جلس رشيد طويلا في قاعة الانتظار الكبيرة مع جحافل من المتقاعدين والمتقاعدات اللدين حجوا قبيل نهاية تلك السنة التي تلت عملية المغادرة الطوعية للإدارة العمومية من مختلف جهات المغرب الى ادارة المركز المغربي للتقاعد المتواجد بحي أكدال بالعاصمة الرباط . ما أن رن صوت الشاشة الالكترونية المعلقة على الحائط وكتب عليها الرقم المطلوب حتى قام رشيد من مكانه وتوجه نحو الشباك الوحيد وسلم الموظف ظرفا أصفر متوسط الحجم كتب عليه اسمه ورقم معاشه .
غادر مقر الادارة وقطع الشارع الكبير نحو الباب الرئيسي لكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية لأكدال حيث ركب سيارة أجرة صغيرة نقلته الى باب الأحد . مشى في شارع محمد الخامس الذي يتواجد بقلب العاصمة الذي لا يسلكه الا قليل من الناس في تلك الفترة من ما بعد الظهيرة. ترفرف الرايات الحمراء التي تتوسطها نجمات خماسية خضراء عاليا فوق الأعمدة الطويلة التي نصبت على جنبات الطريق . اجتاز رشيد بنايات بريد المغرب ومقر البرلمان ومشى قليلا ، ثم دخل الى محطة القطار الرباط المدينة عبر بابها الرئيسي . اشترى تذكرة الرجوع من احدى الشبابيك وجلس في المقهى لتناول كأس قهوة سوداء .كان ينظر الى ساعته اليدوية بين الفينة والأخرى ،وفي لحظة غادر كرسيه ونزل الدرج المؤدي الى الأسفل حيث تتواجد السكك الحديدية المؤدية الى مختلف الاتجاهات.
كانت الساعة تشير الى الثالثة ما بعد الظهيرة ،حينما بدأ رشيد يبحث عن كرسي شاغر بالرصيف لينتظر القطار الآتي من مدينة الدار البيضاء و المتوجه الى مدينة طنجة . بدت أشعة الشمس محتشمة في كبد السماء . لم يكن يتبقى الا تلاثون دقيقة تقريبا عن الوقت المحدد لدخول القطار الى المحطة . كان المسافرون موزعون هنا و هناك على الرصيف . لم يجد كرسيا فارغا .
بدأ يذهب و يعود على جنبات السكة الحديدية . حدث نفسه قائلا : سأعود ثانية الى تلك المدينة الملعونة . لم يكن علي أن أشارك في عملية المغادرة الطوعية و أغادر مهنة التعليم قبل الأوان . منذ ان فعلت ذلك لم أدق طعم الراحة . يصمت قليلا ، ثم يضيف : لا . لا. بل العكس هو الصحيح .ان كثرة الراحة هي من أصبحت تزعجني ! لم أعد أجد ما أفعله. لقد اشتقت الى ضجيج التلاميذ و شغبهم . اشتقت الى رائحة الطبشورة وغبارها الذي يتناثر في الهواء كالغبار الذري عندما أكتب على السبورة فيتصاعد بعضه الى الأعلى لينتشر في فضاء قاعة الدرس ، بينما أستنشق بعضه الآخر فيستقر بقصبتي الهوائية و رئتي. بدأ يسعل سعالا مسعورا . توقف فجأة عن السعال وتابع مناجاة نفسه : لقد أصبح الزمان بتلك المدينة العاهرة ثابتا ولا نهائيا كالأبدية .المدينة أصبحت مفرغة من كل شيئ كالصحراء التي لا حياة فيها ! مشى قليلا و لوح بيده اليمنى في الهواء ثم وضعها على دقنه ، ابتسم ، ثم تابع : والغريب في الأمر هو أن صندوق التقاعد يطالبنا نحن معشر المتقاعدين بأن نبعث له قبيل نهاية كل سنة بشهادة الحياة لنعطي الدليل القاطع على أننا ما زلنا أحياء بالرغم من أننا متنا منذ زمن طويل . ضحك ،ثم أضاف : نعم .نعم. لقد متنا بالفعل ولم نبقى أحياء سوى عل الورق فقط . اننا كائنات ورقية !
