بعدما عمت ضجة المساء المكان من حولي، نفضت الفراغ الذي احتواني لساعات أمام المنظر البهي لأمواج البحر وهي ترتطم بالصخر على مقربة من قدميَّ. استقمت أمشي متمايلا مبتهجا بقليل من البهجة في طريق العودة إلى المنزل. لقد تغيرت ملامح الشوارع الرئيسة في ظرف الساعات التي جلستها في البحر، زينت بالأعلام والشعارات الوطنية وصبغت الواجهات المهمة بطلاء من الصباغة الرديئة…أما الأزقة الضيقة فلم ينلها نصيب من الزينة ولا حتى من الصباغة الرديئة، بقيت وفية لألوانها الباهتة التي تحمل إلى قلبي من الكآبة ما لا أستطيع تحمله، لذلك كنت غالبا ما أغض الطرف عنها. تذكرت أن الغد يوم عطلة وطنية…أتساءل مستهزئا كيف لي أن أتذكر تواريخ العطل…رغم أن هذا الأمر لم يعد يهمني منذ زمن، منذ تخرجت من المعهد…منذ أصبحت مجرد عاطل.
دخلت معهد الفنون الجميلة لأني أعشق الرسم وطمعا في أن أخرج إلى الواقع الصورة التي رسمتها في خيالي الطفولي واحتفظت بها ذاكرتي على مر السنين. أنا ابن حي شعبي تضيق فيه الأزقة وتأخذ فيه البيوت أشكالا وألوانا عشوائية فيها قليل من الجمال وكثير من البشاعة. كنت أوقن أنني سأكبر وسأغير هذا الواقع البائس وستصبغ منازل مدينتي من أفقرها إلى أفخمها بلون واحد موحد تذوب فيه الفوارق الاجتماعية…ولكن لسوء الحظ، توالت السنوات وتحولت مدينتي التي حلمت بأن أجمل شوارعها وأزقتها الى مساحة بدون حدود وكأنها الكون يتوسع ويلتهم كل ما يقترب منه…تمددت مدينتي حتى صرنا لا نعرف من أين تبدأ وأين تنتهي وأصبحت مدينتي البيضاء رمادية…صبغ التلوث واجهاتها…مع توالي السنين آلت الصورة التي حلمت بها إلى زوال.
أخبرتك أنني عاطل عن العمل ويجب أن تصحح الآن الفكرة التي كونتها عني. أنت اعتبرتني اتكاليا بائسا، يعشق النوم لساعات طوال ويغمره الكسل إلى أخمص قدميه. لا يا عزيزي، فأنا رسام تشكيلي…وأقر بدون افتخار أنني موهوب جدا. ولكن ضعف الحال حولني إلى ‘مجرد’ رسام، أفر من واقعي لأعتنق أمواج البحر. لم أجد من يقدر أنني فنان وأنني مختلف. صار البحر سبيلي، أذهب إليه كلما ضاق صدري واعتراني الإحساس بالأسى، أجلس أمامه وأنسى كل شيء، أنسى نفسي…وأهيم عشقا بجمال قرص الشمس الضخم وهو يذوب على مهل في الأفق.
أتعرف ما يجعلني أشعر بالأسى؟! إنها تلك الغربة التي أشعرها وسط أهلي، ما أصعب ذاك الإحساس…كلما اختليت بنفسي في غرفتي وصمت عن الكلام وترفعت عن الدنايا كقربان لوحي الإبداع، أسكب في لوحة من روحي وأحلامي ومزيج من مشاعري الأكثر عمقا والأصعب شرحا وبيانا…ثم أبتسم إليها مفتخرا بالجمال الذي أوجدته وصنعته. قد أمضي في ذلك ساعات وقد أمضي أياما، مهما تكن تلك المدة فقد حدثت فيها ملايين التغيرات حول الكون، حتى في نفسي تتغير سكناتي وأحاسيسي ويقطع بي الخيال آلاف الأميال، لكن نظرة أهلي لا تتغير…أخرج إليهم منتشيا فيقابلونني بالنظرة نفسها في كل مرة، نظرة أمي يملؤها حزن لم يمنعه إيمانها بالرب…ونظرة الباقين تمتلئ بالشفقة…تموت في تلك اللحظة نشوتي ويعاودني الشعور بالبؤس، وأتمنى لو كنت مجرد موجة بحر تذوب عند الشط وتختفي…أتمنى لو كنت مجرد جثة باردة مهملة في مستودع الأموات لم يسأل عنها أحد.
