لم يكن في وُسعي أن أختار أحلامي، ولكنّني لست أحمق، لأقول بأنّني أخطأت الطريق. كل طرقاتي اخترتها عن قناعة وطواعية، وكنت جديرًا بما قاسيته من مصاعب ومتاعب في مهنة التدريس. أضحى جسدي مُثقلا بالذّكريات، وأعترف اليوم أنّني تعبتُ من السّفر. الرّحلة لم تكن سهلة، وزاد من تعبها تمديد التقاعد إلى ثلاث سنوات. لم أكتفي بالتدريس، انخرطت مُبكّرًا في العمل النقابي والسياسي والصحافي. حاولت كذلك، أن أترجم المؤثرات الإدراكية والانفعالية في الحياة من حولي إلى أعمال إبداعية في الشعر والسّرد، وألفت كتبا ودواوين شعرية ومجاميع قصصية.
اليوم، وقد وصلت إلى محطة التقاعد سالمَ البدَن، أعيش الحاضر كما هو، لا كما كان ينبغي له أن يكون. ولم أعد مَعنيًّا بثقل الذكريات، ولا بالأحزان القديمة، تعوّدت على احتمال كل شيء. ومع ذلك، يبقى الاعتراف “سيّدُ البَيِّنات”، إذ لا شيء أصعب من قول الحقيقة، كما يقول تولستوي، وما دام مفهوم الحقيقة غير قابل للتّفسير، فالماضي يقول أنّني عشت الكثير من الصعوبات والقساوة في مسار شاقّ وطويل، قساوة صعود الجبال وهبوطها بالأطلس الصغير في براري تارودانت وأريافها، سلسة جبلية باردة جدًّا في فصلي الشتاء والخريف، حارة جدًّا وميّالة إلى أجواء الصحراء ربيعًا وصيفًا. لم تكن هناك سِمَات في المنطقة توحي بأن فصل الربيع موجود حولنا، سقط الربيع بالتّعَوُّد من قاموسنا اللغوي، ولم نعُد نذكره في أحاديث مَجالسنا، كدنا ننساه، لولا أنّ بياض نوار اللّوز كان يذكّرنا به مُنتصف كل سنة.
قطعت على قدميّ غابات الرّيف وطرقاته الوَعرة، ومشيت مُنكمشا من قسوة البرد في جبال يعلوها الثلج في منطقة “إِفرْنِي” وجبال تمسَمان غرب الناظور، ولم تسلم شعاب تيسّة وهضاب “الحيانة” الموحلة في شتاء تاونات وربيعها من قدميَّ الحافيتين. ومع ذلك، لم أكره تلك الأماكن، فقد تآلفت مع فضاءاتها الجميلة وأناسها الطيّبين، وازداد حُبّي لها ولسكانها الظرفاء، وازداد تعلقي بها، رغم بُعدي عنها إلى اليوم. “لا أحدَ ينجو من الحياة”، كما تذكّرنا سارة كين في إحدى مقولاتها، والحياة لا تغدو أن تكون قصة قصيرة، تبدأ فصولها بالوُصول إلى سنّ التقاعد، وتكتمل بحياة أخرى جديدة، فمرحبًا بها.
كان ولوجي إلى العمل في التدريس اختياريا، بالقدر الذي كان فيه تقاعدي حتميا. مارست العمل في القسم، ونسيتُ أثناء البدايات أن التقاعد في انتظاري، وأنّ الموت يُطاردني في أيّ مُنعرج، من الأمام والخلف. كنت أدرك أن لا أحد يفلتني من مخالب الموت سوى أن أعيش الحياة نفسها، إن عشت فيها وأبدَعت، وإلا سيكون مصيري الموت البطيء، كما الكثيرين الذين نجوا قبلي من الموت بأعجوبة، لأنه لن يكون للحياة أيّ معنى، إن لم يكن فيها ما يُغري بالبقاء، وما يكفي من الأشياء الجميلة، نعيش ونُضحّي من أجلها. ربما كان وصولي إلى مرحلة المعاش، آخر معاركي في مجال التدريس، مهنة المتاعب الحقيقية بامتياز، وليست الصحافة بفروعها، كما يدّعي البعض، أو حتى كما هو متعارف عليه. التدريس مهنة تبيح لك أن تفهم كل شيء بشكل جيّد وتدريجي، بما تحمله كل الأشياء ونقيضها من سلبيات وإيجابيات. مهنة تعلمك متى تتكلم، ومتى تلزم حكمة الصّمت، وتتصرّف باقتصاد وتكتّم شديدين، تتعلم متى تختلط بالناس، ومتى يلزمك أن تكون وحيدا مُنفردًا.
