“إن أعظم لحظات العمى التي يمر بها النقّاد بصدد افتراضاتهم النقدية، هي أيضا اللحظات التي يحققون فيها أعظم بصائرهم”
《دي مان/العمى والبصيرة》
مدخل
فثمة الكثير من الأصوات في الآونة الأخيرة لا تني تقلل من شأن الأدب والفنون الأخرى، وترفع بالمقابل العلوم والمكتسبات العقلية الأخرى مرتبة أعلى، ربما مفهوم هذا الأمر من سياق متطلبات العصر -الصوري- والتكنولوجيا التي اجتاحت العالم وزادت من وتيرة الحياة وبالمقابل زادت الفجوة بين الذات ونفسها، بحيث اضحى الناس مجرد أدوات تسويقية لاهثة أبدًا خلف إشباع الغرائز، هم في الحقيقة يبتعدون عن أنفسهم، بنفس البُعد عن الإشباع النمشود؛ ما يهم، لندخل مجددا عبر بوابة دي مان”فما يسمونه الانثروبولوجيا وعلم اللغة والتحليل النفسي، ليس سوى أدب، فهو يعاود الحضور في المكان الذي وُئِدَ فيه مثل الهيدرا” وزِد على ذلك ما الأشياء الصورية -أفلام/برامج- سوى مادى الأدب الخام، يظل الأدب دوما يقول ما لا يقوله سواه، وكاشف عورات الإنسان، وصاحب الحدس؛ إلى قراءة نوع من الفن وتعرية الذات فيما هو أت.
إلى مهلكتي《مجموعة قصصية》
شرف الدين عكري
ربما يعتبر العنوان من المفاتيح الأولى لفهم فحوى النص، إلا أن هذا العنوان يبدو “مربكًا” إن جاز التعبير، أهو يقصد رسالة إلى عشيقة -أهلكته- كما يبدو من الوهلة الأولى، أم أن ثمة نوعا ما مضمر من الهلاك تحمله “المجموعة القصصية” في جنباتها، ووراء ما تبوح به، هذا ما نحاول فهمه من خلال القراءة الكاملة للنص.
▪︎الحبكة
جاءت -معظمها- باسلوب السرد المباشر، والحبكة المركب طبعا، الفصول الثلاثة الأولى ثمة روابط طفيفة بينهم تظهر وتختفي، في ظهورها عمى وفي عماها بصيرة، بتعبير ماك ديمان، وهو الغموض والعاطفة والمثالية، ربما يعاب على السارد مثالية الحياة وسهولتها -خصوصا- في فصل اليتم، وفصل الغرفة (312) ومذكرات فتاة عانس.
-︎فصولها
▪ إلى مهلكتي
نلاحظ البطل يونس الذي ساءت حالته، تلتمع في ذهنه فكرة صديقه بالتوجه إلى المسجد كلما ضاق الحال، إذ تلتمس الانسجام في -أجنبية الفكرة- حينما يجد ضآلته من التمتع برؤية الشلال والانهار الصافية “فانشرح صدره” بيقينية وجوده في المكان الذي يخلصه من أوجاع الحياة والحب الوئيد، عوضًا عن نصيحة صديقه وكلام الفقيه الذي لم يخبرنا الراوي العليم بأنه ذا أثر في نفسيته “يونس”، كما يعاب على الراوي العليم الاذهاب في وصف الزائر الجشع، كان يكفيه التكثيف، ربما يعطي معنى أفضل وخفة في نفسة المتلقي.
وأيضا الربكة اللا ضرورية في كثير من العبارات -على سبيل المثال لا الحصر- “هتف بهدوء” فالهتاف دوما عكس الهدوء، إلا إن كان الراوي العليم يريد أن يحيلنا إلى مفهوم قوة الصورة فوق اللغة، وهذا ايضا يعتبر عمل ممتاز من ناحية ما.
▪︎اليتيم
في هذا الفصل وصلت المجموعة القصصية قمتها الفنية والجمالية، فالاثارة الدرامية والجموح العاطفي في فصل (اليتيم) والحب وتحدياته بين عاشقين للتو يتلمسانِ حلاوة الحب وآلامه، الإيقاع السريع وتصاعد الأحداث وقوتها وتميزها يجعلك لا تستطيع التوقف إلا حينما تتم الفصل، كان في نظري الأقوى والأكثر جمالية وتأثير في نفسية المتلقي، رغم مأخذ المثالية وغياب الدراماتيكية، في نظري أن تكون الأحداث صادمة والنهايات مدوّية أو فلنقل معقدة هو مقصد الأدب وقوة بصيرته داخل هذا العمى نفسه.
