدى دور العربي فيها الأستاذ محمد حرفي الذي يعد من كبار المناضلين بمدينة وجدة، حيث تقلد مسؤولية الكتابة العامة لفرع نقابة “الاتحاد المغربي للشغل” بوجدة، وذاق مرارة الاعتقال مرارا وتكرارا.
ولما كانت الرقابة الاستعمارية شديدة على كل تحركات الوطنيين وأنشطتهم السياسية والثقافية، فقد كان تلاميذ المدرسة الحرة ينضمون إلى الكشافة في رحلاتهم خارج المدينة ليقوموا بتداريبهم بشيء من الحرية. وكانت ” ضيعة أولاد ابن زعزوع ” في “”طريق العونية من بين الأماكن المفضلة عندهم للتدريب على عروضهم المسرحية، إلا أن عين الرقيب لم تكن لتنام، إذ كان هؤلاء الوطنيين محاصرين باستمرار، وكانت تعترض أعمالهم المسرحية كثير من العراقيل. ويذكر الأستاذ محمد حرفي أن الفنان أحمد زكي بوخريص هو الذي كان يشرف على تدريب التلاميذ، التي غالبا ما تقام داخل المدرسة، أو في بعض الأماكن النائية عن المدينة ” كوادي الناشف ” و”ساحة سيدي يحيي”. وفي سنة 1947م أعد الأستاذ أحمد زكي بوخريص مسرحية ثانية بعنوان “عروس القدس”. هي مسرحية سياسية ذات اتجاه قومي تدعو إلى الوحدة العربية، ” فالقدس” تحولت إلى امرأة، وصارت تنادي أبنائها الأبطال الواحد تلو الآخر، من أمثال؛ صلاح الدين الأيوبي، وعبد الكريم الخطابي، والأمير عبد القادر وغيرهم… وتدعوهم إلى الوحدة. إلا أنه أثناء التداريب أغلقت السلطات الفرنسية (مدرسة الترقي) وقامت بنفي المسؤولين عنها. أما الطلبة فتفرقوا، فمنهم من غادر الدراسة نهائيا، ومنهم من التحق بمدرسة أخرى؛ وظلت المسرحية مشروعا لم يكتمل.
ونظرا إلى الاتصالات التي كانت دائبة بين مناضلي وجدة، ومناضلي المناطق المغربية الأخرى، فقد كانت تصل إلى وجدة الأصداء الطيبة عما بلغه المسرح، في كل من فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش، وغيرها من المدن التي بدأ المسرح فيها يترسخ شيئا فشيئا.
وتجدر الإشارة إلى أن مدينة وجدة خلال بداية الأربعينيات، إلى حدود 1945م عرفت ركودا واضحا في الحركة المسرحية، بسبب الانشغال العام بالحرب العالمية الثانية، وما سيترتب عنها من نتائج أولا، وبما أسفرت عنه وثيقة المطالبة بالاستقلال من نتائج زعزعت المستعمر حتى راح يصادر كل نشاط ثقافي وفني يصدر عن المغاربة. ولم يكن هذا شأن المسرح في وجدة وحدها، ولكنه كان شأن المسرح المغربي عامة، يقول الدكتور حسن المنيعي: ” لقد عرف المسرح المغربي ركودا عميقا بعد سنة 1940م، ذلك أن الحرب العالمية الثانية، والرقابة كانتا تعرقلان كل طفرة تصدر من الشباب، وبذلك فإن هذه الحالة قد تولدت عنها صعوبات كثيرة، جعلت أولئك الشبان يبتعدون عن كل نشاط أدبي”.
