في ماضي الزمن من عمر هذا العبد أتاحت لي مهنة الصحافة التواجد في أماكن غير متاحة لغيري، ومن ذلك حضوري جبهة القتال في الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988م) كمراسل صحفي يغطي وقائع ويوميات المعارك، وذلك من الجانب الإيراني بحكم الهجرة القسرية إلى إيران عبر سوريا، وما بقي في خزانة الذاكرة تغطيتي الإعلامية لمعارك تحرير شوش ودزفول من سيطرة القوات العراقية التي كانت قد احتلتها مع بدء الحرب في 22/9/1980م، ويومها انطلقت العمليات بنداء “يا زهراء” فجر الإثنين 22/3/1982م وانتهت بعد سبعة أيام مع نهاية يوم الأحد 28/3/1982م، وأطلقت عليها طهران عمليات “الفتح المبين”.
ومن الذكريات عن يوميات المعارك أن تواجدي في هذه المنطقة الحساسة الواقعة في محافظة خوزستان جنوب إيران سهَّل لي الإقامة لأيام في قلعة شوش التاريخية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، هذه القلعة التي تمثل قاعدة مملكة داريوش الأول الأخميني (522- 486 ق.م)، والسباحة في العيون الحارة المتدفقة من نهر كارون، وتحصنت عند النقطة صفر بين المعسكرين وزحفت نحو المواقع العراقية لالتقاط بقايات الصحف والمجلات العراقية، وكادت قذيفة عراقية أن تحصد سيارتنا ونحن نندفع بها على عجل، وأهم من ذلك زيارة مرقد النبي دانيال في مدينة شوش والصلاة فيه، ويومها كانت قبة المرقد الشريف قد تعرضت لقذيفة مدفعية أطلقتها القوات العراقية ضمن هجماتها المتكررة على المدن الآهلة بالسكان، فلم يسلم الإنسان الساكن في داره ولا الراقد في مثواه، في حرب شعواء عشواء أدار رحاها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بالنيابة عن الغرب والعرب أكلت الأخضر واليابس ولم يسلم نظامه من آثارها المدمرة وانتهى به الحال إلى حفرة يداري فيها سوأته وترك العراق لدبابات الإحتلال الأميركي!
طاف النبي دانيال المولود في بني إسرائيل سنة 1329 قبل الهجرة والمتوفى سنة 1259هـ، في سماء ذاكرتي المخرومة بفعل تعرجات الزمان والمكان، وأنا أتابع قراءة كتاب “المُرْسِل والرُّسُل والرِّسالة” للمحقق الأديب الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت حديثا (2024م) عن بيت العلم للنابهين في 320 صفحة من القطع الوزيري راجعه وعلق عليه العبد نضير الخزرجي وقرّظه الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شَبِّين، حيث جمع الكتاب بين قليل النثر وكثير الشعر مع تعليقات وشروحات مستفيضة، ولذا يمكن وصفه بديوان شعر وهو كذلك.
تسقُّط المجاهيل
عند ملاحظة عنوان الكتاب “الديوان” يدرك المرء محتواه، فالكتاب مقسم إلى خمسة أقسام، يتناول في القسم الأول تحت عنوان “المُرسِل” الباري جلَّ وعلا بوصفه المُرسِل للملائكة والأنبياء والرسل من أجل هداية البشر وبيان صالحهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، ويتناول في القسم الثاني تحت عنوان “الرُّسُل” الملائكة وأدوارهم في الكون والكرة الأرضية وعلاقتهم بالأنبياء والأوصياء والأئمة وعموم البشرية، ويتناول القسم الثالث تحت عنوان “المُرْسَل إليهم” دور الأنبياء والرسل الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم وفي السُّنَّة الشريفة في سَوْق البشرية إلى جادة الصواب، ويتناول القسم الرابع تحت عنوان “الصحف السماوية” الكتب والصحائف المقدسة التي نزلت على الأنبياء منذ أبينا آدم عليه السلام حتى خاتمهم النبي الأكرم محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، فيما يتناول القسم الخامس والأخير تحت عنوان “محطُّ الرُّسُل” الأشهر الإثني عشر وتسمية كل شهر وعلاقته بالنبوة والإمامة.
الكتاب الديوان بأقسامه الخمسة هو جزءٌ يسيرٌ من كلٍّ كثيرٍ من مجاهيل معرفية كان الفقيه الكرباسي يتسقَّطها ويبحث عنها منذ نعومة أظافره، وكما يخبرنا في المقدمة: (في مجمل حياتي كنت أسأل أولاً ثم أقرأ ثانياً ثم أستنبط ثالثاً لأجد الجواب على ما غاب عنِّي وهو بلا حدود ولا نهاية له: مَن المُرْسِلُ – بالكسر-، ومَن المُرْسَلُ –بالفتح-، ومَن المُرْسَلُ إليه، وما هو المُرْسَلُ له، أريد التعرُّف على كل هذا، إنَّه أمرُ صعب إن أردت معرفة الجذور، ولكن لا شيء يصعب على الإنسان، فلا استحالة على درك شيء أو فعل شيء إذا ما صمَّم الإنسان المُلَهم ذلك، وهو الذي فضَّله الباري جلَّ وعلا وقد جعل في قمَّتهم الخاتم وآله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام).
