مهداة
“لمن تركت ظلها في ظلي احتراقا”
هذا منتج لغوي، لا أدبي ولا علمي، لا إنشائي ولا إخباري؛ قد يكون يوما ما وهما من أوهامي، أو قد يكون يوما ما واقعيا، رصفته الأحزان في طريق عابر سبيل إلى الوجود، في عالم غمرته أمواج العدم بحدثية أليمة مؤلمة، تسند سنمها على جسد الأسماء المطرزة فوق قماش جماليات اللوحات التعبيرية، في معارض العرب وكتبهم القديمة ومعلقاتهم المعشوقة، لسحر شعرها المنسدل على خمائل التاريخ المزخرف بماء الذهب، المعلق على أستار الكعبة تحت حراسة كهنة معبد شعر لغة الضاد والليالي الحمراء. مرة تغمره باسم الحب، ومرة أخرى باسم العشق، وثالثة باسم العادة، ورابعة باسم فصيلة الدم والانتماء القبلي العشائري، وأخرى باسم أمثال شعبية راقدة في خطوط رمال صحراء عربية جميلة، رائعة اللون والشكل، حباتها تراقص رياح السراب في أخاديد سيول الأطلال؛ تكبل برقة حنانها القلوب والإحساس، والمشاعر والعيون، بفخامة المعنى وظلاله في وحات الجمل ورياحين نخيل الكلمات … ومرة أخرى باسم نقط الحذف من معاجم وقواميس المجهول، على غرار أساطير الإغريق، وطلاسم السحرة وحراس النار في معابد الشمس.
كلما تذكرتها حروف الأحراز، والأماكن، والأزمنة، والأوراق، وسقاها مداد الكتابة بالتنقيط والنقاط، كلما عمق الحزن، واشتد الألم، وكبر الكرب، وعظم الغم والكدر؛ وانمحى الأثر عن خطوات أقدامه، وهو يطارد كل الأحدية في الدولاب، لعله يجد بصمة جين حبيبة فقدت الإحساس، وطمرت ملامحها في أشلاء مخيلته، على أوراق مفكرته، المخفية في ثنايا ذاكرته، تركت منذ زمن جمجمته إلى حين يعيدها الحلم على شريط هجره الضوء والأحداث والأشخاص، ونسيه القدر من إتمام تحديد الاتجاه والنهاية والمصير. هنا؛ وبعد مسح الغبار عن وجه لوحته التي راحت تراود خياله من جديد، تذكر أنها ملامح عشيقته ذات يوم، تلك التي فقدت الكثير من همسات حبيبها حين أوقف الأنس عجلات سيرها أمام علامة قف، وانحدرت الخطوات إلى الجرف تجر بقايا الذكريات. فهي التي غادرت رصيف حياته أكثر من عقدين ونيف، تاركة طيفا منها وقارورة عطر أمام مرآة وأحمر الشفاه، ومفاتيح منزلها على مائدة عشاء لم يكتمل بعد، وصحن حساء بارد برود مشاعرها، لم يشرب بعد. كل ذلك لم يقرأه، وما كان ليقرأه وشغاف فؤاده تبيت بين نبضات قلبها، ووجنتاه ترتاح بين ذراعيها غارقتان في الماس وأمتع الإحساس؛ ما كان ذلك ليخطر على باله، وهو يتأمل مستقبله حين كان يافعا، ويخطط لأيام عبقها طيب فساتينها، ونظرات عيونها، ورشاقة جسمها، وحسن منظرها، وخفة حركاتها …
لم يخطر بخلده أبدا أن للعشق تاريخا لانتهاء الصلاحية في عالم سمي مجازا حبا، عالم العرب البؤساء، كبطاقة تعريفه أو جواز سفره أو بطاقة سيارته الرمادية المتهالكة، أو ككل الوثائق التي تصدر عن حكومة بلاده! تلك التي تبحث عن موارد مالية في جيوب المساكين والدراويش والفقراء، من ترافقهم حاويات القمامة في المعيش والمسير والمصير، وتخدمهم مخلفات سياسة الغنى، والغناء، والغباء، والهدم والحفر والردم … سياسة سجلات المخفر والمحاكم والسجن والحراس والعسس وركوب أمواج الفرص في بحور البكاء … هكذا رأى تساوق الأحداث والأشياء في حياته وفق سياق مجتمعه. فقد وجدته لا يفكر كثيرا في التفاصيل، لأنه واع بثقافة مجتمعه ومحصلة نتائجها عليه. فلا بأس أن يتوقف المسير في نصف الطريق، وربما في أوله أو يستمر إلى النهاية كما هو! فكل شيء وارد بمنطق ” سير على الله ” … لا تفكير، ولا تخطيط، ولا قراءة ماض، ولا حاضر، ولا استشراف مستقبل. ألفيته اليوم هكذا يتذكر ملامحها، ويسترجع شريط الحياة.
