من بين أهم المواضيع التي كانت دائما متار اهتمامي في الأدب العربي هي قراءة النصوص الأدبية، وتحليلها، وإبداء الرأي عنها سواء كانت شعرا أم نثرا، قصة أو مسرحية أو رواية… ومن أجل ذلك أروم في هذه الورقة المتواضعة أن أعود أدراجا إلى الوراء، قصد التعرف على البدايات الأولى لظهور النقد الروائي في أدبنا العربي الحديث.
ظهر النقد الروائي العربي في العصر الحديث وبالضبط في أواسط القرن التاسع عشر وبدأ ينمو ويترعرع في بداية القرن العشرين. وقد تأثر بالنقد الأدبي الغربي، وخاصة النقد الأدبي الفرنسي، وتطورت تقنيات هذا النقد مع توالي الإنتاج والإبداع في مجال الرواية، هذا الإنتاج الذي بدأ يعرف طريقه إلى النشر عبر صفحات المجلات الثقافية الرائدة ولعل أبرزها وأشهرها كانت مجلة الجنان لبطرس البستاني، ومجلة الهلال لجرجي زيدان، ومجلة الجامعة لفرح أنطون، ومجلة المقتطف ليعقوب صروف، وكذلك مجلة المنار للشيخ محمد رشيد رضا وغيرها، هذه المجلات التي أخذت على عاتقها الاهتمام والعناية بهذا الجنس الأدبي الجديد الذي هو الرواية، حيث ساهموا فيه على المستوى الإبداعي، وكذلك على المستوى النقدي، حيث لم ينفصل تشجيع التأليف والترجمة في مجال الرواية عن نقدها. فقد بدأ هؤلاء الكتاب يعون بشكل كبير بأهمية النقد الروائي في المجال الأدبي، وإن كان قد بدأ هذا النقد محتشما، مهتما بمضامين النصوص، ومركزا على الجانب الأخلاقي للنصوص الإبداعية، وإعطاء بعض التوجيهات للكتاب والمبدعين، وخاصة الشباب منهم.
أما الآليات والعدة التي كان النقاد في تلك الفترة يتوسلون بها لسبر أغوار النصوص الروائية فإنهم كانوا يستعملون المصطلحات الشائعة في عصرهم، معتمدين على الثقافة الأدبية التي يمتلكونها. كما انهم كانوا واعين في تتبعهم لنشأة الرواية بالبعد الإنساني الذي أدى إلى ظهورها، وبذلك أدركوا أن السرد ظاهرة إنسانية عامة، وأن السرد الروائي يلبي حاجة إنسانية واجتماعية، ولكنهم كانوا فقراء في تقديرهم لأسس الرواية وأركانها، رغم تنبههم إلى بعض المكونات مثل الحدث والشخصية.
إذا رجعنا إلى المجلات الثقافية التي سبق ذكرها لنبحث عن المصطلحات النقدية التي وظفها هؤلاء النقاد الرواد، سنجد مصطلحين أساسيين هما: “التقريظ” و”الانتقاد”. فما المقصود بهما؟ وكيف تم الاشتغال بهما؟
لقد كان يعقوب صروف أول من نحت هذين المصطلحين في مجلته المقتطف. وكان يقصد بهما التنويه بالرواية، أو التعليق عليها بالمعنى المعاصر، حيث يقوم بإعطاء بيانات ومعلومات عن الرواية وكاتبها وناشرها وثمنها، مع بعض الملاحظات السريعة والتي تكون غالبا إيجابية. إضافة إلى التعرض لسلبيات النص الروائي، والتعمق في حيثياته.
