قبل سنين معدودات، كانت الرؤية متاحة لمقلتي كلتيهما.. بالتمام والكمال.. كنت أرى الأشياء والذوات الجميلة بمتعة لا توصف، وغيرها مما لا يليق بنظرة تَعَفُّفٍ وإعراض.
أُحَدِّقُ في الموجودات ملء الجفون من حولي، مرة بعين الرضى والقبول فتنشرح النفس أيما انشراح، ومرة بعين السخط والمقت فيستبد بي ضيق لا يُضَاهَى.
كل ذلك كنت أراه كما يراه الناس أو أكثر وأشعر به كما يشعرون أو يزيد.
وعلى حين غِرَّةٍ، تَغَيَّرَ كل شيء، وإذا العين القريحة تعبث بها أعاصيرالزمن الصارم.. وإذا الإبصار شبح يقض مضاجعي، فتقلصت الرؤية عما كانت عليه من قبل، وانحسرت أمامي المنظورات إلى حد بعيد إلا لِمَامًا.
تُدَاهِمُنِي النفس الأمارة بالحسنى بين حين وآخر مسدية النصيحة : ” إن كان من سوء حظك، لا قدر الله، أن يطالك الخذلان وقطع الرجاء من العين المكلومة، فَادْعُ ربك أن يتعهد بالحفظ والصون توأمتها السليمة ما دمت حيًا.”
قال لي الطبيب بعد أن أعيته الحيلة وقد ارتسمت على جبينه أسارير يأس مرير :
– إنه وحش كاسر مع الأسف..!!
– من تعني سيدي؟
– ضغط العين الحاد…! لقد دمر كل أعصاب العين اليمنى لديك.
مسدت عيني بلا شعور واستبدت بي رعدة قوية وأحسست بوجع ممض يمزق أحشائي فلم أنبس ببنت شفة.
أحس الطبيب باضطرابي، وقال بالرغم من ذلك :
– لا يزال هناك في العين قبس من نور.. لكن مما يدعو للأسف مرة أخرى أنه سيبدأ في التلاشي شيئًا فشيئًا لينتهي بعد حين إلى خفوت تام.
– وما العمل سيدي..؟
تطلع الطبيب الي مليا ثم رَبَّتَ على كتفي وقال مُطَمْئِنًا ومهدئًا من روعي :
– لا عليك يا رجل.. من اللازم فقط أن تتعهد عينك السليمة بالرعاية والمراقبة الطبية الدقيقة دون أن تغفل عن ذلك لحظة واحدة.. إنها الوحيدة المتبقية لك..
لكن بالرغم من نتائج الفحوص الطبية والإفادات القطعية في الموضوع، ورغبة في التعلق ببصيص من بقايا أمل مفقود، اندفعت بسذاجة لأخوض غمار البحث والمساءلة.. في كل الأمكنة والأزمنة.. علني أجد بلسما لجرحي العميق فيتوقف الخفوت.
اندفعت أطرق أبواب العشابين والعطارين وكل من كان له باع طويل في الطب البديل إلى أن هتف بي هاتف – ذات صبيحة في يوم كئيب، استفقت على اتره من كوابيس مزعجة – ليضع في نهاية المطاف حدًا لاندفاعاتي وترهاتي :
(( كفى تهورًا يا رجل..! ما عاد بمقدور العين القريحة أن ترى…!! )).
صالح اهضير / المغرب