استيقظ موماد في صباح شتوي ملبد بالغيوم، فانعكست بعض الحُزَمٌ الشمسية التي انفلتت ما بين فجوات السحب الهاربة، مما جعله ينغمر بين الذرات الغبارية التي تتراقص عبر موشور الأشعة التي تنفذ عبر النافذة . البارحة كان وحيدا في شقته في حي ( دار التونسي) والتي لا تخلو من الأصدقاء الذين يتوجهون إليها كي يتبادلوا أطراف الحديث أو (يقصروا) كما يحلو له تسمية جلساتهم. حينما يعتكف على نفسه وحيدا، فإنه يلجأ إلى الكتب المبعثرة على الفوتيه، أو بعضها يسقط قرب مخدته إلى الأرض التي زينها بزربية صغيرة من الصوف، جلبتها له والدته من مدينته(تنغير). تناول الكتاب كي يكمل قراءته، كان لكاتب فرنسي معروف بتطرفه وهو (ميشيل هولبيك) ومع أن موماد يعتبره كاتبا إشكاليا متعجرفا، ويكره تلك اليمينية المتطرفه ذات الرائحة العنصرية النتنة التي تنث عبر كلماته ، ومع ذلك فصاحبنا معجب بطرف خفي بجرأة الكاتب وروح السخرية فيه، ومتعلق بإسلوبه وسحر لغته الفرنسية، وطريقة معالجاته للظواهر، بحيث أنه يعريها من غلافها الخارجي، مما يجعله منغمرا حتى الثمالة في قراءة فصول رواية(خضوع) إلى حدّ نسيان سيجارته تتوهج ببطء ثم تذوي، ويسقط رمادها على جزء من قميصه، دون أن يلثم دخانها، وذلك لأن الكاتب كان يتنبأ بمصير فرنسا، والأزمات السياسية التي تطفح على السطح.
لا يتذكر كم من الوقت بقي في تلك الليلة، وكم كأسا من النبيذ قد لامس شفاهه الذابلة.
أزاح الغطاء عن جسده المتعب، وحاول تنظيف الطاولة التي تلوثت من أعقاب سجائر البارحة وبقايا قطرات النبيذ التي التصقت بخشب الطاولة. تحامل على نفسه ليرمي ما تبقى من قشور الفواكه في سلة القمامة، ثم أزاح الستارة عن النافذة ليسمح لأكبر كمية من الشعاع ، وقبيل أن يضع براد القهوة على النار بحث عن علبة سجائره، فوجدها خاويةً وقد سقطت تحت زاوية السدارية. لام نفسه لأنه لم يترك سيجارة للصباح والتي يبدأ بها فطوره، فما أن يعبّ منها نَفَساً حتى يشعر بسعادة طارئة، وكأنه طفل صغير يداعب دميته، ورغم أنه ملمٌ بكل الدراسات العلمية التي تؤكد أضرارها، ولكنه ينظر إليها كصديقة لا يمكن التخلي عنها، أو خيانتها، فقد رافقته هذه السيجارة منذ صباه إلى كهولته، بحيث أنه يتشبع من خلال دخانها بالكثير من أحلامه التي ترتقي – أحيانا – إلى أوهام.
مرة اتصل به صديق حميم من كندا، وفي غمرة حوارهما عن أشياء كثيرة، ومنها حالة الجو في مراكش وكيفية تمضية أوقاته، سأله الصديق المغترب عن المسافة بين شقته الكائنة في دار التونسي وبين مركز المدينة، فصمت موماد برهة وقال: تستغرق المسافة بين شقتي ومركز المدينة أربع سجائر. كم ضحكا على تحوُل السيجارة إلى وحدة قياسية، حتى سالت دموعهما من طرافة الإجابة.
وضع موماد براد القهوة على نار هادئة،وفكّر أن يذهب لأقرب حانوت عبر الشارع العام، لشراء علبة سجائره،وهو يعلم بأن الأمر لا يستغرق منه سوى القليل من الدقائق، وحينما وصل الشارع الرئيس، شاهد تجمهرا من الناس لرؤية شاب قد اصطدمت دراجته البخارية بسيارة مسرعة، ومع أن مثل هذه الحوادث مألوفةٌ في مراكش، ولكنّ وجه الشاب الذي أدمت السقطة جبهته، جعلت موماد مذهولا ، فوجه الضحية يشبهه تماما حينما كان صغيرا، والحادث الذي يراه الآن أمام عينيه، يشبه تماما ما حدث قبل أربعين عاما في مدينته الصغيرة ( تنغير). غامت عيناه في ضباب الفجوة الزمنية، فوجد نفسه محاطا بنفس الوجوه التنغيرية، وهم يشيرون إليه، هذا الولد الذي سقط من البيكالة هو ابن محمد عبد العالي من الشرفاء، رموا على وجهه الماء. وألبسوه ملابسه التي تلوّثت بقطرات من الدم ، ولكنّ موماد لم يكن مكترثا لجروحه وإنما لقسوة أبيه ، فقد يعاقبه بشدة، إذا علم بمغامراته على البيكالة. كان بيتهم كبيرا،جدرانه عالية، ونوافذه صغيرة، تُطلّ على وسط البيت الذي يقع في نفس الزقاق للزاوية الصوفية في مدينة تنغير،حيث تضم قبائل مختلفة،تتآلف أحيانا، وتتحارب أحيانا أخرى، ولكنهم يظلون تحت مظلة تلك الزاوية العريقة التي يجدون فيها طقسا للتطهر من الآثام.
وتنغير المدينة منحوتةٌٌ من الصخر الذي يحيط بها،وكأنها فتاة صغيرة تتأرجح بين الحافات الحادة لجبال متطاولة،مابين الأطلسين، حيث مضيق (تودغا) الذي نُحتت فيه الصخور العملاقة عبر أزمنة غابرة، تُطل الجبال العالية على تلك المدينة، فتبدو من خلال القمم وكأنها حرباء تتلون وفق أشعة الشمس التي تتساقط عليها، وتثير الدفء فيها.
تلك (تنغير) التي شهدت ولادة موماد، ومنحته بعض شراستها وبعض رِقّتها، كما عجنته برملها وطراوة الواحات التي تتخلل أنحاءها وجنباتها. حينما دخل التعليم الثانوي، كان حاد الطبع مشاكسا، حتى أن المدرسين لا يطيقون أسئلته المتشككة والتي تعبّر عن استهانة بطرقهم التقليدية، ولكنه يحب الأدب والشعر، ويتذوقه، مما جعل لديه ملكة الاستماع، فحينما يُصغي للشعر أو الموسيقى، فكأن ثمة صدمة كهربائية تجعله متجمدا كالصنم، وقد علم بأن مدرسا عراقيا في ثانويتهم، يُدرّس العروض بطريقة النوطات الغنائية، وقد أثّر على الطلبة، وجعلهم يحبون الشعر ويدركون أوزانه، وكان موماد يتغيب عن دروسه في الأقسام الأخرى، ويتسلل إلى قسم ذلك المدرس، وينسى نفسه وهو يحلق بين أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي. وحينما كثُرت غياباته، استدعاه مدير المدرسة، وقال له:
خذ كتبك واخرج من المدرسة ولا تريني وجهك مرة أخرى.
كانت لحظات عصيبة مر بها موماد في ذلك اليوم الكئيب، فلو علم أبوه بالأمر لعاقبه بشدة،وكذلك العائلة وفروع القبائل التي ترتبط بها، فالطرد من المدرسة يُعتبر عارا عند أهل تلك المناطق الذين استعاروا قسوة الحياة من الجلمود المحيط بهم، ولا يتم غسل هذا العار إلا بالاجتهاد، وذلك لأن الإنسان التنغيري باختلاف القبائل التي ينتمي إليها، قد تعوّد على اجتراح المستحيل، وعلى الصبر والعمل الدؤوب، بحيث أن أهل تلك المناطق قد أصبحوا خزانا لليد العاملة في عموم المغرب، وخزانا لطلبة العلم في مختلف الاختصاصات.
هذا ما كان يعكر لحظات موماد، والذي جعله يدخن السيجارة لأول مرة في حياته،لعلها تساعده على امتصاص حزنه، لقد آوى إلى واحة على حافة المدينة، ووضع أقدامه بين الحصى العائمة في مياه الوادي المتدفق، سعفات النخل تُطلُّ على صفحة الماء، فتحيله إلى مزيج من الخضرة الكابية المشوبة بخطوط التموجات الفضية.
في تلك اللحظة اختمرت لديه خطة لإعادة الاعتبار إلى نفسه. عاد إلى بيت صديقه، وقد استعار منه (فوقية) بيضاء وتحتها قميص بنفس اللون و(بلغة) بلون الكركوم،وسلهاما،يغطي كتفيه. وما أن حلّ المساء حتى اتجه إلى دار مدير المدرسة الذي يقع وسط المدينة، فطرق الباب بحياء، فأطل من الباب الكبير وجه أمومي لامرأة كبيرة السن، فبادرها بالسلام وبأنه يريد أن يرى السيد المدير لأمر هام، فما كان منها إلا أن ترحب به، فهي تعرف أمه، وقالت له :
مرحبا بك ياولدي،زوجي في المسجد، وسيعود بعد قليل، ودعته للجلوس في غرفة الضيوف ريثما تهيء له شايا أخضر بالنعناع، حتى يحضر زوجها. وما أن أطلّ السيد المدير بهيأته المتجهمة، حتى صُدم لمرأى تلميذه المشاغب موماد في غرفة الضيوف وهو يرتدي الملابس الرسمية، وأدرك بأن حيلة حضوره إلى البيت قد أذابت جبل الثلج الذي يحمله، فكتم غيضه، وانصاع لعرف الضيافة فرحب بتلميذه المشاغب، وقد تحولت لحظات الصمت بينهما إلى لغة حوار غير مسموع، والذي يعني أن المدير سيسامحه، بشرط أن يتخلص موماد من حِدّته وشغبه وأحلامه العريضة في كسر المألوف. ومنذ تلك اللحظة بقي وفيا لسيجارته التي أوحت له بهذه الفكرة.
وكأنه أفاق من غيبوبة حينما سمع صوت الإسعاف التي وقفت لتنقل هذا الشاب الذي تعرض لجروح بليغة نتيجة السرعة، وغياب المسؤولية في الشوارع العامة لمراكش.
حينما عاد إلى شقته، تذكر أنه نسي براد القهوة على النار، فشم رائحة حريق صغير وبعض الدخان يتسرب من المطبخ. ركض بسرعة لمعالجة هذا الطارئ، فوجد البراد موشكا على الانصهار، وبأن النار انتقلت بسرعة إلى كتاب ميشيل هوليبيك(الخضوع) الذي نسيه غير بعيد عن النار،فالتهمت نصف صفحاته، فلم يبد أسفا على ذلك، لأن نار شقته-ربما- التهمت بعض التفاصيل التي كان الكاتب بها متطرفا ومتعجرفا.
نظّف الطاولة من سخام الأوراق المحروقة،ورمى في القمامة البراد الذي أتلفته النار، وسارع إلى إغلاق الغاز، ثم فتح كل نوافذ الشقة، وجلس ليدخن سيجارته الأليفة تحت شعاع الشمس.
رحمن خضير عباس