الرئيسيةأخبارتقنيات السرد في رواية ” مقام السيدة ” لمحمد صالح رجب

تقنيات السرد في رواية ” مقام السيدة ” لمحمد صالح رجب

 الكتابة السردية عن زمن الحرب لا تكون من خلال خطاب سياسي فقط، إنما هي فاعلية أدبية للغة تعبر عن المجتمع وتأثير تلك الحرب عليه وعلى أفراده. وتتحمل هذه الكتابة السردية مسؤولية الصفة المرجعية أو هي طريقة أخرى لمعرفة التاريخ، فتصبح هذه الكتابة مرجعًا معرفيًا لنقرأ فيه دلالات الواقع والكشف عن ذوات أفراد المجتمع أثناء وبعد الحرب.

نحن بصدد رواية ” مقام السيدة” للكاتب محمد صالح رجب الصادرة عن دار الأدهم للنشر والتوزيع.

الغلاف…
تكوين تشكيلي تجريدي بخطوط أساسية، وفيه اختزال للفكرة، فلا تظهر الصورة النهائية للمرأة المرسومة مشابهةً للواقع، بل هو انطباع عن الشخصية. هو لنصف ملامح امرأة يبدو عليها الحزن والبراءة وهو غلاف ملفت للمتلقي – بكل ما فيه من ألوان لها بعد تسويقي- قبل القراءة، وسيجد أنه مناسب لمحتوى الرواية بعد القراءة، وقد كتب اسم الكاتب والعنوان أعلي وأسفل اللوحة وذلك لوضعها بين دفّتي الاسم والعنوان.

العنوان..
العنوان جملة اسمية غير كاملة، وترك الكاتب تكملة العنوان للمتلقي عن سر هذه السيدة التي صار لها مقام، وهل أصبح لها مقامًا بمعنى مكانة عالية أم مقامًا كما للأولياء. العنوان به اتجاه صوفي محتمل للرواية. والمقامات في العموم مكان يدفن فيه من يُتّفق على صلاحه وورعه، ويتعلق بهم نسبة كبيرة من أفراد المجتمع وقد أعطوهم منزلة احتراما، وفي بعض الأحيان يقدمون لهم النذور ويقيمون الاحتفالات في مواسم معينة عند هذه المقامات.

الإهداء.
به انتماء لقرية الكاتب، وأن لها مكانة خاصة وكبيرة في وجدانه، وبه وفاء وحب كبير لوالده ووالدته.
الكتابة في الرواية بتقنية الراوي المتعدد أو ما يعرف بتعدد الأصوات والرواة يتكلمون بضمير الأنا، وهنا يحكي كل بطل من أبطال العمل من زاويته ووجهة نظره وفي النهاية تكتمل الصورة والرؤية السردية. هذه الأصوات عن هُوّيات لديها صراعات وهذه الهويات انعكاسًا لظروف مجتمعية أو سياسية عامة وتتكلم بسلوكياتها ومنطقها، وما تحكيه من أحداث عن الخوف والقلق وشعور بعض الشخصيات بالدونية وبافتقادها يقين أهمية علاقاتها بما حولها ولأن الكاتب رأي أن أفضل من يتحدث عن ذات الشخصية هي صيغة الأنا. نجد ذلك على مدار السرد في فصول أو أجزاء الرواية، مثل جزء “السيد العزوني المحامي” ص 29 ” شد انتباهي منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها، بدا هادئاً…..” فالكاتب الذي يجلس خلف الرواة ويمسك خيوط السرد هو لا يكتب المشهد أو السرد بل ترك مجالاً حرًا للشخصيات؛ ليكونوا في السرد بوصفهم وسلوكياتهم وتعلقهم بالمكان، بل يصل الأمر إلى أن يكون لهم صفة الشهادة على ما حدث وترك التأويل والدلالة على المتلقي من قبول أو رفض الأفعال ورد الأفعال.