عندما كان يمشي على الرصيف التقى بامرأة أجنبية في نفس سنه تقريبا ،متوسطة القامة وغليظة ولها شعر اشقر تخللته كثير من الشعيرات البيضاء وعيون زرقاء . ألقى عليها التحية باللغة الفرنسية فردت عليه بلكنة فرنسية راقية ذكرته بلغة الكتاب الفرنسيين الكبار كموليير وشاتو بريان وموباسان وآخرون ،ثم قالت :
– أريد ان أشتري كتابا لاحد الكاتبات المغربيات الفرانكوفونيات .هل توجد كتب هناك بالمتاجر الموجودة بالأعلى عند مدخل الباب الرئيسية ؟
– نعم.لكن أرى أنه ليس لديك متسع من الوقت لفعل ذلك لأن القطار سيدخل المحطة بعد حين .
ما كاد رشيد ينتهي من كلامه حتى أعلنت سيدة في مكبر الصوت بأنه لأسباب تقنية فان القطار الآتى من الدار البيضاء و المتوجه الى مدينة طنجة سيتأخر عن موعده المحدد بثلاتين دقيقة . حينها قال للتو مستطردا :
– حسنا . الآن فقط قد أصبح لك متسع من الوقت و يمكنك الصعود للأعلى لشراء الكتاب الدي ترغبين فيه. ان القطار سيتأخر .
ابتسمت ، ثم قالت :
-هذا شيئ جيد . فلترافقني من فظلك ان لم ترى مانعا في ذلك .
– نعم سيدتي . نعم . سأرافقك بكل تأكيد .
– شكرا .
– ما هو اسمك ؟
– رشيد . وأنت ؟
. تشرفت بمعرفتك . أنا باريسية و اسمي كريستين –
اسم جميل . أنا كذلك تشرفت بمعرفتك .-
غادرا الرصيف متجهان الى مدخل المحطة اشترت كريستين كتاب “شهرزاد ترحل الى الغرب ” المكتوب باللغة الفرنسية للكاتبة فاطمة المرنيسي ورجعا الى الرصيف . جاء القطار فصعدا و جلسا الى جانب بعضهما في نفس المقصورة.
*******
كانت مقصورة القطار نصف ممتلئة ولا يتواجد بداخلها الا امرأة وأبناءها الثلاثة . تجلس الأم وهي امرأة جميلة متوسطة العمر تحمل بين يديها ابنها الصغير، في المقعد القريب من النافذة والمقابل لمقعد كريستين بينما ابنها وابنتها الآخرين يجلسان على المقاعد المتواجدة على الجانب الأيسر لرشيد . فبينما كانت المرأة تظم ابنها الى صدرها وتضرب بخفة وحنان بيدها اليمنى على ظهره لينام ، كان الطفلين يحملان هواتفهما النقالة بأيديهما ويضعان صناتات على أدنيهما . كانا منهمكين تماما في التفرج على فيديوهات اليوتوب. يتبادلان الفيديوهات مع بعضهما عبر الواتساب ، يتبادلان اشارات يدوية ويضحكان بين الفينة والأخرى لسبب لا يبدو جليا للعيان . قليلا ما كانا يزيحان الصناتات من أدنيهما ويدخلان في حديث خفيف ومباشر مع بعضهما باللغة الانجليزية . حدث رشيد نفسه : رغم كل هذا التطور الهائل الدي توصل اليه الانسان في مجال التقنيات الجديدة للتواصل والاتصال فانه أصبح يعيش عزلة أكبر مما كان عليه الحال في الماضي . ان العالم القديم كان منفتحا أكثر من العالم الحالي الذي نعيش فيه !
أخرجت كريستين الكتاب التي اشترته و بدأت تقرأه. توقفت للحظة ، ثم قالت:
– ما هو عملك ؟
– أنا أستاذ متقاعد . كنت أشتغل استاذ لعلوم الحياة والأرض بالأقسام الثانوية للتعليم العمومي .وأنت ؟
– أنا طبيبة نفسية . لكنني متقاعدة أنا كذلك.
– آه. هدا شيء جيد . هل أتيت الى للمغرب للسياحة ؟
– لا .أنا أتيت لزيارة ولدي الدي يسكن بالعاصمة الرباط والذي تزوج بفتاة مغربية. أما أنا فإنني حجزت غرفة لليلتين بمدينة أصيلة و أنا ذاهبة الى هناك لقضاء بعض الوقت . لقد تعودت على زيارة هده المدينة الجميلة كلما جئت الى بلدكم .
صمت رشيد قليلا. ثم قال :
-أنا ازددت بمدينة أصيلة .
ابتسمت ، ثم قالت :
-آه. نعم . هذا شيء رائع . أنت محظوظ جدا لأنك ولدت هناك . انها مدينة ساحرة.
– نعم .انها مدينة جميلة .لكنني غادرتها مند أن كنت طفلا . أنا أسكن الآن بمدينة طنجة.
كان رشيد ينظر الى النافدة حيث كانت تمر أمامه عينيه صور من حقول سهل الغرب الخصب والشاسع ، بينما كان عقله يركز في البحث في ذاكرته عما تبقى عالقا بها من ذكريات ترتبط بطفولته الأولى التي قضاها هناك . لم يعثر على أشياء كثيرة الا من بضعة صور شحيحة وباهتة : يلعب في بركة ماء أمام باب المنزل . يجدبه شعاع الخراطيش المتواجدة بحزام أبيه العسكري فيمشي خلفه بجانب السرير ليضع خرطوشة في فمه . كان محمولا بين يدي أمه أو أحد أقاربه الدي كان يمشي في حقل كبير تنمو به بعض الأشجار و النباتات البرية ، كان يسمع صوت تحطم أمواج البحر و نباح كلاب دون أن يرى شيئا ، تأتي تلك الأصوات من بعيد من جهة الخلف وتتلاشى شيئا فشيئا كلما تقدم الشخص الدي يحمله الى الأمام .
قالت كريستين :
– خد هدا الكتاب واقرأه ان أردت.
لم يجب رشيد . وضعت كريستين يدها الأيسر على كتفه فهرع في مكانه وهو يقول :
– ماذا ؟! ما هذا ؟!.
-هل كنت نائما ؟
-لا .لا. أنا صاح .
– خد هذا الكتاب و ابدأ بقراءته ان أردت فأنا سأفعل شيئا آخر . سأبدأ بإعداد الطماطم.
ضحك رشيد ، ثم قال :
– ستعدين الطماطم هنا على متن القطار. أنت تمزحين سيدتي .أليس كذلك؟!
ابتسمت كريستين بهدوء و نظرت بعينها الزرقاوتين الثاقبتين الى عيني رشيد و قالت :
-لا . أنا لا أمزح بتاتا .لتعلم انه يمكنني ان أعد هنا ما شئت ؛ الطماطم الحمراء ،أو الفلافل الخضراء ،أو البطيخ الأصفر.لكنني سأعد اليوم الطماطم الحمراء .سترى بأن كل شيئ ممكن .
أخرجت كريستين للتو من محفظتها اليدوية كبتين من الصوف دو اللون الأحمر و الأخضر وسنارة من الألومنيوم و بدأت عملية الحياكة . انهمكت في عملها بينما بقي رشيد مذهولا ينظر اليها تارة وينظر الى الحقول عبر النافدة تارة أخرى .
-انك تعدين طماطم حمراء من الصوف اذا .
– نعم . انها طماطم حمراء ذات سيبال أخضر . لقد قلت لك بأنه يمكنني أن أطبخ أي شيء هنا لكنك لم تصدق دلك في أول الأمر.
– هل ستستعملينها في التزيين .
نظرت الى عيني رشيد مليا ، ثم قالت :
– رغم أنها جميلة لكنني سأستعملها كواق لليد من أجل اخراج صحون الأكل المرتفعة الحرارة من فرن الطبخ . لذلك فان الصوف المستعمل يجب أن يكون سميكا بعض الشيء .
-آه . حسنا . وهذا شيء مفيد أيضا.
تابعت عملية الحياكة لوقت يسير ، ثم قالت :
– ماذا تفعل الآن بعد أن حصلت على تقاعدك ؟
-لا شيء .
ابتسمت ، ثم قالت :
– كيف لا شيء ؟! أنت تفعل شيئا ما لا محالة.
صمت رشيد قليلا . وبعد ذلك قال :
– أقصد أنني لا أفعل شيئا مهما . أذهب الى المقهى لأثرثر مع أصدقائي . أقرأ الصحف و بعض الكتب و المجلات . وأزور الحانات من أجل السكر المرح والمجون مع بعض العاهرات .
– ومادا أيضا ؟!
دق رجل بقطعة حديدية على زجاج باب المقصورة ودخل . انه شاب جميل وغليظ يحمل الزي الرسمي للشركة و كاسكيت فوق رأسه . انه المراقب الذي قام بمراقبة جميع تذاكر المسافرين وغادر المقصورة والابتسامة لا تغادر محياه.
اخرج رشيد لوحته الالكترونية من محفظته . أشعلها و بدأ يقرأ مختلف الأخبار التي تناقلتها مختلف المواقع الاخبارية في ذلك اليوم .
– لا شيء . لا شيء . عندما أحس انني أختنق هناك بمدينة طنجة أسافر الى العاصمة لأقضي بعض الوقت عند أختي .
– هل أنت متزوج ؟
– نعم . نعم . أنا متزوج ولي ثلاثة أولاد .
– هدا شيئ جيد .
صمت قليلا ،ثم أضاف :
– تزوج كل أولادي وهاجروا للعيش بأوروبا ولم يبقى في البيت الا أنا وزوجتي.
نظرت اليه وتابعت عملية النسيج غير أن رشيد قال :
– وأنت ماذا تفعلين بعد أن حصلت على التقاعد ؟
-أنا أعيش وحيدة في البيت بعد أن توفي زوجي . لكنني ما زلت أشغل في نفس الميدان.
ابتسم ، ثم قال :
– أنت لم تتقاعدي اذا.
*******
نظرت كريستين الى رشيد بنوع من الحزم ، ثم قالت :
– لا. أنا متقاعدة . ولكنني أتابع عملي كطبيبة نفسانية بطريقة تطوعية .
– كيف ذلك ؟!
– اشتغل بمركز تسهر على تسييره جمعية فرنسية من المجتمع المدني . تهدف هده الجمعية الى معالجة بعض المرضى النفسيين دوي الحالات البسيطة باستعمال طرق لطيفة في المعالجة عوض الطرق السريرية الكلاسيكية الأخرى .
– أه. جيد . لكن ماذا تفعلين بالضبط بذلك المركز؟
توقفت عن حياكة الصوف . التفتت اليه ، ثم قالت :
– أنا أقوم بتأطير مجموعة من المرضى . المجموعات التي أشرف على علاجها تتكون عادة من المثقفين .
– وأي طريقة تستعملين في علاجهم ؟
صمتت كريستين وانغمست في حياكتها لمدة طويلة . خيل لرشيد انها سوف لن تجيبه لأنه لربما ما يطلب معرفته يتعلق بسر مهني يخصها و يخص المركز الذي تشتغل به . لكنها في لحظة وضعت طمطمة الصوف و السنارة على جانبها الأيمن ، ثم قالت :
– أنا أستعمل السرد القصصي كطريقة لمعالجة المرضى .
ابتسم رشيد ، ثم قال :
– تستعملين كتابة القصة لمعالجة مرضاك ؟! ان هدا شيء غريب فعلا.
-نعم . انني أقوم بتأطير مجموعات من المستفيدين من خلال الاشراف على ورشات عمل . تتشكل كل مجموعة من عشرة مرضى . أعد صورة ما مسبقا و أطلب في كل حصة من المرضى بكتابة قصة حول موضوع الصورة في وقت لا يتجاوز الثلاثين دقيقة . بعدها أتابع حالتهم النفسية من خلال محتوى القصص التي كتبوها .