للأهمية والسياق يورد الباحث “مسرحية ” عروس القدس ” نموذجا. وهي مسرحية سياسية ذات اتجاه قومي تدعو إلى الوحدة العربية. من حيث البناء الدرامي نجد أن مدينة ” القدس” تحولت إلى امرأة، وصارت تنادي أبنائها الأبطال الواحد تلو الآخر، من أمثال؛ صلاح الدين الأيوبي، وعبد الكريم الخطابي، والأمير عبد القادر وغيرهم…أما من حيث الرسالة فهي دعوة مفتوحة بأسلوب حماسي صاعد وشاحذ للهمم نحو الوحدة التضامن في مواجهة المستعمر. ما أزعج سلطات الوصاية. التي لم تتردد في اتخاذ حزمة قرارات ذات طابع ترهيبي قمعي على الفور. قرارات قمعية زجرية شملت فريق المسرحية بالكامل. ولعل الذاكرة الثقافية في شرق المغرب حافلة بأساليب وهمجية المحتل. إذ كانت تقتحم فضاءات التدريب وتعرقل عمل الفنانين. كما أغلقت السلطات الفرنسية (مدرسة الترقي) وقامت بنفي المسؤولين عنها. أما الطلبة وتحت قساوة الضغط والقمع أجبروا على التشتت والفراق، فمنهم من غادر الدراسة نهائيا، ومنهم من التحق بمدرسة أخرى؛ لتظل المسرحية مشروعا فريا وثقافيا لم يكتمل.
وعلى صعيد آخر، وفي سياق تنويع أساليب مقاومة المغاربة للاستعمار الفرنسي على جميع الأصعدة، تم تأسيس مآت الخلايا التي كانت تتكون في الغالب من أربعة عناصر فدائية. هم أشخاص هبوا للدفاع عن الوطن والملك وفق أدوار محددة. يكلف أحدهم بالبحث عن السلاح، وآخر لنقله وفيما يكلف الثالث بتخزينه يقوم الرابع بتوزيعه على الخلايا بالمدينة. وكان التنسيق محكما بين العناصر الأربعة. وبالنظر إلى الاتصالات والتنسيق التي كانت قائمة ومتواصلة كافة المناضلين بوجدة، وباقي مناضلي وفدائي المناطق المغربية الأخرى على جميع المستويات، فقد كانت تصل إلى وجدة الأصداء الطيبة للبطولات وكافة أشكال المقاومة بما في ذلك المسرح كواجهة للنضال، في كل من فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش، وغيرها من المدن التي بدأ المسرح فيها يترسخ شيئا فشيئا.
في هذا الصدد يقول الدكتور حسن المنيعي: ” لقد عرف المسرح المغربي ركودا عميقا بعد سنة 1940م، ” بما في ذلك شرق المغرب ومدينة وجدة بالتحديد كما في باقي المدن المغربية “. ذلك أن النتائج الناجمة عن الحرب العالمية الثانية، وعنف الرقابة الذي تمارسه السلطات الفرنسية كانتا تعرقلان كل طفرة ثقافية أو فنية تصدر من الشباب، وبذلك فإن هذه الحالة قد تولدت عنها صعوبات كثيرة، جعلت أولئك الشبان يبتعدون عن كل نشاط أدبي”.
ويستغور الباحث في أسباب الركود الواضح في الحركة المسرحية الذي عرفته مدينة وجدة خلال بداية الأربعينيات، إلى حدود 1945م. إما بسبب الانشغال العام بالحرب العالمية الثانية، وما سيترتب عنها من نتائج أولا، وبما أسفرت عنه وثيقة المطالبة بالاستقلال من نتائج زعزعت المستعمر الذي راح يصادر كل نشاط ثقافي وفني يصدر عن المغاربة.