ومن أمثلة التقريظ والانتقاد نجد مجلة المقتطف في أحد أعدادها(1) تتناول رواية موسومة ب “فؤاد” من تأليف “نقولا أفندي بسترس” صدرت بالقاهرة، حيث تم عرض مضمونها الذي هو حب فتى غني لفتاة فقيرة الحال، ولكنها حسنة الأخلاق ورغب في الزواج بها… وبعد ذلك أبدى الناقد ملاحظاته نذكر منها: “ومن معايبها جعل بعض أهلها على دين المسلمين في بدئها وعلى دين النصارى في ختامها، وعلى مذهب الماديين في وسطها…” وقوله: ” ومن معايبها أيضا إيراد بعض الرذائل في معرض يشعر بمدحها واستحسانها، بلا إشارة إلى ذمها واستهجانها.” ويختم الناقد بقوله: ” واتفق أننا قرأنا هذه الرواية مع مؤلفات أخرى لترويح النفس من وعكة (أبي الركب) فانتقدناها انتقادا طويلا، اقتصرنا على هذا اليسير منه هنا لضيق المقام”.
وعند ظهور كتاب محمد المويلحي “حديث عيسى بن هشام”، فقد تناوله يعقوب صروف بنقده حيث قال عنه: ” لمحمد المويلحي القدح المعلى في صناعة الإنشاء، كما كان للمرحوم والده.تشهدله بذلك هذه الفصول. فقد تحدى فيها الهمذاني والحريري، ونسج على منوالهما، وفاقهما في إلباس الحقائق لباس المزاح، ولو بالغ في ذلك أحيانا.” (2). كما أن مجلة الهلال تناولت كتاب المويلحي بقلم جرجي زيدان حيث قال: ” حديث عيسى بن هشام هو كتاب اجتماعي على أسلوب الرواية. في قالب محاورة مروية على لسان عيسى بن هشام. يتضمن انتقادات سياسية واجتماعية وتهذيبية عن أحوال مصر وبعض رجالها وإداراتها وأحكامها وعادات أهلها، وطرق أغنيائها، مما ينبغي حتما أو يجب اتباعه، بعبارة رشيقة بليغة، يكفي في وصفها أنها من إنشاء محمد بك المويلحي المنشئ الصحافي، نجل المرحوم إبراهيم بك المويلحي”(3). كما أن جرجي زيدان نشر أيضا في مجلته نقدا لرواية تم تأليفها باللغة الانجليزية ونشرت بالقاهرة، وعنوانها ” الأمير مراد “، وقد ألفها خليل سعد وهو من أبناء الشام المهاجرين إلى مصر، وكان هذا الكاتب أول عربي يؤلف رواية باللغة الإنجليزية. وقد استهل زيدان نقده لهذا النص الروائي بالثناء على مؤلفها كما اعتبرها” منسجمة العبارة، مشوقة للمطالعة، لغرابة وقائعها وتناسق حوادثها “(4).
وقد اقتحم مجال النقد في تلك الفترة كذلك صاحب مجلة المنار الشيخ محمد رشيد رضا حيث تناول بالتقريظ والانتقاد رواية أحد الصحافيين الشباب المعنونة ب “اليتيم أو ترجمة حياة شاب مصري”، وهو كما نلاحظ عنوان طويل مقارنة مع العناوين الصادرة في تلك الفترة، وكان التعرض لها بالنقد أول محاولة نقدية لمحمد رشيد رضا وذلك في مقال مطول استهله بقوله: ” إن قراءة القصص المعروفة بالروايات من أنجح تربويالذرائع في نشر الفكار الصحيحة بين جميع طبقات القراء، ومن أكبر وسائل التهذيب. ولها الشان العظيم في البلاد المتمدنة” (5). ويقول الناقد متحدثا عن هذه الرواية: “ومما تفضل به هذه الرواية كثيرا من الروايات المتداولة ان ما يذكر فيها من الغرام لا يخرج عن حدود الأدب، والعفاف، والنزاهة، والشهامة.” (6) ، وقد نقل بعض الفقرات من الرواية تعزيزا لوجهة نظره هذه، خصوصا في التنبيه على أهمية الجانب الوطني والتربوي والأخلاقي . وقد ختم محمد رشيد رضا مقاله قائلا: “فنحن الكتبة على إنشاء الروايات في هذا الموضوع المفيد. وعسى أن يواصل مؤلفها الأديب الجري في هذا المضمار، مع مراعاة حسن السبك وسلامة العبارة مع سلاستها التي هي فيها. فما أجدر المعنى الصحيح بالأسلوب الفصيح. ونرجو ان يقبل القراء على روايته، فينشطونه على متابعة العمل، فبالعمل يحقق كل امل”(7)، كما تناول رضا الروايتين التاريخيتين فتح الأندلس و فتاة غسان لجرجي زيدان، حيث توقف عند الأولى بشكل سريع وأشاد بها وبمضمونها، أما الثانية فقد وقف عندها طويلا وجرد أخطاءها التاريخية المتعلقة بالأحداث الماضية من تاريخ الإسلام وقد عزا الناقد ذلك إلى عدم اطلاع الكاتب وكذلك كونه ينتمي إلى العقيدة المسيحية، وعدم معرفته بالإسلام وتاريخه، و”أنه لا يجوز لمسلم أن يثق بغير العلماء الراسخين من أهل الدين في نقل الأمور الدينية”(8) .
وكتبت مجلة العرفان عن رواية “غادة عمشيت” للكاتبة عفيفة كرم، التي صدرت في نيويورك سنة 1910 ” إن لم يكن للروايات فضل إلا انها يقرأها العامة والخاصة لكفى. ليست كل الروايات مفيدة تستثير العواطف وتحرك الشعور. وأكثرها ضررها أكثر من نفعها. والرواية التي تفيد الفائدة المطلوبة هي ما كان موضوعها اخلاقيا أو اجتماعيا أو غراميا يوصل غليهمان ولمثل هذه الروايات تأثير كبير في تهذيب الملكات وتقويم العادات، وخصوصا ما بني على حوادث حقيقية ليس للكذب بها من أثر إلا ما كان من قبيل التوسع في الموضوع، وإثارة روح الحماس في النفوس. ومن خير ما وقع نظرنا عليه من بين الروايات رواية غادة عمشيت لمنشئتها عفيفة كرم من خيرة كواتب لبنان التي تقيم في أمريكا، وتكتب في جريدة الهدى” (9).وقد اعتبرت هذه الرواية من منظور محرر مجلة العرفان أنها “من أحسن الروايات لغة ووضعا، واختيارا وابتكارا” (10) ، ثم بعد ذلك يقدم للقارئ ملخصا لهذا النص الروائي النسوي، حيث هي قصة حب أرغمت بطلتها على الزواج بغير من تحب، طمعا في مال أبيها الذي جلبه من أمريكا، فعاشت في هم ونصب حتى ماتت مقيمة على حبها لفتاها الذي رحل إلى أمريكا، بعد فشله في الهرب معها.
ولقد استمرت جميع المجلات التي كانت تصدر في هذه الحقبة من القرن التاسع عشر أي منذ سنة 1870 إلى سنة 1913، وهي السنة التي ظهرت فيها رواية زينب لمحمد حسين هيكل والتي أجمع النقاد على اعتبارها الرواية العربية الأولى بالمفهوم الفني الأوربي للرواية، حيث ستبدأ المرحلة الثانية للنقد الروائي العربي التي ستتأسس فيها المفاهيم النقدية وتتأصل المصطلحات. كما قلنا استمرت هذه المجلات الرائدة في نقد الروايات التي توالت في الصدور بنفس الأسلوب ونفس النظرة والمقاييس، ونفس التزامات الفترة التي تبناها النقاد والمبدعين على حد سواء.
هذه فقط بعض اللمحات والتأملات، عن حفريات النقد الروائي في الأدب العربي، هذه الحفريات التي ستعتبر اللبنة الأساس والنبراس الذي أنار الطريق، التي سينطلق منها نقد الرواية فيما بعد.
حسن لمين
هوامش
(1) مجلة المقتطف. نونبر 1887. صفحة 127-128
(2) المقتطف. مارس 1907. صفحة 384
(3) الهلال. أبريل 1897. صفحة. 448
(4) الهلال. دجنبر1892. صفحة 138
(5) مجلة المنار. غشت 1901. صفحة 475
(6) نفس المصدر. صفحة 133
(7) نفسه ونفس الصفحة
(8) نفس المصدر. صفحة 393
(9) مجلة العرفان. يناير 1910. صفحة 544-545
(10) نفس المصدر ونفس الصفحة
كان المقال جداً مفيد وغني