وأنا مدرس، مارست المهنتين معًا، وعملت في كثير من المنابر الإعلامية العربية والمغربية مراسلا صحفيا، ضمن سياق زمني نضالي ينتمي في مجمله العام إلى عالم الصحافة، كما مارست مهنة التعليم مُدرّسًا بالقسم، وأعرف المتاعب في المجالين معا، فلا داعي للمقارنة أو الغرابة. وقد حان الوقت، كي أبدأ معارك أخرى من أجل الاستمتاع بالحياة بشكلها الأفضل والمختلف، أعيش ما لم أعشه، وأرى ما لم أره أثناء انشغالي بمهنة التدريس.
الحقيقة أنني لم أكن في السنوات الأخيرة، كما غيري من الأساتذة والأستاذات، كنت أعيش حلاوة أيامي، كما ينبغي لها أن تكون في الأصل. وكم كنت وحدي منعزلا، أتفادى الأسوأ في كثير من الحالات، كي تسلم الجرّة، وأنا على مشارف النهايات في المهنة، كنت أجعل من نفسي مدرّسًا يعيش في حُجرة الدرس مع الأطفال، وهي أكبر وسيلة للانفلات من الضغط الرّهيب، ضغط الآباء والأمهات، الشارع والمجتمع، الوزارة والإدارة مع إصدارها كل شهر وكل أسبوع مذكرات آنية ومُستقبلية، ضغط أثناء مسيرات التنسيقية الوطنية من حاملي الشهادات العليا لموظفي وزارة التربية الوطنية: أستاذ حاصل على شهادة الماستر، وحامل لدرجة دكتوراه، ثم ماذا بعد؟ ولكن لم تشفع لي أيّ من الشّهادتين. حمدت الله أن تواجدي في القسم، قبل التقاعد بقليل، كان شفاء للرّوح والجسد، والرّوح “تُشفى من خلال التواجد مع الأطفال”، كما يقول فيودور دوستويفسكي. وكنت أيضا أحمل صفة أديب أو هكذا كانوا يدعون، والأدباء لا يكبرون ولا يموتون، يئنّون في صمت من وجع الولادات، ويحنّون إلى الملذات الأولى، ولذلك تطول أعمارهم، وتنضاف سنوات أخرى إلى حيواتهم، وبالتالي يزدادون صغرا وتشبيبا وأفكارا. ويكون وصولهم إلى سنّ المعاش ليس نهاية المطاف، كما يعتقد الكثيرون، إنما هو بداية مسار آخر. الحياة عام يذهب وآخر يأتي، والتقاعد انقضاء نصف عُمْر، وبداية نصف آخر من العُمْر. صحيح أننا لم نحقق أحلامنا الكبرى، ولكن آن الأوان لنحقق بعضًا من أحلامنا الصغرى على الأقلّ، نعيش حياة أخرى بشكل مختلف، لو في العُمر بقيّة.
التقاعد عند المبدع هو ولوج إلى النصف الآخر المتبقي من الحياة، ليملأ رئتيه بما بقي في الكأس الفارغ من أكسجين وهواء رطب، وبأشكال أخرى مختلفة عمّا هو مألوف: الاستمتاع بالحرية، الاستقرار النفسي والجسدي، التحرّر من مسؤولية التدريس، وهي مسؤولية ثقيلة، لا يشعر بثقلها إلا من جرّبها مُمارسا في القسم. كل عام كنت أتحمل مسؤولية جديدة في عنقي لأكثر من ثلاثين تلميذا وتلميذة. التقاعد مرحلة جديدة من العمر، تكون صافية من تعسّف الرّوتين اليومي: وسائل النقل، تعسّف سائقي سيارات الأجرة، قانون الإدارة الواجب احترامه…إلخ. اليوم، وقد أصبحت متقاعدا مستقلا، بإمكاني أن أكتب، أشرع في تحقيق مشاريعي الأدبية المؤجلة، أقوم بسفريات سياحية، لم أكن أجد الوقت الكافي للقيام بها. صحيح أنني وصلت اليوم إلى مرحلة المعاش، وقد تجاوزت الستين من عمري، ولكن أحمد الله أن بدأت النصف الآخر من العمر سالما.