وفي السياق ذاته يورد الباحث أسباب انتعاش الحركة المسرحية بوجدة بداية الخمسينات، بفضل كثرة المدارس الحرة وتنافسها فيما بينها من جهة، وبينها وبين المدارس الرسمية من جهة أخرى، وكذا بفضل اتساع الحس الوطني وحرص المغاربة على الاستقلال الفعلي، مباشرة بعد تقديم عريضة الاستقلال، وانتهاء الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من تأسيس مؤسسات جديدة تحث على حقوق الشعوب وحريتها في تقرير مصيرها، “كمجلس الأمن” و”منظمات حقوق الإنسان “، وغيرها…
كما يبرز الباحث شطط المستعمر ووقوفه ضد كل نشاط وطني يسعى إلى فضح أساليبه القمعية. فبعد أن أمر بإغلاق “مدرسة الترقي” واعتقال بعض المسؤولين عن إدارتها، ما نتج عنه تشتيت طلبتها وتفريقهم قبل أن ينهوا المسرحية التي كانوا يتدربون عليها. ومن بين هؤلاء الطلبة يذكر الأستاذ محمد حرفي، الذي كان له الدور الكبير في تأسيس مسرح وطني هادف بمدينة وجدة. بحيث لم يتوقف نشاطه الوطني فمباشرة بعد مغادرته مدرسة الترقي، انضم إلى مدرسة ” القرآن الكريم “سنة 1949م، وعمل على تأسيس جمعية مسرحية نشيطة تابعة للمدرسة، وكانت الجمعية تقدم السكيتشات، ومسرحيات تعليمية ذات صبغة وطنية، في بعض المناسبات ولاسيما بمناسبة عيد العرش. ومن بين المسرحيات التي قدمتها مسرحية “على كوجيا” عام 1949م. هي مسرحية معدة عن إحدى حكايات ألف ليلة وليلة ذات بعد أخلاقي اجتماعي، وتدور أحداثها حول الخليفة هارون الرشيد الذي خرج متنكرا مع وزيره جعفر البرمكي، فوجد أطفالا يلعبون لعبة المحكمة. حيث يحكم القاضي في قضية شخص خان الأمانة بعد أن ترك عنده زميل له ذهبا، فسرقه وادعى أنه لم يترك له غير زيتون، بيد أن القاضي لما فتش الجرة وجد أن الزيتون حديث العهد، فتيقن أن المؤتمن خان الأمانة وبذلك حكم لصاحبها، وقد قام بدور القاضي في هذه المسرحية محمد حرفي نفسه.
على صعيد آخر، لا بد من الإشارة إلى الحضور المتميز للمرأة الشرقية ضمن الحراك المسرحي في مواجهة خطط الاستعمار. حيث قدمت الجمعية مسرحية وطنية هادفة بعنوان “المرأة التي تتحدث بالقرآن”. تميزت بمشاركة الممثلة فتيحة دندان إلى جانب الرائد محمد حرفي، وذلك بمناسبة عيد العرش لسنة 1951، وتحاول هذه المسرحية أن تسترجع بعضا من القيم العربية الإسلامية من منظور إسلامي خدمة للقضية الوطنية الأم، وكانت مثل هذه الأعمال الفنية تثير حماس المتفرجين وتحيي فيهم النخوة وتذكي الهمم، لهذا كان المستعمر غالبا ما يقابلها بالمصادرة والتعسف.
ويركز الباحث على سنة 1952 باعتبارها فترة هامة في تاريخ المسرح المغربي عامة وتاريخ المسرح في وجدة بوجه خاص، ففي هذه السنة يورد الدكتور زروقي تم تنظيم أول تدريب مسرحي علمي منظم بالمغرب. وكان يشرف عليه الفرنسيان: (أندري فوازان) André Bazin 1923 -1991)) أول مشرف على معهد الأبحاث المسرحية بالمغرب في سنة 1952، رفقة (بيار ريشي) Reishi Pyaar)) والمسرحي المغربي عبد الله شقرون. وكانت التداريب تقام في “مركز المعمورة” التابع لوزارة الشبيبة والرياضة، كما شكل هذا التدريب بداية عهد جديد في المسرح المغربي، إذ بدأت أفواج المسرحيين المغاربة تفد سنويا على هذا المركز لتتعلم مبادئ الإخراج والتشخيص والديكور، والإضاءة والموسيقى وكل لوازم العرض المسرحي. وقد تخرج منه كبار المسرحيين المعروفين في المغرب من أمثال: الطيب الصديقي وأحمد الطيب لعلج، وفاطمة الركراكي وعبد الصمد الكنفاوي، وعبد الرزاق حكم والعربي الدغمي، وغيرهم من المبدعين الذين انتقلوا إلى رحمة الله، أو الذين ما زالوا يغنون الساحة الوطنية بعطاءاتهم.
وللتأكيد على انخراط المغرب الشرقي في هذا الحراك المسرحي الوطني يورد الباحث اسم الفيزازي العياشي كأول فنان وجدي، استفاد من أول تدريب مسرحي أقيم “بالمعمورة” سنة 1952م. بحيث لم تكن المنطقة الشرقية من المغرب بمنأى عن كل هذه الأحداث الفنية، ففي سنة 1952 نفسها تكونت بمدينة سيدي بوبكر المنجمية، جمعية تحمل اسم “الحجرة السوداء” برئاسة الفنان الفيزازي العياشي، وتأطير المهندس الفرنسي (شليك) Schlick، الذي كان مسؤولا عن الجانب الفني والمسرحي خاصة “بشركة مفاحم زليجا”. وقد كانت هذه الجمعية تقدم عملا مسرحيا سنويا بمناسبة عيد المنجمين، الذي كان يقام في 4 دجنبر من كل سنة. أما خلال شهر رمضان فكانت الأنشطة مكثفة، ولاسيما السكيتشات والحفلات الغنائية. التي غالبا ما تفوح منها نفحات الوطنية والرغبة في التحرر والاستقلال.
جدير بالإشارة هنا إلى أن معظم هذه الأنشطة الثقافية والفنية والانخراط في عالم المقاومة بكافة الأساليب بالأوريانتال لم يذهب سدى. وبالتالي بات من المؤكد أن هذه التداريب الفنية بكفاءات مغربية وأجنبية قد أثرت بشكل كبير على المسرح بمدينة وجدة، أضف إلى ذلك الحماس الوطني المتصاعد الذي كان يعتري كل المغاربة وشدة حرصهم على التحرر والاستقلال، خصوصا بعد أحداث مدينة وجدة لسنة 1953 وما رافقها، من تحد وصمود واضحين تأكيدا لرغبة كافة المواطنين في الاستقلال.
وبالفعل يضيف الدكتور زروقي فقد كانت سنة 1955 بمثابة عهد جديد في تاريخ المغرب الحديث، ليس لأنها تؤرخ لعودة الملك الشرعي إلى عرشه، وهو ما يعني الاستقلال الفعلي فحسب. وإنما لاتساع قاعدة الاهتمام بكل ما هو فني في قالب وطني حماسي غير مسبوق. لذلك، فما أن سمع بعض الطلبة الوجديين الذين كانوا يدرسون بجامعة “القرويين” بفاس، بخبر عودة الملك حتى قرروا أن يحتفلوا مسرحيا بهذا الحدث السعيد. وعلى الفور أسسوا جمعية مسرحية أطلقوا عليها اسم “جمعية الطالب الوجدي الاستقلالي”، ولما كان الأستاذ محمد حرفي يتوفر على كتاب “الوعد الحق” لطه حسين، فقد أشار عليهم بأن يقوم بإعداده لتقديمه يوم 18 نونبر من سنة 1955، كي يكون العرض المسرحي أول هدية تقدمها الجمعية للجمهور الوجدي، بمناسبة أول عيد للعرش. وهكذا اجتمع هؤلاء الطلبة وبدأوا يتدربون على هذا العمل في فندق شعبي، عبارة عن إسطبل قرب سينما النصر، وقدموه بإشراف نقابة “الاتحاد المغربي للشغل”.
وبدا واضحا أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس. لم يكد يجف مداد الإعلان الرسمي عن استقلال المغرب، حتى بدأت الجمعيات تتوالد، وأصبح عدد روادها يتزايد يوما بعد يوم في كافة أرجاء الوطن. وبات التنافس في الإبداع على أشده بين الفرق في العروض المسرحية، وبما أن “جمعية النجاح” كانت تعد من أهم الجمعيات المسرحية التي برزت خلال هذه الفترة، فقد كان طبيعيا أن تسجل حضورها المتميز بمجموعة من الأعمال التي تعكس مواقفها الوطنية، وكانت مسرحية “في سبيل التاج” تعبيرا واضحا عن ذلك. وتلتها مسرحيات أخرى تسير في نفس الاتجاه، وإن كانت الجمعية تقدم من حين لآخر عروضا اجتماعية في قالب فكاهي استجابة لحاجة الجمهور – آنذاك – إلى نوع من المرح بعد سنوات القمع التي عاشوها تحت سيطرة المستعمر. ولما كانت الجمعية منضوية تحت لواء حزب الاستقلال، فقد كان المسؤولون عنها هم الذين يبرمجون العروض، ويهيؤون ظروف تقديمها خارج مدينة وجدة..