فشلت في جميع محاولاتي لإقناع أصحاب المعارض بشراء لوحاتي، أو بعض منها…وكانوا في كل مرة يلحون باقتراحهم أن أقدم لهم اللوحات دون توقيع وأنهم سيعملون على عرضها باسم رسام آخر ذو شعبية وشهرة…وسيكون لي نصيب من الأرباح. ولأني كنت دائما أفشل في إقناع الناس بما أريده، وأمتثل في آخر المطاف لما يريدونه في ضعف ووهن، وأظن أنني مع السنوات قد تعودت على ذلك، أو ربما لم يكن تعودا، ربما لم يعد حزنا جديدا يجد في قلبي موضعا…سلمتهم خمس لوحات مكسور القلب والكبرياء وكأنني أم تدفع ابنتها إلى البغاء مقابل بعض المال. فعلتها مرة واحدة وكان أثرها في نفسي بالغا رغم علمي أن اللوحات بيعت كلها في ظرف وجيز…سلموني بعدها بأيام قليلا من المال…ما لم يكفيني لجبر خاطري.
اليوم، يوم عطلة وطنية. استيقظت قبل الفجر بساعة لأهرب من ضوضاء المدينة، فبعد سويعات من الآن ستزدحم الشوارع بالناس ويتعالى صراخ الأطفال في الزقاق. تقلبت قليلا على الأفرشة التي أنام عليها وسط لوحاتي ومددت يدي في الظلام باحثا عن مصباح صغير أضعه عادة عند رأسي، حينما بلغته أشعلته وقمت بعياء لأستخرج من وسط حذائي الوحيد جوربين قديمين جدا، الجورب الأيمن به ثقب يبقى ظاهرا حتى عندما ألبس السروال، لطالما شعرت بالحرج من أصحاب معارض اللوحات المتأنقين، فقد كنت أشعر أن نظرهم مركز جدا على ذلك الثقب…وكأنه ثقب في وسط صدري أو بين عينّي، لا يمكنهم أن يغفلوا عنه…كنت أحرج فقط ولم أخجل يوما ولذلك لازلت أحتفظ بزوج الجوارب، وفي الحقيقة أنا لا أملك سواهما. بعدما انتعلت حذائي، أدخلت الكنزة الزرقاء في السروال الأسود اللذان نمت بهما ليلة أمس بعدما استلقيت فوق الأفرشة وحدقت إلى السقف طويلا وأنا أستمع إلى أنفاسي المضطربة بين شهيق وزفير. منذ زمن بعيد لم تغمض عيناي بملء إرادتهما، فقد صار يخطفني النوم على حين غرة. خرجت من الغرفة على رؤوس أصابعي، كان كل من في الشقة يغط في نوم عميق، حتى إنني سمعت شخير زوج أختي وكأنني أنا من ينام في حضنه…وحدها أمي، مستيقظة، فضوء غرفتها يتسلل من تحت الباب لينير البهو وأنا أمر من أمام غرفتها، بلغت أذناي همهمات من دعائها…كنت كلما رأيتها وهي تصلي وتدعو الله بحرقة أن يجبر خاطري تدمع عيناي في صمت.