الكتابة عن زمن الحرب مشكلة شائكة لأنها قائمة على المفارقة بين الواقع بأحداثه الحقيقية المثبتة بالتاريخ وبين الخيال الأدبي، هذه المفارقة تصنع ولادة جديدة لخطاب الكتابة، هذا الصنع يعمل على استنطاق التاريخ وفهم حقيقته في وقت الحرب ووقت الكتابة عنه وبعدها، واحتمالات تحول الحقائق التاريخية أولاً إلى مجال خصب للكتابة وكذلك التغيرات التي تحدث على المجتمع والأشخاص بعد انتهاء هذه الحرب. وثانياً تذكر تلك الأحداث والتفكير فيها ووضع تقييمات نسبية محتملة وذلك لما في الكتابة من فاعلية وضع أفكار وإبداء الرأي بطريقة غير مباشرة عن طريق كتابة خطاب سردي.
دلالة الكتابة عن الحرب توضح لنا – ليس فقط – الدمار المادي من عتاد حربي ومبانٍ وما إلى ذلك، لكن توضح نوع آخر من الدمار هو الدمار المعنوي من تدمير نفسي في حالات الهزيمة الشخصية للإنسان وحالات رفع الروح المعنوية في حالات النصر في عموم المعني.
ومن أعجب ما في الحروب أن يصير موت الأشخاص شيئًا هينًا ويتكلم عن الشهداء أو الجرحى بالعدد كأنهم صاروا من العتاد والجمادات، ومن هنا يعتاد الإنسان على فكرة الموت ومنها يؤدي إلى دمار نفسي للمجتمع وموت الكثير من المبادئ والقيم المحركة لمجتمع ما. نجد أن السرد من متخيل لشخصيات وأحداث واتصال ذلك بما يمليه عليه الواقع المرجعي المشروط بمسارات السرد ولد نوعًا من الاستلاب الذي يعيشه السرد وتعيشه شخصيات النص بما فيه من اغتراب مادي من انتقال وتهجير أسر إلى مدن وأماكن أخرى. نقرأ ” حملنا أغراضنا ونزلنا، محطة القطار كانت تعج بالبشر المهجرين ومستقبلهم ملأوا المكان، يحتضن بعضهم بعضا” ص 40. واغتراب نفسي لبعض الشخصيات في ذاتها ومحاولة المضي في الحياة رغم كل ما يحدث لها، ومحاولة السعي للاحتفاظ بالذكريات والقيم وكذلك محاولة إعادة التوازن المفقود لحياتهم المستلبة بفعل الأحداث. في هذه المفارقة الكتابية السردية يظهر لنا توسط المشهدية كتقنية فنية عن الدمار في معناه العام، وتظهر دلالات المشهد بتعلق مكاني وبشرى وتشكيل وتوظيف كتابة بنيت على أحداث حقيقية. ومن هنا تصبح الشخصيات لها مرجعية معرفية وفاعلية في سرد المتخيل في بناء مفتوح مع الحكاية ومع الحكي وذلك يؤدي إلى صدقها وتصديقها من قبل المتلقي وتكون مستعدة لمحاورة ذاتها ومحاورة باقي الشخصيات ويضعها السرد أمام ذاتها لتؤهلها إلى التطور والتغيير، نقرأ ص 54 ” وجدتني أتذكر الموت والآخرة ، وجدتني أتذكر أناساً غيبهم الموت و لم يبق إلا ذكراهم عطرة أم نتنة وحين رزقت بمولود لم تسع الدنيا فرحتي أسميته كامل لعله يكون أقرب إلى الكمال ومنذ ذلك الحين رحت أخطط لحياتي بعيدًا عن المخدرات، ومشاكلها لا أريد لابني أن يسلك ذلك الطريق” وكذلك تغيير رأي السيدة نضال من الرفض لقبول زواج ابنها يوسف من زينب ابنة المحامي. نقرأ ذلك ص 151 و152.
من هنا نجد أن للمكان له دور كبير بل عامل مرجعي وأساسي لعلائق سردية ومجتمعية وما يحوي السرد من موقف نقدي غير مباشر أو خطاب به وعظ مثل ص 119 على سبيل المثال. ويجعل الأفعال قابلة للتأويل والنقد والاختلاف وذلك في استمرار الجدل عن العلاقة التاريخية بين المتخيل والواقع والأحداث التاريخية والأثار المجتمعية المترتبة على التغيرات الكبيرة في حياة الشعوب مثل الحرب أو دخول الكهرباء لمكان ما لأول مرة لم يصل إليه وما تبع ذلك من تغيرات كبيرة نقرأ ص 64 “الكهرباء سوف تجد طريقها إلى القرية فسادت حالة من الفرح، ولم لا والشوارع سوف تتخلى عن ظلامها، الثلاجة سوف تعرف طريقها إلى البيوت، سوف يشرب الأهالي الماء البارد في الصيف ويحتفظون ببقايا طعامهم لأيام ، وسوف تصبح المذاكرة أيسر ويُقبل التلاميذ على دروسهم بعد أن تصبح لمبات الجاز جزءا من الماضي، والأهم أنهم سوف يستمتعون بالمباريات ولن يكونوا تحت رحمة الجرار الزراعي ”