ها هي تراوده عن المسير في شوارع حياته رفيقة درب اعتادت عليه، واستأنس بها في كل الأمكنة والأزمنة. لكني رأيته هذه المرة على غير عادته، ترك كل شيء وأفرع شوارعه من كل المارة، يمشي شاحب الجسد، ثقيل المشية، مطأطئ الرأس، لا أدري، أهو المرض أنهكه أو الحزن تملكه، أم سفن ماضيه طفت على مياه حاضره ألما؟ لست أدري سوى أنه وقف أمام لوحة إشهارية أشرقت بابتسامة شابة رفعت مشروبا غازيا لم أتبين ما نوعه، لأني كنت سارق نظر إليه على الرصيف المقابل، لكي لا يتعرف إلي، فيعود أدراجه منطويا على نفسه كما عهدته في عقوده الأخيرة. ثم ابتسم، وانطلق ثانيا يتأمل كل الوجوه التي أزاحها عن طريقه؛ ههنا … وهنا … وهناك … حينها كنا نعيش نشوة … ما عدت أتذكر التفاصيل، وإنما هي شذرات ماض مضى وراح إلى حال سبيله، تاركا خربشات على ومضات قلبي وعقلي وجوارحي، بدأ قاسيا، واستمر قاسيا، وسينتهي قاسيا كما أتوقع. فطالما امتعض مني الكثيرون لأني صرت متشائما وسلبي التفكير! وما دروا بالمقدمات ونتائجها، ولا بمنطق الأقدار وحملها الثقيل الشديد على الاحتمال حين تخونك تفاصيلها وتهجم عليك أحداثها وشرها وشرارها، وتنهش جسمك الحيتان إلى آخر عظم قابل للكسر والهضم. هكذا هتف في خلدي ظله، وهو يقطع إلى الضفة الأخرى من شارع حياته. فتعجبت بعلامة استفهام؛ لماذا هتف بخلدي طيفه؟ حينها، فهم عني قائلا:
ـ أنت تراقبني كظلي، وما أنا ظلك، وإن كنت أتحمل رؤاك؛ فلا إحراج أن أكون ظلا لك.
*لما أكون ظلا يرافق خطاك؟ فأنا لست أنت، وأنت لست أنا؛ فلما الإحراج وأنا ألقاك؟
ـ سبحان الله، رأيتك تخطو خطاي وأنا أخطو خطاك، وتقول: أننا لسنا اثنين في واحد، والثالث مسافر فحسب!
*كلانا لا يشبه الواحد منا الآخر، فلما الإصرار؟
ـ لأني عزيزي؛ أنأ ظل من ظلك، أحكي ما لك، وليس ما لي؛ فأنت مني روحا من أرواحي، تملك قدرا من أقداري، ولست تدري أنك رديف حياة من حيواتي. فما وقع لي واقع لك حتما، بصيغة من صيغ الوجود والحضور في الحدث والزمن والمكان ومؤثثاته القدرية. هكذا؛ حكت كل الكتب والروايات والتفاسير، أن الأقدار للأحياء لا للأموات.
فعودة السرد من الروايات والدفاتر إنما للخبر لا للإنشاء، وإن كان لابد من الإنشاء؛ فهو كالخبر. قد يكون واقعا لا خيالا، أو خيالا لا واقعا، مليئا بالناس والسير والمسير والقتال والحشر. فكن ظلا من ظلي حتى تفهم عني. فما رأيك أنت؟
*من أنا؟
ـ أنت شبيهي ونظير مني، قد يكون قدرك كقدري. ومادام أنك عرفت سري، ومنبع ألمي. فحبيبتي إذن من تكون؟
*لا أدري …
ـ بلى، تعرف،
فحبيبتي حبيبتك،
زهرة من أزهار بلادي،
وردة من باقة ورودي،
تزينت بكل الألوان،
ومساحيق العالم،
تطيبت بكل الرياحين والعطور،
تطهرت من كل العيوب،
من أجل حبنا سكنت كل القلوب،
استوطنت كل القوافي والأشعار،
كل الأزمنة والأمكنة،
التاريخ والمداد،
ما برح مقلتي جمالها،
ولا نظراتها جفون عيون عشاقها،
ما انزاح شعرها عن أكتافي،
ولا خطواتي عن خطاها،
فهي عشق فؤادي،
عانقتها عشقا، فما عانقتني،
أحببتها فلم تحبني،
صاحبتها فما صاحبتني،
أسكنتها كفي، همساتي، فغادرت كل إحساسي،
كتبت اسمها وشما على أطرافي، فهجر الخطوط والحدود،
رجع وجعا من أوجاعي،
ونار احتراقي،
فلا تكتب عني، فإني وهم من أوهام الحب،
فلست إلا طيف أحلام،
فأنا شبح من ظلام الأيام،
فلا تذكرني، فقد أحرقت كل مراكبي،
وأغرقت ذاتي في البحار، فلا تبحث عني،
فأنت سوى ضحية من ضحايا الاكتئاب … فما لي؟ والكتابة عني. هذا همس من الأيام والسنين، فاحفظه عني؛ وما كدت أرفع رأسي لأني كنت أكتب ما قال لي؛ لكي أبحث عن حبيبته. فما وجدت إلا ظله ظلي، فمن أنا سألت ملامحي، حين غرقت في ملامح عشيقتي، وهي ما ظلت عشيقتي، ومابرحت نبضات قلبي، تسكن مني حيث سكن ظلي؟ فمن أكون؟ أو قل لي أنت: من تكون؟ … فإن كنت أنت أنا، فذلك واقع، وإن كنت أنا أنت فذلك هلوسة بصري …
عبد العزيز قريش