“ثــور و ثــورة” مـجـمـوعــة قصـصـيـة للـقـاصّ والـروائــي الـمغربــي سعـيد بـودبــوز. عنوان المجـموعة هــو عنـوان أيضاً لقـصة ضـمــن المجموعة، فـهـذا العنوان قد يســتفزّ كلّ قـــارئ لـفهم طبيعة العلاقة بين “ثـــور” و” ثـــورة”. بـيد أنّ هذا الفهم لا نلمسه إلا في الأنــفاس الأخيرة من هذه القصة على شكل صدمة لما تستـغــوره النـفــس البشرية من تعقـيدات قابعة في الأعــماق، عسيرة عن الــبوح. شخصية ” ثـــريـــا” التي صارت “ثــورة” عبر الحكي، والتي فضّلت العــنوسة عــن الزواج رغــم جمالها الآســر. لا أحد يستطيع “أن يتـسلّق كــبريـــاءَها”، لكــنَّ الساردَ حــطّم هذا الكــبرياءَ وجعل حباتِ الثُّـــــريــــــا تتـناثـر تبـاعاً في المـشهد الأخـيـر الذي بدت فيه “ثــــورة” أنـها لا تـعني “ثــائـــرة”، حيــث كـانـت تـشارك في المـظاهرات لإسـقاط النـظام، وإنـما تعني أنـهـا “أنــثـى الــثـور” !.
وإنّ الــثيمـةَ التي يمكن أن نخلص إليها تكمن في كون الإنسان مجرد حمّال للأقنعة، ويرتدي قناعـاً لـكل دور يتقـمّصه في الحياة، فـباتت معـه هـذه الأخـيرة غـامضة، يتعذّر معها كـشف الوجه الحقيقي للإنسان. المفارقــة الصارخة والساخرة في شخصية ثـــريـــا هي أنها ثـــريـــا في الــعلن وثــورة في الخلوة !.
وهكذا تكلّم سعيد بودبوز عن نفسه في فترة ما بين 1998 و2007 وهو يقتني الكتبَ بمختلف ألوانها وأطيافها وأحجامها، متسلّلا خـلسة من مدينة “امريرت”، القابعة وسط جبال الأطلس، نحو فضائها المجاور الساكن الهادئ، ليلتهم زاده بشراهة. كنتُ أتساءل، أكثر من مرة، عن سعيد بودبوز… عن الظاهرة.. وكنت أتحدث نيابة عنه… عن نصوصه وإبداعاته بين الأصدقاء وأفراد العائلة، في مناسبات عديدة، إلا أنّ علاماتِ عدم الاقتناع كانت تبدو على محياهم، أو في التعبير عنها بواسطة الابتسامة التي تنمّ عن السخرية مما أتفوّه به وأؤكّد صحته. لكنّ الكم الهائل من المقروء، في مدينة تكاد تختفي من خريطة البلد بسبب التهميش الذي أسدل عليها بظلاله، بدّد الوهم وأكّد حقيقة سعيد بودبوز، خاصة وأنه ينتمي إلى العائلة، وأعرفه معرفة عن قرب. أعني أنّ هذا المقروء قد أعطى ثماره المرجوة عندما سمح بولادة كاتب يكتب بطريقة جيّدة ويوظّف لغة تبعد الضجر والملل عن القارئ، وتفسح له فضاءً أرحبَ وأمتع، في استساغتها، لكونها لا تخلو من السخرية والفكاهة.
إنّ السحر الذي يشدّك إلى نصوصه، والافتتان الذي يسجنك بين ثنايا إبداعاته، لم يأتيا من فراغ، وإنما جاءا بعد مخاض عسير في مغازلة ومضاجعة أعمال الآخرين، خلال زمن الاعتكاف في هذه المدينة، حيث نجد “زينب سعيد” صاحبة “عرس أحمر لليقظة” و”إسماعيل غزالي” صاحب “رقصات الخلاء” و “رطانات ديك خلاسي “؛ وهما من أصدقاء سعيد بودبوز، وربما كان لهما تأثير عميق في إقباله على القراءة.
كنت شخصيا أزوره، من حين لآخر، في هذه المدينة التي تبعد عن مدينة “فاس” بـ 130 كلم. فكان لي شرف كبير وشعرت بإحساس قوي وهو يقدّم لي نسخة من عمله الروائي الأول “عبر شاشة الحتف” لأقرأه وأدلي برأيي فيه. لكن أثناء عودتي، وفي طريقي، انتابني شعور ينمّ عن الخوف؛ كلما ألقيت، من حين لآخر، نظرة على هذه الرواية من الحجم الذي يتطلب النفس الطويل، فقلت في نفسي: ” إنه شرف، ولكنه مسؤوليةً أيضاً”.
ثم أضفت: “ماذا لو كانت قراءتي خاطئة، وقلت أشياءَ لم تكن في ذهن الكاتب لحظة الكتابة؟”ً. إنّ الكتابة مغامرة، لكنّ القراءة مغامرة ملغومة تفرض علينا أن نبحث عن مسالك توصلنا إلى برّ الأمان حتى لا نكون مجحفين. بعدما تناولت هذا العمل الروائي، أدركت أنّ صاحبه يملك من الموهبة ما يجعل منه كاتباً. فكانت هذه الرواية بمثابة الشرارة الأولى التي مهّدت الطريق نحو الانطلاقة الفعلية لولوج عالم الكتابة.
لم تكن تنبؤاتي مخيبة، بل أصابت الهدف، ونحن نشاهد، عبر مواقع إلكترونية افتراضية وأخرى ورقية، وابلاً من إسهامات سعيد بودبوز في الأدب والفكر والنقد والتاريخ، وكان ذلك شهادة على قدومه. أصبحتُ أيضا من المعجبين بقراءة دراساته النقدية، خاصة مقاربته السيكولوجية الموسومة بـ “صحراء في الطابق الأخير بين السرد النمطي والسرد الباطني” للمبدع المغربي أنيس الرافعي. كما أعجبت بأركيولوجيا سعيد بودبوز في حفره الجيولوجي، على طريقة فوكو، في استكشاف حقب تاريخية عن حقيقة ” الأمازيغ” وعن إمكان تواجدهم في القدم. كما أنه يملك من رهافة الحس ما يخول له دخول دنيا الشعراء من بابه الواسع.
علي أفقير