كان رشيد يتابع ما تقوله كريستين بشغف كبير . عندما انتهت ، قال :
– هدا شيء رائع .وهل يمكنني أن أستفيد أنا الآخر من أنشطة هذه الورشات؟
ضحكت كريستين ضحكة خفيفة ، ثم قالت :
– أنت أحمق فعلا .انه غير ممكن بالنسبة لك لأن حاجز المسافة لا يسمح لك بذلك .انه ليس معقولا أن تسافر الى ألمانيا لحضور ورشات كتابة القصص. كما أنه لا يمكنك تتبع مثل هذه الورشات عن بعد في وقتنا الراهن .
صمتا لمدة والقطار يتحرك الى الأمام ويبعث بصفيره في الأجواء بين الفينة والأخرى . صور الحقول ما تزال تمر أمام النافذة. قالت كريستين:
– أنت تكتب ؟ هل كتبت مقالات أو نصوصا أدبية من قبل ؟
-لا . لا . أنا لم أكتب قط ولا أحب الكتابة لأنني أفضل أن أنغمس في عيش الحياة عوض التفكير فيها عبر الكتابة.
ناولت كريستين رشيد طمطمة واحدة من الطماطم الثلاثة التي في حوزتها. انها طماطم حمراء دائرية الشكل ولكل واحدة منها سيبال من الصوف الأخضر على شكل نجمة خماسية وضعت في الوسط . قالت :
– احتفظ بهذه الطمطمة الحمراء ، انها هديتي لك . لكن قل لي كم تبقى من الوقت للوصول الى مدينة طنجة؟
– خمسون دقيقة.
قالت وهي متحمسة :
– هذا شيء جيد .
أخرجت هاتفها النقال من حقيبتها اليدوية ،ثم قالت :
– هل تسمح لي بأخذ صورة تذكارية لنا مع بعض ؟
-نعم . نعم . هدا شيئ يسرني .
أخدت كريستين صورة سيلفي لهما ، ثم قالت :
– أعطني عنوانك الالكتروني لأبعث لك الصورة الآن.
أعطاها رشيد عنوانه الالكتروني فبعثت له الصورة في الحين . قالت بعد ذلك :
– افتح بريدك الإلكتروني . ستجد الصورة هناك .
شغل لوحته الالكترونية . فتح بريده الالكتروني . ضغط على الرسالة ثم على الصورة . بدت الصورة التي تخلد وقت لقاءهما واضحة للعين وجميلة .
– نعم . لقد توصلت بها . شكرا لك . انها صورة جميلة جدا.
– لا شكر على واجب . أمعن النظر فيها جيدا.
-نعم . أنا أفعل .
ابتسمت ابتسامة خفيفة لا تخلو من مكر ،ثم قالت :
– انظر الى الصورة جيدا و أكتب قصة قصيرة حول موضوع لقاءنا.
وقف رشيد على رجليه كما يقف الديك الذي ذبح بموسى حادة .بقي مذهولا لا ينبس بكلمة . أحس بان فرحا عارما يجتاحه من أخمص قدميه الى رأسه .قال :
– شكرا لك عزيزتي كريستين . نعم سأفعل بكل تأكيد . هذه فكرة رائعة حقا.
كانت كريستين تتفحصه بدقة في كل حركاته .عاد للجلوس في مكانه ،ثم قال:
– نعم سأكتب القصة.
شغل رشيد لوحته الالكترونية . فتح صفحة في تطبيق الوورد و بدأ يكتب . مر وقت طويل دون أن ينبسا بكلمة واحدة . كانا كل واحد منهما منهمك في عمله. رشيد يكتب و كريستين تتابع نسج الطماطم . لكن ذلك لم يمنعهما من الالفات وأن يسرقا نظرات خاطفة لبعضهما بين الفينة والأخرى . كانت كريستين تتفادى أن تلتقيا نظراتهما . لكن في لحظة ما ركزت نظرها على رشيد و عندما نظر اليها تعمدت عدم خفض عيونها .بقي ينظر الى عيونها الى أن أحس في لحظة ما انه يضيع في زرقتهما اللامتناهية . عيونها الزرقاوتين بحر لا حدود له ولا مستقر. هو الآن يسبح في البحر .عادت فجأة أصوات حلم طفولته الأولى بمدينة أصيلة حول انكسار موج البحر و نباح الكلاب التي تأتي من بعيد .أصوات تخرج من العدم . تأتي من مكان قصي بداخله حيث أن لا شيء يمكن أن يصبح كل شيء . ترتفع قوة الأصوات شيئا فشيئا فتصبح ضجيجا لا يطاق . يحط رشيد لوحته الالكترونية فوق ركبتيه و يضع يديه فوق أدنيه . انه يتصبب عرقا . تضع كريستين يدها الأيسر على كتفه فيخرج من البحر . تتلاشى الأصوات رويدا رويدا في العدم .