ثم لم يخبرنا ما دخل “قرطيط” في الزواج، وهل ثمة فائدة هنا، من إشعاله للنار في بيت لا دخل له بالقضية؟ أظن بأن الحريق من الافصل أن ينشب في صالة الزواج، لكن لا يؤاخذ أو يناقش الكاتب في طريقة إنها عمله/قصته فهي منطقة محظورة، أعرف، لكن مجرد لفت انتباه وتدخل بائس في خصوصيته.
▪︎الغرفة 312
كانت قصة بطلها “سمعو” الشاب الغامض الغريب الذي حصل على اللوتري، والأصدقاء الثلاثة، أحدهم يرفض ضم “سمعو” الذي يرتجف من البرد بلا مأوى، وهنا أظن بأن السارد العليم يشير بالشاب الذي رفض ذلك في البدء -يمثل الانسان اللامكترث- إنسان العصر الذي تجزأت الإنسانية في تفكيره المعطوب بالازدوجية والصورية والوهم، إلا انه لمن الغريب أن يكون أول المساعدين لما خسر التصويت؟ يبدو الأمر مثاليا، ثم لم يخبرنا الراوي -ضمير الأنا- بالسبب الذي جعل سمعو يغادرهم دون حتى توديعهم، الأسباب التي قدمها الكاتب على لسان السارد من التدخل في أغراضه وسؤاله عن سبب غيابه المتكرر ليست كافية.
▪︎فيضان النهر
قصة فيضان النهر وما تركه من تدمير نفسي وعمراني، تبدو مألوفة، إلا أن قوة الأدب تكمن هنا، أي أن يخبرك بالمألوف كما لو كان شيئًا غريبا.
▪︎دولاب الزمن
إن كنا أشرنا إلي فصل “اليتم” -بكلمة واحدة- بأنه الأقوى فنيًّا، فإن هذا الفصل هو الأعنف تصادميًّا، مادته الخام تحتمل النقاشات المعقدة العميقة، ويضع المتلقي أمام نفسه ومعاناته او ظلمه، في نظري هذا النوع من الكتابات يعتمد على قوة المتلقي للنص، كما يقول انصار موت المؤلف، فالنص لا يملك تأويله كاتبه قصرا.
هنا كانت افتتاحية -كما أشرنا- تصادمية مباشرة، حيث أعلن الراوي عن قضية هي الأكثر صيتًا وزخما ودراسة في العالم أجمع في هذا العصر، الذي يستحق كما يقول بعض المفكرين لقب عصر النسوية، زجّنّا الكاتب مباشرة وبلا مقدمات في فك النسوية القاضم، منذ موجتها الأولى حتى الرابعة الأخيرة، ولمّح للمجتمعات البطريكية/الأبوية، ناقدًا -بقصد أو عفويًّا- ثلاثية (الأب الإله/الملِك) بلغة “المسكيني”، وهذه الثلاثية أو هذا التحالف السلطوي يبلغ ذروته في الوليمة التي أعدَّها “المدني” بتأيد الفقيه -الإله رمزا- “الذي بسط له الرزق” حيث تتكشف السلطوية بيّنة على لسان السارد “بأن الله بسط له الرزق من حيث لم يحتسب، وأن هذا المال -مال زوجته- …، حصلت عليه بعد وفاة والدها، ومال زوجته يعني _ماله طبعا_” في هذا المقطع يشير الكاتب إلى مشكلة متجذرة في مجتمعاتنا الإسلامية، بحيث لا يُنظر للمرأة إلا كتابع لزوجها وما تملكه هو في الحقيقة ملك زوجها بمساعدة السلطة أيًّا كانت نوعها، كأن الراوي يريد أن يلفتنا إلى فقر المرأة في واقعنا، وأقصد بالفقر عدم قدرتها على الفردانية والاستقلالية، أي هي تحت راعاية/وصاية الأب/الزوج .. وهم نفسهم عائقها حيال ذلك.
وما انشغال أهل القرية بالأكل والشرب، وحنقهم من زوجاتهم الفقيرات “اللائي جاد بهن الله لهم” يوضح بشكل أعمق ما تناولناه سابقا، فبدل أن يستنكروا الأمر وينصروا المظلوم، تراهم يركنون إلى الصمت وندب الحظ وإبتغاء التطلع إلى مقام الزوج -هاضم الحقوق- الذي يمثل السلطة، التي هي بردايم تفكيرهم، وخطابهم المتجذر، حتى أن ثورة زوجته “مباركة” على سلطوية التميّز وظلم الأبوية، إنكمش إلى نوع أخر من السلطوية، بل لم يكن الأمر سوى محاولة تحرر عمياء، وكأن الكاتب يقدم نظرة تشاؤمية لفكرة المساواة من حيث الجندر في واقعنا.
ثم يستمر هذا الفصل على هذا النسق وبوتيرة متسارعة بدخول زوجة أخرى – كما هو متوقع – ( حسناء ) إلى حياته وتخريبها بالكامل وأفقدت العائلة وحدتها الهشّة وهدوءها الخادع، بجنون إبنه قاسم وهروب زوجته مباركة، وكأن الجنون والهروب دوما هما مآل واقعنا ككك كلما حاولنا الثور والتحرر من طغاتنا.
▪︎مذكرات فتاة عانس
من الوهلة الأولى ومن هذا العنوان الفرعي نستطيع أن ندخل إلى الموضوع بفهم تام، فعنوانها شيء معاش ومجرّب في واقعنا، لكن قد تنصدم بالنهاية، كما فعل الكاتب بهذه النهاية السعيدة، بزواج العانس وانجابها وعيشها الرغد، وهنا قد يبدو العنوان خادعا، يمكن تلخيصه “عانس، لكنها ستتزوج أخر الأمر”، أما فحوى النص الذي جاء في شكل مقتطفات سنوية مرقّمة، فكان كاستمرار لفصل (دولاب الزمن) معاناة المرأة في المجتمعات البطريركية/الأبوية.
▪︎بامبينو
مرة أخرى يستمر الراوي العليم هذه المرة بإبهارنا بقوة القصة وشجنها وجنونها في الغربة، وكيف يمكن أنيتحول شاب باحث عن الحياة أفضل إلى مدمن غارق في حب المال، وسجونه الجسدية وقضبان الغربة، التي هي نفسها قضبان من نوع آخر، ما يلفت الانتباه في هذا الفصل فقدان نزاز حتى لإسمه وشكله القديم، حيث تبدو ملامح لصراع الهوية التي يعاني منها الوجن العربي، الضائع بين حنين التراث والوجود الحديث، الذي عاد إلى الوطن -قسريا- وبدء حياة جديدة، وأيضا هنا نوع من النهايات السعيدة رغم كل شيء، ما يتيح لنا أن نقوص أعمق في ذهنية الكاتب الذي يعيش نوع من الاضطراب لكنه يهزمها دوما بسلاح التفاؤل.
▪︎البوح الأخير
استخدم هنا السارد الرموز التعبيرية الرائجة الإستخدام “الأب/الإبن/الأم” أي ثلاثية الماضي المستقبل والحياة، بحيث يظل الحاضر مائع متذبذب يتأثر بثنائية الأب الإبن أي الحاضر/الماضي، كما أشار لذلك في نص الفصل/القصة “لقد رأيت والدي يسبح في بركة من الدم، ويحاول جاهداً النهوض لإحتضاننا” وكأنه إشارة للماضي الذي مات أمام أعيننا، وهنا الماضي قد يكون للفرد او للحضارة برمتها، وأن الحياة حينها بالنسبة للمستقبل (الإبن) كما جاء على لسان أحد الشخصيات “-أجل ماتت كما يموت الجميع، إلا أن وفاتها كانت حدثاً مأساويا بحق”، وما زيجات الإبن “المستقبل حينها، الذي هو الآن ماضي يحكي للمستقبل الحاضر “الإبن” إلا محاولات (الإبن/الزوج) البحث البائسة عن طعم الحياة التي تموت في كل مرة يقترب من الإمساك بها.
▪︎سوء في التقدير
كان هذا الفصل مليء بالأصدقاء الحالمين وجراحات الماضي من سوء التقدير “اتهام خاطيء للزوجة… عدم المجازفة بنيل حبك ربما الحقيقي كما فعلت و…”
على العموم كان على هذا النسق المتقطع، وتصاعدا للأحداث، بصورة شيّقة، ملئى بالعاطفة والشعور.
الخلاصة: القصة جيدة وجديرة بالقراءة، ولو فقط كانت ثمة وحدة تامة وانسجام بين القصص -حتى ولو وحدة شعور- أعتقد كان سيكون أفضل.
عبدالله مدثر