وتبقى المفازة العظمى في الحياة المهنية، وهي المحطة التي ينتظرها كل أستاذ وأستاذة مارس التدريس في القسم، أن يحتفى به، ويشعر بالصدق في عيون إخوانه وأخواته المحتفيين به، بدون رياء أو نفاق ومجاملة. وهذا ما حصل معي في نهاية الخدمة، لأنني كنت حريصا طيلة مساري المهني على أن أحترم نفسي، وهذا أجبر الآخرين على احترامي، وفي الأخير أسعدني، وأحسست به في حفل ختام آخر سنة دراسية. كلنا نعرف أنه لا أحد يستمر في الحياة، ومتأكدون أن كل ما فيها إلى زوال، ولا شيء يعلو في النهاية سوى الصمت. ولكن لا عجب، شهيّة الصراع من أجل البقاء، تنسي الناس أحيانا طبيعة نهاياتهم. في بعض الأوقات، تكون كثير من الأشياء في علم الغيب، لا يدري الإنسان بأي أرض يولد، ولا في أيّ بقعة ستنتهي دورة الحياة، كما لا يدري بأي أرض سيكمل مهمته، ولا أين سيتم تكريمه أو دفنه. وها أنا اليوم، وبعد مسيرة مهنية طويلة، تجاوزت الأربعين سنة مدرسا بالقسم، بدأت من تارودانت، المدينة التي عشقت لون النّحاس المطلي على أسوارها وحيطان قصورها التاريخية، وبساطة الناس وحيويتهم، وثرثرتهم وهم يتجوّلون في الأزقة الضيقة والحارات، وهم مجتمعون حول برّاد شاي في ساحاتها وأريافها.
لم تكن خبرة الأيام التي اكتسبناها في يوم من الأيام هبة من السماء، ولكن جاءت نتيجة تضحيات وتجارب قاسية. ولم أكن أدري أن مسيرتي المهنية ستنهي بمدينة فاس، وبها سيتم تكريمي، تكريما يليق بما قدمته من تضحيات طيلة مساري المهني، استمر لأكثر من أربعة عقود من الجُهد والبذل والعطاء، والعمل الجاد مع أبناء الوطن داخل الفصل وخارجه، مع احتساب رسوم زائدة فرضتها ظروف معينة، عملت فيها بالعمل الجَمعي مناضلا ومتطوعا من أجل الثقافة وخدمة الشباب المغربي في الجمعيات، وكانت كلها تضحيات جسام. تنقلت بين كثير من مناطق المغرب: تارودانت، الناظور، تاونات ومكناس، قبل أن أحل ضيفا، ثم مقيما دائما في مدينة فاس.
تم تكريمي في عدة محطات، كاتبا ومؤلفا وشاعرا وناشطا جمعويا، ولكن يبقى حفل تكريمي بمدرسة 20 غشت نهاية يونيو 2024 له نكهة وطعم خاصين، شكرًا للأستاذ ادريس السّدراتي مدير المؤسسة التي اشتغلت بها، وختمت فيها حياتي المهنية كمدرّس، شكرا لأخواني وأخواتي أطر هيئة التدريس من أساتذة وأستاذات، ألقى بعضهم في شخصي المتواضع بكل عفوية كلمات وشهادات صادقة ومؤثرة، استحضروا من خلالها قاسمنا المشترك، وبعض الذكريات الجميلة، الأكسجين والكيمياء وبعض اللحظات التي تقاسمناها معا بصدق ومحبة طيلة العمل بالمؤسسة.
أخيرا وليس آخرا، يبقى الفصل الأخير والأجمل في الحكاية، هو أن تقفل الباب ورائك، أستاذا له كفاف من العيش قد رضيَ به، عفيف النّفس، مُرتاح البال. وآنَ لي اليوم أن أتغلغل في أعماق النفس، وأستحضر كل الذكريات مُجتمعة، وأنا مرتاح الضمير، وقد أدّيت مُهمتي على أحسن وجه، لا أملك من “وسخ الدنيا” إلا كرامتي وعزّة النفس…!!
إدريس الواغيش
هنيئا لك عزيزي.مسار حافل بالجد والعطاء والخلق الابداعي الجميل ،توج بتقاعد مستحق… قرأت هذا الفيض الدافق صدقا للاهتمام بالغ وتركيز بليييييغ. بداية حياة جديدة موفقة عزيزي
تجربة غنية خضتها الأستاذ سي إدريس بروح ثواقة إلى العمل والتفاني في البناء ، قدر المستطاع: بناء الإنسان ، بناء الوطن في هامشه.
لكم التحية الصادقة والتقدير سي إدريس وأطال الله العمر في الإبداع وحب الحياة.