تقول كريستين بنبرة آمرة وهي تتابع التحديق في وجهه :
-لا تتوقف يا رشيد . تابع الكتابة.
قال بصوت مرتجف :
– نعم. نعم .سأتابع الكتابة.
أخد رشيد اللوحة الالكترونية و تابع الكتابة بتركيز أكبر.
مر وقت طويل دون ان يتبادلان الكلام والنظرات . كانت كريستين مستغرقة في قراءة كتاب شهرزاد تعود للغرب . بدأ القطار يصفر . أعلن صوت الميكرو بان القطار سيدخل بعض حين الى محطة مدينة أصيلة و أن على المسافرين المعنيين الاستعداد للنزول .
أوقف رشيد الكتابة وقال :
– اقتربنا من مدينة أصيلة فلتستعدي للنزول .
-شكرا . انزل الحقيبة من فوق و ساعدني من أجل النزول .
جمعت كريستين أغراضها في محفظتها اليدوية . انزل رشيد الحقيبة من الرف وجرها في الممر نحو اقرب باب للقاطرة .
-هل انهيت كتابة القصة ؟
– لا . ليس بعد.
ابتسمت ، ثم قالت :
– حسنا . عندما تنتهي من كتابتها ابعثها لي عبر بريدي الالكتروني .أرسلها قبل أن تغادر القطار.
-نعم . كوني مطمئنة سأفعل.
-شكرا على المساعدة .
لا . بل أنا من علي أن يشكرك. –
توقف القطار بمحطة مدينة أصيلة . تبادلا التحية . نزلت كريستين بينما رجع رشيد الى مكانه و تابع الكتابة . انتهى من كتابة القصة بعد مدة يسيرة . عندما كان القطار يدخل الى محطة مدينة طنجة ، بعث رشيد بنسخة من القصة الى كريستين عبر بريدها الالكتروني .
عندما كان رشيد يجمع أغراضه لاحظ أن الكتاب الذي اشترته كريستين من محطة الرباط موضوع على المقعد الذي كانت تجلس به . لقد نسته هناك . توقف القطار بمحطة طنجة . وضع اللوحة الإلكترونية والطمطمة الحمراء والكتاب بمحفظته وحملها على ظهره ونزل من القطار الى الرصيف.
خرج رشيد من محطة القطار . مشى على الكورنيش . كانت الشمس محتجبة وراء الغيوم ورياح باردة و خفيفة تهب على الخليج . حدث نفسه : تبدو طنجة جميلة في هذا اليوم ! لم أكن أتوقع ان أجد المدينة على هدا الشكل الرائع . استنشق الهواء ملء رئتيه و اخرج الريح من فمه : أوووف .أوووف. اوووف. مشى قليلا . سمع اشارات صوتية . فتح الحقيبة وشغل لوحته الالكترونية فاذا به يجد رد كريستين على الرسالة التي بعث بها اليها . كتبت ما يلي : ” لقد أرسلت القصة التي كتبتها في الوقت المناسب . لكنك كتبتها باللغة العربية !”
جرى رشيد بحيوية الشباب على الكورنيش وارتفع عن الارض وهو يحمل اللوحة الإلكترونية بيده اليمنى الى الأعلى . حط رجليه على الأرض ثم قال بصوت مسموع :
– واووووو. ان طعم الطماطم الحمراء كان بحق لذيذا جدا . لن أكتفي بكتابة تلك القصة بل سأكتب رواية.
الكاتب عبد الحميد الهوتة