خلاصة: إن ترسيخ دعائم المسرح العربي في مدينة وجدة في مرحلة تاريخية حساسة يتضح جليا من خلال استعراض الباحث محطات مشرقة لنضال رواد الأوريانطال في الفن المسرحي، وتتبعه خطوات الحركة المسرحية من منظور تاريخي. وقد سعى قدر الإمكان إلى التركيز في هذا القسم من بحثه على إظهار الريبرتوار المسرحي لمدينة وجدة، في المقام الأول لأنه ظل مجهولا أمدا طويلا، ولم يدون بالكتابة أو بالتصوير، بل ولم يشر إليه ولو إشارة عابرة توحي بوجوده في هذه المدينة. أما الأمر الثاني، فيتعلق في منظور الباحث بغياب نصوص مسرحية تامة أو عروض مصورة، باستثناء بعض الفصول والمشاهد من مسرحيات لهذه الجمعية أو تلك.
جدير للإشارة، تأكيد الباحث عزيز زروقي أن هذا النضال المسرحي لم يقتصر فقط على مدن طنجة وفاس وتطوان ووجدة، بل شمل مختلف المدن المغربية، حتى أننا نجد مثلا في الدار البيضاء رشاد بوشعيب رئيس “جمعية التمثيل البيضاوية” في سنه 1942، وكان في أعماله يؤكد على العمل المسلح، ويعتمد على تحميس الجماهير من خلال أشكال الخطاب الموجه إليها، فنجد في إحدى مسرحياته يقول: -“الأزرق والأبيض والأحمر ماشي رايتك…رايتنا حمراء وفيها نجمة خضراء، أفيق من الكلبة راها راية النصارى هاديك…”.
وقد قدمت هذه الجمعية مسرحيات عديدة حتى تم توقيفها قبل الاستقلال، “كالأرض الطيبة “سنة 1943، وهي تحليل لواقع الاستغلال الممارس ضد الشعب المغربي، من طرف المستعمر الفرنسي، والممثل في شخص فلاح صغير تنتزع منه أرضه من قبل فلاح فرنسي، ومسرحية “دماء الشهداء ” سنة 1945، التي عرضت بعد تقديم وثيقة الاستقلال. وقد بادرت قوات المستعمر لتوقيف العرض قبل نهايته، واعتقال الممثلين وتشتيت المتفرجين. على صعيد آخر. يسجل الباحث حرص هؤلاء الرواد، ومحاولاتهم من خلال تجاربهم الأولى أن يستغلوا التاريخ تذكيرا للأمجاد الغابرة، وأن يستفيدوا من الصراعات الاجتماعية ليبثوا من خلالها أفكارهم وقيمهم الوطنية والإنسانية، إذ ربطوا الخشبة بوظيفتها التاريخية وجوهرها الحقيقي حيث (سيسوه)، و(ربطوه) بعجلة الحياة الثقافية الوطنية القومية، لضرب الإدارة الاستعمارية في صميم أهدافها الثقافية.
وأخير لا يسعنا كمهتمين ومتتبعين إلا أن نشاطر الباحث د زروقي قناعاته والخلاصات المفعمة بروح الغيرة الوطنية ضد المستعمر عموما والمنطقة الشرقية على نحو خاص . فلابد أن تكون التظاهرات الفنية والمسرحية عبارة عن إفرازات طبيعية لواقع شعب تواق إلى التحرر من ربقة الاستعمار. باعتبار أن كل حركة ناشئة، لابد وأن تلتفت أول أمرها إلى ظروفها الداخلية وأحوالها الاجتماعية، فكان من الطبيعي أن تتحرك كل الفرق المسرحية في خط واحد. ما دامت التجربة واحدة، وهي النضال في سبيل تحرير الوطن واستقلاله فكانت معادلة الصراع كالتالي:
مستعمَر ضد مستعمر بكسر الميم
مسلم ضد كافر ….
قومية عربية ضد قومية أجنبية
لغة عربية ضد لغة فرنسية/إسبانية

إعداد عزيز باكوش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *