كتابة سعيد بودبوز مرتبطة بمقولة ليست عرضية وليست مجانية، يأتي إحساس قارئها بها من كونها حياتية فاعلة ودامغة، وهو أي سعيد بودبوز بما يظهر من شخصه في إنتاجه يدل على نزقه، ومغايرته، ومحاولته المستميتة في الإتيان بنص غير مكرور، وغير منتهك، وهو بذلك يخلص جملته وفعله من البلادة، ويكسب بدوره متلقياً من نوع آخر، متلقياً فاعلاً دينامياً، متشاكل، متهم (بضم الميم وكسر الهاء)، وكأنّ شخص هذا المتلقي يوافي ما لديه من المحاججة والمماحكة. لست بصدد الحديث عن سعيد المنتج في الحياة، وبالتالي الخوض في ماهو سيكولوجي وشخصاني، بل عنيت في دخولي هذا تفتيح ما يمكن تفتيحه في روم الإنسان لما هو مخاتل ومختفي، خاصة إذا كان الإنسان هنا عاقلاً للغاية وحكيماً، على الأقل الحكمة التي تقتضيها الكتابة من كونها فعلاً ظاهراتياً يتعدى حدود التواصل والمجاملة، وماشابه من أفعال الممارسة اليومية الضيقة، إلى ماهو ميتافيزيقي رحب بعدم انغلاقاته أمام الهاجس والرؤية والعالم بعلاقته العميقة مع تاريخ الحرف، من هنا تتولّد الغائية وراء سرد يخص كتابة لهذا الرجل بأنها لابد وتفضي إلى كسب لن يقرأ بوقته فقط ضمن التطريب والمناسباتي، بل سيقرأ على أنه وثيقة صالحة لأكثر من زمن، لمهنيتها، لصدقيتها، لمكاشفتها، لبكريتها وفضّها لبكارة أمكنة مجهولة، كانت أسباب عديدة تجعلها بتولاً لزمن طويل.
“هم الآن يكنسون الرذاذ” للشاعر المغربي يونس بن ماجن، يداوره سعيد بودبوز بعنوان “بين ضفة السراء وضفة الضراء- مقاربة سيميائية”، سيتعرف قارئ الكتاب أي جهد يمكن له أن يأخذه هكذا عنوان، إذا عرفنا أساساً الالتجاء إلى المنهجة، ومن ثم تأكدَّ لنا فراق هذا المنهج للساكن والسهل، وإذا عرفنا أنّ روح سعيد بودبوز الحاضرة وبقوة وفعالية منقطعة النظير، مجادلة، مناقشة، ومثالبة، عرفنا بشكل حسن أنّ هذا الكتاب من أهميته سيشكل مرجعاً مهنياً سيستفيد منه المختص، وسيستفيد منه ذلك الذي يطمح بمعرفة أكثر بمفهوم “السيمياء”، والذي مازال يتهيّبه الكثير لكثرة الشطط ولكثرة روغان سهم المطلق، بحيث أنّ السهم يستقرّ بعيداً عن الدريئة، وكم من الضربات الطائشة، أحسب أنّ سهم سعيد بودبوز لم يطش.
بالنسبة إلي كقارئ جيّد، إذا سنح لي أن أسمّي نفسي، سأثبت ماجاء في نهاية الفصل الثاني من الكتاب؛ “البحر يسأله الذين لاحول ولاحظ ولاقوة لهم: هل امتلأت؟” فيقول:هل من مزيد؟”. نعم، هل من مزيد أيها الكاتب؟.
مهما قلت في سعيد بودبوز أيها الإنسان القارئ، فأنت غير مجانب للحقيقة، ذلك أن كتابته نزقه، وطبعه نزق في تناول مادته، وهذا ما يعطيه قدرا كبيرا من المخالفة، بهذا المعنى قاربت كتابه الذي شرفت به كمخطوط. وقلت ربما أني تحت سطوة صداقته مررت بعض الحب مجانبا الموضوعية، إلا أني، بعد أن قرأت ورقة الدكتور الناقد جميل حمداوي الحرفي في هذا الشأن، تنفست براحة، لأقول ها أنّ قارئا آخر مسؤولاً حمل للكتاب وصاحبه ما حملت.
بقلم: الشاعر والناقد السوري محمد المطرود