ولكسر مغاليق المعرفة منذ الصغر يضيف الكرباسي: (وبعد أن تمكنت من معرفة بعض المفردات عبر كتاب الله المُنزل وعلى مَن إليهم نزل، أرتأيت أن أذكر في نظمي المُرْسِل الذي هو الله جلَّ وعلا، والرُّسُل وهم الملائكة، والمُرْسَل إليهم وهم الأنبياء، والرسالة وهي الصُّحُف التي أنزلت عليه، مضافاً إلى الأشهر الإثني عشر).
هذه الأقسام الخمسة من الكتاب “الديوان” أمضاها الأديب الجزائري الدكتور عبد العزيز شَبِّين بقصيدة تقريظية من (24) بيتاً من بحر الخفيف تحت عنوان: “مُرْسَلٌ ثابتُ الفؤاد” جاء في مطلعها:
مُرْسِلُ الوحيِ من ذُرًى للسُّفوحِ *** هل أجابَ السؤالَ بَوْحُ الصُّروحِ
مُرْسَلٌ ثابتُ الفؤادِ إليه *** يتجلَّى بِبَيِّناتِ الوُضوحِ
وينهيها بالتالي:
أيها المُضْنى بالشُّروقِ إنعتاقاً *** إنَّك الأشقى بالغُروبِ النزوح
خطَّ كَرْباسَ في سطورِ صباحٍ *** لاحَ شمساً على الجبين الصَّبوحِ
أمواج البحور النابضة
فضَّل الأديب الكرباسي في (المُرسِل والرُّسُل والرِّسالة) أن يرتقي عن صعيد النثر بعض الشيء ويركب أمواج الشعر مع القوافي والبحور الخليلية والبحور الحديثة التي استولدها من الدوائر الخليلية، فضم الديوان بمجموعه (97) قصيدة توزعت على الأقسام الخمسة وعلى النحو التالي:
القسم الأول: المُرْسَل: ضم بعد تعريف (الله جلَّ جلاله) وبيان (معرفة الله) قصيدتين بالعنوانين: ربُّ الجلالة، والأسماء الحسنى.
القسم الثاني: الرُّسُل: ضمَّ بعد بيان حقيقة وكنه (الملائكة) عناوين (22) قصيدة على النحو التالي: إسرافيل والصور، بِريالُ والأرواح، ملك الوحي جبرائيل، حَمَلَةُ العرش، دردائيل والحسين، دَقْيائيل والعذاب، رضوان الرضوان، خادمُ الزهراء (روفائيل)، الزَّبانية، سطاطائيل، صلصائيل يُشفع، عزرائيل والأرواح، فطرسٌ عتيق الحسين، كرّوبيل الملك، ماروتُ ملاكٌ، خازن النار مالك، المُحدقون بقبر السِّبط، مُنكرٌ يحضر، ميكائيل الخير، الملك نكير، هاروتٌ قرينُ ماروت، وشيطانُ الجن.
القسم الثالث: المُرْسَلُ إليهم: ضمَّ بعد بيان حقيقة (الأنبياء والمرسلون) ودورهم في حياة البشرية وبخاصة دور الخاتَم محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، (51) قصيدة على النحو التالي: الفطرةُ والحِجى، أبُ الورى، هبةُ الله شيث، إدريس إرتفع، نجل إدريس، نوح والطوفان، هود بن شالخ، دانيال الأكبر، صالح الأنبياء، جدُّ الأنبياء، ينهى عن الفحشاء، ذبيح الله، إسحاق المُبتَسِم، يعقوب المكظوم، جمالُ يوسُف، شعيب الخطيب، نبيُّ مَدْيَن، أيوبُ الصابر، بِشْرُ المُبَشَّر، موسى لمن هادوا، هارون العضيد، حزقيل النبي، صادقُ الوعد، إبن نون، داود الملك والنبي، سليمان بين النبوة والمُلك، نجل سليمان، إلياس، خضر الخفي، أليسع خليفة إلياس، غضب ذي النون، حزقيل الرسول، دانيال شوش، إسماعيل الثالث، أرميا، شعيا النبي، ذو القرنين، كالب، يوسف الثاني، حيقوق النبي، عُزير عزيز، عزز وعزير، زكريا بن برخيا، لقمان الحكيم، يحي بن زكريا، عيسى المعجزة، جرجيس النبي، نبيُّ المجوس، حنظلة ذي الرس، خالد العبسي، في مصاف الأنبياء، وخاتَمُ الرُّسُل.