الشخصيات…
تقنية بنية الشخصيات في الرواية اعتمدت وبشكل أساسي على حكي معاناة الشخصية، وكان فضاء الحكي السردي وما به من أحداث مرت عليها يعتمد على هوية الفضاء المكاني وما به من مقومات الذي هو قرية ريفية في دلتا النيل، وما لهذه القرى من تكوين مجتمعي معين وشخصيات موجودة في كل القرى مثل العمدة و شيخ الخفر وشيخ الجامع الشيخ مسعود والعاملين بالزراعة الفلاحين وبعض المتعلمين مثل السيد العزوني. وكذلك شخصية من الأعيان الذي يمتلك المال والنفوذ والأراضي ويقوم بالترشيح للانتخابات بل ويفوز مثل النائب يوسف المنزلاوي.
هذه الشخصيات ليست إعادة تركيب لنسخ من الواقع وليست مجلوبة لمواقف جاهزة لإرادة الكاتب، لكن هي عملية بناء وتكوين لتقوم الرواية بمهمة الإحالة عند القراءة لدى المتلقي على الواقع وربطه بالمتخيل، وهي تؤدي دورها في تجسد رؤية العالم والمجتمع من وجهة نظر الكاتب عن طريق الشخصيات وتمارس عبر سلوكها وكلامها وأفعالها ومجمل العلاقات البينية التي تعيشها برؤيتها للمجتمع، وذلك يجعلها تبدو حقيقية ومصدقة. هذه الشخصيات الناتجة عن زمن الحرب والتي تدور في حدود هذا الزمن ليست سوية تماما وتتجاوز عدم سويتها حدود الثنائية بين الشخصية الروائية المتخيلة والحقيقية أو المفترض أنها في الواقع المحتمل الذي ممكن أن نراها. وبذلك نرى أن الحرب هي اللاسوية هي المعنى العام لعدم الاستواء النفسي والشخصي والمجتمعي لما فيها من دمار يلحق بكل شيء. فنجد أنه لو لم تقم الحرب لما تم تهجير عائلة مسعود وعائلته وعاش مطمئنًا في بيته. ولما وصل الأمر إلى أن طمع فيها صديق يوسف المنزلاوي ولما تزوجت زيجة غير متكافئة، مما أدى إلى حياة انتهت بموتها. ولم نجد شخصية مثل عبد الرؤوف الذي عاد من الحرب نقرأ “لكنه حين عاد كان رجل غير الرجل، لم يعد الصول عبدالرؤوف القوى العفي صاحب الهيبة والذي كانت تقف على شاربه الصقور ونظرة عينيه ترعب الرجال وعقله يزن بلد كما يقولون، إنما عاد بعينين منكسرتين، ولسان لا يقوى على الكلام، وذراع يمنى حزينة….إلى…. يسخر الأطفال منه”. ص 26
هذه الشخصية بصفتها تعكس واقعاً عانى لدرجة الإصابة النفسية الواضحة وذلك في خسارة ليست للمدن أو الأعمال أو الحياة في العموم، ولكن خسارة الإنسان بتدميره نفسيًا كذلك. ونجد كذلك أن الشخصيات لديها مأزق تناقضي مع البيئة والوسط الذي تعيش من حيز له مبادئه وقيمه وموروث وبين تطلعات بعضهم وما يصاحب ذلك من محاولات الاستبدال الطبقي وتطلعات البعض للحصول على مزايا بأي شكل والوصول الى طبقات اجتماعية أعلى عبر الحصول على المال والسلطة كالمحامي السيد العزوني.