بعض خيوط الفجر بدأت في الظهور ولازالت مصابيح الإنارة العمومية مشتعلة في الشارع، أخذت أمشي لأزيد من ساعة وحيدا بين شوارع المدينة الفارغة إلا من بعض السكارى الذين يشتمون بكلمات متقطعة إذا ما ركبتها مع بعضها تصبح بدون معنى ثم يحكون رؤوسهم وكأنهم يحاولون أن يفهموا ما يريدون قوله. كان البحر سبيلي…وكلما حاولت أن أتيه بين شوارع المدينة الكبيرة وأزقتها المتشعبة كانت قدماي تأخذاني إليه…أخذت أمشي على الرمل وقد اقشعر جسدي من نسيم الريح الباردة…اقتربت قليلا من المكان الذي يربط فيه الصيادون قواربهم وجلست على كرسي صغير وقابلت البحر…أحسست أنني أنعم ببعض الهدوء والسكينة.
غمرني الشعور باليأس حتى صرت أتحاشى النظر إلى عيون الناس…تكسر شيء بداخلي يصعب جبره منذ ذلك اللقاء، منذ أن جمعني القدر بنور. نور، ابنة صاحب مسرحِ فنونٍ صغير يوجد قريبا من حينا…اكتشفته صدفة حينما عبرت زقاقا ضيقا لم يسبق لي أن مررت به خلال جولاتي المسائية. كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء ولاتزال أمامي ساعات طويلة من التسكع قبل العودة إلى البيت…علقت على السور الخارجي للمسرح افيشات وإعلانات لمسرحيات يبدو أن لا أحد حضر لمشاهدتها فذبلت ألوانها…كان للمسرح بابان…باب كبير يتوسطه باب صغير…البابان مغلقان…لا أعرف ما كان السبب ولا من أين جاءتني الجرأة -ولذلك فأنا أعزي ذلك اللقاء للقدر- فقد تقدمت إلى الباب الصغير وضربته بقدمي ضربات قصيرة متتالية ثم قمت بدفعه بقوة…فتح الباب وقد أصدر صريرا خفيفا…نظرت إلى الزقاق خلفي نظرة سريعة ثم دخلت…وجدت نفسي في ساحة تحيطها الأشجار التي يمكنك أن ترى شكلها في الظلام… درت حول نفسي دورة كاملة، كان يحيطني الظلام من كل جانب…فجأة سمعت خطى تتقدم نحوي، تجمدت أطرافي وأنا أستدرك أخيرا ما أقدمت على فعله…طلب مني صوت فتاة مرتجف أن ألتفت إلى الخلف…عندما التفت أنارت مصباحا يدويا في وجهي، كان وجهها ممتلئا أو ربما شعرها المجعد القصير جعله يبدو دائريا…لا أعرف لماذا ابتسمت إليها وكأنني أعرفها…طلبت مني بصوت مرتفع ومرتجف أن أتقدم بالخلف إلى باب المسرح وأخرج بهدوء وإلا صرخت وجعلت أبناء الحي يبرحونني ضربا…و طبعا لشدة ارتباكي امتثلت لقولها…عندما بلغت الباب الصغير طلبت مني أن أستدير وأخرج، وحينما خطت قدماي خارج أسوار المسرح، قامت بغلق الباب الصغير بقوة كبيرة، لدرجة أن قططا كانت تقلب القمامة قفزت رعبا وهرولت بعيدا…كنت أود لو أن كلاما اجتمع لحظتها في فمي لأقوله لها، فمؤكد أنها حسبتني سارقا أو معتوها.
كان أول شيء أفعله في اليوم الموالي هو الذهاب لمقابلتها…بعد ليلة غمض فيها جفني لساعة أو أقل من ذلك، ولم يفارقني بريق عينيها وظلت نظراتها الخائفة تحاصرني في ظلمة غرفتي كلما فتحت عينيّ. عند أول الزقاق تسرب بعض الخوف إلى قلبي، لكن رغبتي في الحديث إليها كانت أكبر من إحساسي بالخوف…اقتربت من المسرح، كان بابه الكبير مفتوحا على مصراعيه…دخلت بثقة لم أعرف ولا أعرف إلى الآن من أين أوتيتها…تقدمت إلى فتاة كانت تجلس في مكتب خط على بابه بطبشور أبيض “الاستقبال”…قدمت نفسي على أنني فنان تشكيلي يرغب في أن يعرض بعض لوحاته…أخبرتني الفتاة بلطف أن أنتظر إلى أن تأتي الآنسة نور ابنة صاحب المسرح، هي فقط من يمكنها التحدث معي في التفاصيل. جلست على كرسي في الزاوية وانتظرت، انتظرت طويلا…وعندما كسر صمت المكان إيقاع خطى قادمة باتجاهي، اهتز قلبي من مكانه وأخذت أنزل بعصبية السروال على الجورب الأيمن لأخفي الثقب الظاهر وقد انعدمت ثقتي بنفسي…لكنها مرت من أمامي ولم تلمحني…وضعت كومة من الأوراق أمام الفتاة وأخذتا تتحدثان وكأنني غير موجود، نسيت الفتاة أنني جالس أنتظر منذ مدة طويلة وصول نور…زاد ذلك من ارتباكي فشلت حركتي بالكامل… بعدما فرغتا، خرجت نور من أمامي ثانية رافعة ذقنها إلى أعلى في شيء يشبه الغرور، كان من المستحيل أن تراني جالسا في الزاوية ورأسها مرفوع إلى ذلك الحد. أخذت بعدها الفتاة في الاستقبال تقلب الأوراق وهي تتمتم كلمات بصوت منخفض كان بالكاد يبلغ أذنيّ وقد نسيت وجودي تماما…عندما استجمعت قواي وقفت فجأة وأنا أسعل سعالا مفتعلا، من شدة الرعب، أفلتت الفتاة الأوراق من يديها كأنها تراني لأول مرة. بعدما فرغت من إلقاء جمل طويلة وعبارات متكررة معتذرة، طلبت مني أن أتبعها إلى مكتب السيدة نور…وفعلت…كانت خطواتها متسارعة ومرتبكة …عندما بلغنا المكتب، استأذنتني لأنتظر قليلا من الوقت وستدخلني بعدها، وفعلت…بعد دقيقة خرجت مبتسمة مشيرة لي أن أدخل.
دخلت إلى نور التي شابكت يديها على مكتبها وجلست مستقيمة الظهر في ثقة مبالغ فيها وقد ملأ عطرها المكان، لم تطلب مني أن أجلس، أخذت تمعن النظر في محياي وقد اتسعت عيناها البنيتين من الدهشة…و قبل أن تنبس ببنت شفة، سارعتُ أعتذر لها عما بدر مني بالأمس، كانت الكلمات تخرج من فمي دونما تفكير…وعرفت متأخرا أن قرار الارتجال أمامها كان قرارا خاطئا…وأنه كان يتوجب علي أن ألقي عليها خطاب اعتذار يكون منمقا ومختار الكلمات وأكون قد تدربت على طرق إلقائه واخترت أحسنها…وآخر الكلمات التي نطقها لساني كانت: “أنا فنان تشكيلي مشهور في المدينة ويسعدني أن أعرض أشهر لوحاتي عندكم وبالمجان، تكفيرا لغلطتي.” ثم ابتسمت إليها…ابتسامة سخيفة. رفعت شعرها المجعد عن عينيها، ربما لتنظر بشكل أفضل تلك النظرة الفارغة التي تنطق استهزاء وسخرية والتي لم ينقصها سوى أن ترافقها قهقهات متتالية وعالية على هذا الأحمق الذي يقف أمامها. قامت من على مكتبها واقتربت نحوي بخطوات ثابتة وهي تمعن النظر في كل جزء من ملابسي التي أذبلت الشمس ألوانها، أنا الذي ظللت واقفا كغصن شجرة أجوف يرى الريح العاتية قادمة لتكسره…وقفت على بعد خطوتين وركزت نظرها مباشرة على الثقب في جوربي الأيمن، لتخبرني أنها تقبل اعتذار أشهر رسام في المدينة، وأنها ما كانت تعلم أن الفنانين يتسللون خلسة الى أماكن مقفلة في الليل، وطلبت مني أن أخرج من مكتبها بنفس الهدوء الذي دخلت به الأمس إلى المسرح، بنفس الهدوء الذي يتسلل فيه السارقون إلى البيوت.
كل ما أتذكره بعد ذلك اللقاء، أنه عندما خطت قدماي خارج المسرح، أخذت خطواتي تتسارع إلى أن وجدتني أركض، كنت أركض كأني أهرب من شيء يلاحقني، لكني في الواقع كنت أهرب من نفسي، من أي حديث قد أخوضه معها، من أي عتاب قد تعاتبني، كنت أهرب من الأفكار التي اجتمعت في عقلي واندفعت أمامي جاعلة رؤيتي ضبابية…كنت أركض وكانت نظراتها ترسم في خيالي وأراها وأنا فاتح عينيَّ…عندما بلغت حينا وقفت أستجمع أنفاسي وأسأل نفسي لما أخذتني قدماي إلى أمام منزلنا…لم أستطع الوقوف كثيرا فقد ألحت علي رغبة كبيرة في البكاء، كالطفل الذي كنته، كالطفل الذي لازال بداخلي، صعدت إلى أمي التي تربعت وسط البيت ممسكة مسبحتها، نظرت إلي نظرتها المكسورة، جلست على ركبتيَّ وغطست رأسي وسط صدرها وأجهشت بالبكاء كنت أردد وأنا أبكي:’ تلك النظرات جعلتني بائسا…جعلتني بائسا يا أمي، حتى حينما أحببت.’…كانت تربت على ظهري، ولم تتكلم، تركتني أبكي حتى اكتفيت…حينما جف دمعي واستقرت أنفاسي المضطربة، أخذت وجهي من حضنها بين كفيها وابتسمت إلي كما كانت تفعل منذ زمن بعيد ثم قلّبت وجهي بين يديها وهي تقبل وجنتيَّ…وتخبرني بصوتها الخافت المهذب:’ يا ابن قلبي، هناك معارك في الحياة، ننتصر عليها عندما لا نخوضها…حينما لا نبالي بها. فالطير لا يشرع أبدا جناحيه في وجه العاصفة.” لم تقل غير ذلك، وانسحبت إلى غرفتها، دخلتها تاركة الباب مفتوحا…لأسمع بعد ثانية أو اثنتين صوتها يرتفع لتكبيرة الصلاة.
ريح هذا الصباح ناعم جدا يحمل موجات صغيرة إلى حدود قدميّ…على شط البحر تحس أنك صغير جدا وأن العالم كله خلفك. جاءتني رغبة مفاجئة لأدخل البحر، وفعلت… لست أدرى لماذا اخترت هذا القارب عن غيره من القوارب التي كانت مربوطة بجانبي…كان يبدو أكثرهم اهتراء وأقلهم جودة…صعدته وجذفت إلى أن ابتعدت مسافة صغيرة عن شط البحر…أخذت الأمواج تتلقف القارب كما كانت تفعل مع آلاف القوارب الورقية التي كنت أضعها عند الشط وأذرف الدموع حينما تختفي في الأفق لأنني لا أستطيع ركوبها ولأنها ستذهب بعيدا من دوني.
أنا وسط البحر أستشعر نشوة غريبة، أغمضت عينيَّ، سرت في حواسي غبطة لم أشعرها أبدا من قبل، أحسست أن رداء البؤس الذي يلبسني وألبسه قد انخلع عني، دون أن أفكر أفلتت الجدافين. وقفت فأحسست بالألم يعتصر أصابع قدميَّ لأن الحذاء كان يضغط عليهما، ويعرقل استمتاعي بهذه اللحظة المميزة، نظرت إليه لألاحظ بدهشة كم أصبح مهترئا، كان مقاسه أصغر من مقاسي، لكنه الحذاء الوحيد الذي وافق ثمنه النقود التي كنت أقلبها في جيبي وأعدها خلسة من صاحب المحل متظاهرا أن الحذاء على مقاسي، نزعته ورميته في البحر ورأيته يهوي إلى أن اختفى تماما…ثم نظرت إلى الجوربين وابتسمت إلى الثقب في الجورب الأيمن…اقتربت من آخر القارب ووقفت فاتحا ذراعيَّ الهزيلتين، أنظر إلى الأفق حيث تلتقي السماء بسماء أخرى ويخيل إلي أن كل شيء ملكي…وأنا مأخوذ بعاصفة من الأحاسيس، ضربت موجة عالية خارجة عن إيقاع موجات البحر الأخريات القارب الصغير ففقدت توازني وسقطت في الماء.
أنا لم أتقن السباحة يوما، وعلاقتي بالبحر كانت تبتدئ وتنتهي عند الشط، فوق الرمال…تذكرت متأخرا هذه الحقيقة…وكنت لحظتها أغرق…اجتاحني رعب لم يسبق لي أن أحسست مثله…كل ما استطعت فعله هو أن أغمض عينيَّ راجيا أن تحيطني رحمة ما…في تلك اللحظة رسمت في الظلام ابتسامة أمي، تلك الابتسامة التي لم أرها على محاياها منذ زمن بعيد… ابتسمت إليها وكأنها أمامي…وأخذت آخر كلماتها تملأ أذنيَّ:’ بعض معارك الحياة، ننتصر عليها عندما لا نخوضها’…فعلا تلك كلمات السر التي كانت غائبة عني…كنت دائما أدخل معارك مع الحياة أعلم مسبقا أنني خاسر فيها، لأني أفكر في الحياة بمنطق إنسان، ما أصعب أن تفكر في الحياة بمنطقك، وكأنك من أوجدها. كنت أترقب من الحياة أن تعطيني كما أشتهي، أنا أوتي سؤلي وكأنني رسول الله موسى. أية لحظة رفض كانت تحطمني وتبكيني كطفل صغير…أنا انصعت لضعفي أمام المرات التي أخفقت فيها حتى صرت هشا وبائسا…ألوم الحياة آلاف المرات وألعنها…أعجبني دور الضحية التي تطلب الشفقة…صرت جبانا لا أقوى على أبسط رفض أو إخفاق. يمكن أن أموت هنا…فتنتهي مأساتي وأدفن كضحية لمجموعة من الظروف بعضها كان لي دخل فيها وبعضها الآخر كان قدرا. لكن شيئا بداخلي رفض أن أسلم روحي وأموت بكل هاته البساطة…هو نفس الشيء الذي دفعني لأن أقاوم الجاذبية وأطفو فوق الماء مستنشقا الهواء كما لم أفعل يوما ذلك من قبل.
آخر ما أذكره أنني أخذت أسعل حتى كدت أختنق حينما أخرجت رأسي من الماء، درت حول نفسي دورة كاملة كان الشط بعيدا ولم ألمح من ينجدني…والقارب الصغير الذي ركبته يطفو مقلوبا على بعد مسافة صغيرة مني، سبحت بصعوبة حتى بلغته وتمسكت بطرفه ثم رميت بجزئي العلوي عليه، فلم أستطع سوى البكاء، بكيت كطفل صغير فقد طيف أمه في الزحام وأيقن أنه لن يراها مرة أخرى…بكيت إلى أن فقدت الوعي. حينما صحوت، كنت على رمال البحر يلتف حولي حشد كبير من الناس…أخذت أتململ فصاح أحدهم في الجميع مطالبا بالإسراع لإبلاغ الإسعاف أو الشرطة. بعدما أيقنت أنني لازلت على قيد الحياة، أعدت إغماض عينيّ مبتسما وأنا أحس أنني اليوم ولدت من جديد.
فاطمة الزهراء حرمان