القسم الرابع: الصُّحُفُ السماوية: ضم بعد بيان حقيقة (الرسالة) ودور القرآن الكريم في هداية الناس لخير الدارين، تسعة قصائد على النحو التالي: صُحُفُ السماء، صُحُفُ آدم، صُحف شيث، صُحُفُ إدريس، صُحُفُ الخليل، توراة موسى، زبور داود، إنجيل عيسى، والقرآن المجيد.
القسم الخامس: محطُّ الرُّسُل: ضم بعد بيان (عدَّةُ الشهور) اثنتي عشرة قصيدة بعدد شهور السنة على النحو التالي: شهر الحسين (محرَّم)، شهر صفر الخير، شهرة الهجرة (ربيع الأول)، الربيع الثاني، جمادى الأولى، شهر الزهراء (جمادى الثانية)، شهرُ علي (رجب)، شهر الرسول الأعظم (شعبان)، شهر الله الفضيل (رمضان)، شوال الأشم، شهرة العُمرة (ذو القعدة)، وشهرُ الحجيج (ذو الحجة)، وتلك هي أشهر الله منذ أن خلق السماوات والأرض كما أثبت تعالى في قرآنه المجيد: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ التوبة: 36.
تجليات الاندكاك
كل شيء في هذا الكون معقود بناصية المعرفة، ومعرفة الإنسان لنفسه مقدمة على كل معرفة، ومن هنا جاء التأكيد النبوي الشريف: (مَن عرف نفسه عرف ربَّه)، وجاء التأكيد العلوي الشريف: (من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعِلم)، وبهذا المنظور نظم الكرباسي قائلاً من بحر الرجز من قصيدة تحت عنوان “ربُّ الجلالة” من القسم الأول:
الله ربِّي دون شكٍّ فاشهدوا *** بل ربُّ ما في ذي الدُّنى ذا يوجِدُ
ما لي إلهٌ غيرُه بلْ وحدَهُ *** معبودنا هذا فريدٌ يُحْمَدُ
ومن القسم الثاني وهو يتحدث عن “الملائكة”، قال من بحر السريع تحت عنوان: “رضوان الرضوان”:
رضوانُ مسؤولٌ عن الجنَّة *** تكريمُ مَن فيها على السُّنَّةِ
فضلٌ من الباري لِمَن مؤمنٌ *** فرضٌ عليه بل وعن مِنَّةِ
ومن القسم الثالث وهو يتحدث عن “الأنبياء والمرسلون”، قال من بحر المتدارك تحت عنوان: “أبُ الورى”:
آدمٌ ذا أبٌ للورى إنَّه مُرسَلُ *** حيثُ حوّاءُ تي أمُّنا وصفُها مُشكِلُ
ربُّنا خالقٌ للأُلى من ترابٍ وما *** ءٍ فكانا بِكُنْ أمرُهُ ذا يكن يُجْبَلُ
ومن القسم الرابع وهو يتحدث عن “الرسالة”، قال من بحر الهزج تحت عنوان: “صُحُفُ السماء”:
ألا قد أنزلَ الباري لنا ذِكْرا *** كما قد أرسلَ الرُّسُلَ الأُلى كرّا
بدا من آدمٍ أنهى بَمَنْ يُختَمْ *** بألواحٍ بدا من آدمٍ جهرا
وبالفرقان أنهى ربُّنا وحياً *** كتاباً للأُلى قد أعلنوا الصبرا
ومن القسم الخامس والأخير وهو يتحدث عن “عدة الشهور”، قال من بحر الرجز تحت عنوان: “شهر الحسين .. محرّم”، طارقاً باب النهضة الحسينية ومعرجاً على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في عاشوراء محرم 61 للهجرة:
شهرُ الحسين السبطِ ذا في كربلا *** قد قارع الطاغوتَ في دفعِ البلا
قد حرَّموا فيه الرّدى منذُ القِدَمْ *** قد خالفوا في عهدهم ربَّ العُلى
من هجرةٍ ذا أوَّلٌ من أشهرٍ *** للعُرْبِ تاريخٌ بدا فيه الجلا
وكعادته في محرراته الكثيرة، فإن المؤلف الكرباسي أنهى الكتاب بفهرس للأعلام والأسماءالواردة فيه، مع فهرس لـ (89) مصدراً رجع إليها المؤلف أو اعتمدها الخزرجي في تعليقاته وشروحاته، كما وأوكل مقدمة الناشر إلى الأديب اللبناني الشاعر عبد الحسن دهيني، فكان الكتاب تحفة أدبية تماهت بين ضفة النثر وساحل الشعر.
د. نضير الخزرجي
الرأي الآخر للدراسات- لندن