الزمن..
يعد الزمن عاملًا أساسيًا في تقنية السرد، لذلك يعتبر الحكي فنًّا زمنيًا وما فيه من منطق العلاقات داخل السرد ونسيجها اللغوي ومن ثم الدلالة العامة النابعة من تشابك عناصر السرد كلها، والزمن الروائي ليس في التشكيل فقط وإنما هو تعبير عن رؤى الكاتب تجاه الحياة والإنسان والكون، والزمن الروائي يتقارب مع الزمن الواقعي في التشكيل والرؤى، وهو زمن تكثيف وقفز وحذف وتكسير للتسلسل المنطقي لذلك نجد أنه هنا في الرواية زمن مرن تحرّر فيه الكاتب من قيود الترتيب ويكتب السرد الزمني ببنية روائية خاصة به، إما بالاسترجاع أو الاستباق وكل ذلك حسب معطيات النص. من هنا نجد أن الزمن السردي يتسم بالتداخل والتكسر فنجد سرد يحكيه الشخصيات من وجهة نظرهم كأنهم تقابلوا في مكان ويحكي كل منهم الحكاية من زمن معين يراه مناسبًا للحدث المحكي، فنجد كتابة سرد فصول أو أجزاء مستقلة كل منها لها عنوان، مما يؤدي إلى بناء سردي له سياق المقاطع، هذه المقاطع لها وظيفة فنية سردية ودلالية تتصل بالزمن الماضي والحاضر والمستقبل وهذا المرور في عالمه المتخيل، هذا الزمن له صلة وثيقة مع الزمن المعاش وزمن الشخصيات التي تحكي عن عالمها، وهذه الفصول أو المقاطع تحكي زمن أو حياة أو أحداث تاريخية تتخذ شكل المشاهدات التي تكسر ترتيب الزمن في السرد. هنا تنبيه من الكاتب للمتلقي أن هناك الكثير من الأحداث التي تمر في حياتنا دون وعي أو إرادة منا ولكنها تظل عالقة بالذاكرة ويتذكرها الإنسان في لحظة ما فيكتشف الحكمة من حدوث هذه الأحداث.
وتتحد كل المقاطع المسرودة زمنيًا وتنفتح على أحداث الشخصيات، لنتعرف على الأحداث التي تكون على خلفية حياة وماضٍ من كتابة استرجاع الزمن ومستقبل داخلي للسرد في حالة من استباق الأحداث. ولذلك يتكسر زمن السرد في الرواية، فيبدو زمنًا لا يحيل إلى ماضٍ قريب أو بعيد فتظهر تقنية الاسترجاع أو الفلاش باك ويشير إلى زمن الحرب وأثر النكسة على سبيل المثال، وما لها من أثر باقٍ وحاضر. كسر الزمن يبدو كأنه يشتت المسرود الراهن وتتفتت حكاية الحرب بين فصول الرواية وتتحول الرواية من فصول سردية متجاورة إلى التداخل والتشابك وكأن الرواية بسردها ينسج حكاية على إيقاع الحرب الذي هو دلالة الصراع، الصراع في معناه العام من دمار المكان، وكأن المكان الذي تدمَّرَ هو تدمير للنفس البشرية وما بها من وقفات في حركة الزمن ووقفات بما في النفس من صعود وهبوط للصراع العام والصراع النفسي الخاص، ومن هنا نجد أن الحبكة الروائية علي أزمنة تتداخل وتتكاثف وتستغني عن استمرارية الحركة إلي الأمام من خلال تيار وعي السرد المُصَدَّر للمتلقي ومراوحة الزمن.

في النهاية..

كل سرد ولو حتى للتاريخ يروي من الذاكرة وبذلك ينتمي إلى عالمها ومن هنا يسرد الكاتب ما تمليه عليه ذاكرته أو ذاكرة من حكى له بعض الأحداث، ويتيح السرد مجالًا، لتدخل المتخيل وابتداع مسرود جديد مع توظيف هذه الأحداث. من هنا يعتبر الواقع الاجتماعي الذي هو تاريخ بحكم صيرورة الزمن مرجعًا تاريخيا. الرواية تقول إن الحرب في معناها العام -حرب بين بلد وبلد أخرى أو حرب بين الأشخاص الموجودين في مجتمع ما وهي حرب الوجود-لا ينتج عنها مجتمعٌ سويٌّ، بل تعكس واقعًا يعاني فيه أفراده من ظروف هذه الحرب وتبعاتها.

****

حنان ماهر (كاتبة وناقدة مصرية)   

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *