الرئيسيةالأولىالحرف لا يموت : مقاربة تحليلية لقصائد الشاعرة فوزية عبدلاوي

الحرف لا يموت : مقاربة تحليلية لقصائد الشاعرة فوزية عبدلاوي

الشاعرة فوزية عبدلاوي، مفتشة تربوية ممتازة للتعليم الثانوي، تشتغل بأكاديمية الدار البيضاء، مديرية المحمدية، صدر لها ديوانان سابقان الأول: بقعة حناء حزينة سنة 2008، والثاني: تقاسيم الريح سنة: 2016، وقريبا سيصدر لها ديوان شعري تحت عنوان (سأرسم لك البحر). بدأت بشعر التفعيلة، وانتهت، بعشق، في قصيدة النثر.

الموت يتربص بالحرف
لم تعد اللغة مأوى الوجود، بل صارت اللغة بركة موت تلتهم غرقا أبناءها من الشعراء، لماذا الموت؟ ألا تتغذى اللغة من رحيق النص الشعري؟ أليس الشاعر من يداعب حروفها، ويكسر حدودها، ويرفع مقامها، ويظهر مفاتنها، ويتماهى مع جمالها، ويبدع صورها، ويسكن صوتها، وينشد بلاغتها؟ كيف صارت (اللغة متاهة احتمالات/ لا نهائية ) أفضت بالشاعر إلى الموت، موت مفتوح على احتمالات متعددة: حبل مشنقة، بركة غرق، انتحار على الطريقة ساموراي؟
كان الشاعر قديما يحمل عدته من ألفاظ ومجاز واستعارة وأجراس إيقاعية، ويرحل بعيدا إلى قبيلة أو مدينة، فيستقبل استقبال الأبطال، بوصفه حاملا اللغة كرأسمال وجودي. كانت الحروف ترياق الحياة، مقاومة الحصار، إثراء الذاكرة، إنعاش المشاعر، بهذا المعنى تشكلت اللغة كهوية جوهرية تماهى في حضنها الأثر، الرمز، الصوت، البقاء.
الآن، ثمة مؤامرة لممارسة القتل، من ساهم في قتل الهوية؟
تكثف الشاعرة عبدلاوي من صور رمزية بلاغية ترمي بالمسؤولية على عاتق سلط تتموقع على خط عمودي: السلطة السياسية والمالية والدينية:
(سوق عكاظ للشعراء/ المفلسين/ وبيت المال / والسبايا الحور / للغزاة والرهبان / والمؤلفة قلوبهم).
لم يكن قتل الهوية أحادي الجانب، بل ساهمت في صناعته سلط تقع على خط أفقي: سلطة المجتمع.
(على الخشبة: القارئ / الجلاد، القارئ/ كاهن التوبة، القارئ/ نص حكم الإعدام).
هل الهوية اللغوية يبتلعها الموت؟
تقول الشاعرة : (فماذا تبقى للكلمة / غير أن تمحو حروفها،/ الشاعر يموت هنا / والآن/ في بركة العزلة المتحركة/ وحيدا كحرف عطف).
تحمل الشاعرة يقينا، بأن اللحظة التي نعتقد فيها موت الشاعر/ الهوية ، هي اللحظة التي ينبعث من رمادها كطائر الفينق، لأن فكرة الموت بلاغ كاذب.

حب بعطر الغباء
في قصيدتها (أحبك أيها الغبي…) تعلن الشاعرة عن استحالة حب، لكونه شبيها ب (تلويحة ميت من أعلى الكفن)، حب يبحث عن شرعية تاريخية في مواكب الحفلات والمراسيم والبرتوكولات، حب بطابع رسمي، يتلون بتلون الأغراض والمقاصد، يتجاور مع أولئك الذين (يخاتلون الله / لينقلبوا على عرشه). حب الاستحالة يفقد أصالته وجدته، يفقد كينونته ويضيع تعبيراته الصادقة في غياهب الزيف (لتعلو لغة الحب ضوضاء اللاشيء). الآن وقد أصبح الحب وثن، فالولوج إلى حرب مفتوحة بات أمرا طبيعيا، (وأنا وأنت رمحان شقيان / يقاتلان في جيش مدحور). في يوم من الأيام ستضع الحرب أوزرها، لكن الموت لن يكون هذه المرة كاذبا، بل بلاغ الحرب سيعلن عن (موت محتوم).
تعود استحالة الحب، كما ترى الشاعرة، إلى مفارقة ظلت عالقة فوق أبراج الملذات والشهوات تعبق خيبتها نسائم نتنة في المخطوطات وجدران القصور،(أنت النفس القادم من رئة الشهوة )، في المقابل تؤمن الشاعرة بحب يتشكل في حضرة لغة ساحرة ووسط أحلام ممكنة وفي أحضان نسائم أزهار بابل، (أنا المدينة الفاضلة / المعلقة على حدائق بابل / على جسر اللغة).
وأمام هذا الاغتراب في مشاعر الحب، تحاول الشاعرة أن تسقط الغباء عن الاستحالة، فتمارس لعبة استفزازية بحسها الأنثوي، تدعو المحبوب أن يصير جلشامش، بطلا يركب المغامرة إلى جانب أنكيدو ويظهر الشهامة والقوة والفحولة والدهاء والإصرار، حتى يتسنى له سحب معشوقته من عوالم المستحيل إلى عوالم ممكنة، في محاولة البحث عن الخلود، خلود الممكن وموت المستحيل.
ابتعد كثيرا كي أرى نور الشمس
في (القلب على الزناد) تستخدم الشاعرة في مطلع القصيدة فعل الأمر، تأمر الحاجز ( أكان ماديا أو رمزيا) أن يبتعد إلى الوراء، فهي لا تمارس الإلغاء الكلي للحضور، إنما تدعوه فقط أن يتوارى إلى الخلف، لأن انتصابه، بهذه الطريقة أو تلك، يشكل تهديدا أمام نور الحقيقة وسلامة الحلم ورصانة الكلمة. ( ارجع للخلف كثيرا كي أمد مدى للرؤيا / القرب يشوه الحقائق/ يمحو تلاوين وأطياف حلم ). ليس الحاجز سوى فضاء الغوغاء مثقل بخطاب ايديولوجي فج، وبروايات عقائدية سلاسل حلقاتها مفقودة، ومخطوطات ومراسيم تدعي الشرعية، ووعود لغو على أعتاب الانتظارات.
البعد عزلة، هناك تتأمل الشاعرة مرآة ذاتها وحريتها، انعتاقها، صفاءها، نورها، حروفها، ف (الحروف عصافير محلقة في جيوب الكون) أو لنقل ( سهم منطلق يخط مسارات الروح الراقصة).
البعد عزلة ورقصة صوفية، تنجذب لها الأنا، تدور حول ذاتها تعانق الله والكون والسماء.
البعد عزلة خارج إكراهات الزمان والمكان، لا زمان ولا مكان للبعد، إنه ممتد في عشق الخلود.
هذا الاختيار الصوفي للهجر إلى معبد الذات، إصرار ورغبة، لأن الحب لا يعشق الغباء الذي يختفي داخل قطيع القرب، فالحرب اختيار (لكنها حربي الصغرى ) حرب مع الذات للانفصال عن القرب، وحربي ضد القرب من أجل رؤية الذات في حقيقتها وصفائها. حرب مكلفة على مستوى الخسائر ( قد يعاديني عالم يتراجع بسرعة الضوء نحو كهفه / قد يعاديني إنسان ما بعد الحضارة المرهقة). لكنها في النهاية (حربي الأخيرة)، كن أو لا تكن (القلب على الزناد يقامر بآخر رصاصة)، لا موقع للعقل حتى يفكر في الضغط على الزناد، لأن مشاعر الغضب ورهان التحرر تتجمع أحاسيس وانفعالات في القلب.
في هذا المسار الجديد الذي عشقته الشاعرة، ( أشتهي رعب الحقيقة/ أشتهي أن نطرح بين مخبلين لطائر خرافي جريح / لأرى وجه العبور سافرا / وأبصق على وجوه سدنة الموت والحياة) لم تستخدم الشاعرة،هذه المرة، فعل الأمر تأمر الحاجز بأن يتراجع إلى الخلف، بل استخدمت لغة هادئة مسالمة فيها نبرة من قرار حكيم ورزين: ( لذا سأتراجع للخلف كثيرا أكثر). لقد انخفض مستوى المواجهة من عنف مفتوح ضد الغوغاء إلى انسحاب صامت داخل الذات، من أجل إعادة بنائها من جديد.

حرق الذات ولا حكم الأوثان
كل شيء وثن، العقائد وثن، الوطن وثن، التاريخ وثن، الزعيم وثن، هكذا ارتفع صوت الشاعرة عاليا يفضح المستور في قصيدتها التي تحمل عنوان (أوثان…). عنوان القصيدة أسقط الخبر، وظل عاريا من كل شيء، سوى من مبتدأ يزيح عن الأسماء أقنعتها.
كررت الشاعرة في هذه القصيد الوثن (5 مرات) والصنم (5 مرات) كأن هذا التساوي في العدد هو نفسه في الاستلاب، فهذه المعادلة الرياضية، هي ببساطة تعبير رياضي متساو بين عدد الأفراد وعدد الأوثان، لكل منا وثنه، عدالة توزيع الأوثان.
تدعو الشاعرة إلى تنظيم حركة الردة ضد الأصنام واجتثاث جذورها من عمق الغباء (أيها الاثنان في جسد واحد / الوثن والمتعبد/ من منكما يلتهم الآخر؟).
تدعو إلى هجر أوثان الغوغاء نحو السفر إلى معبد الذات لممارسة طقوس التعبد، كما تتجلى في ذاتها وتنكشف في روحها ( سافر نحو صرختك الأولى / سافر إلى لحظة انقطاع المشيمة / حيث كنت نقيا كالقطن / مستقيما كرمح ).
جالاتيا …انهضي كما أحب
تركل الشاعرة ذاتها كي تنهض من جديد كهيئة جمالية تختزن في ذاتها حسن استخدام اللغة وحب عالق على أزهار بابل ورقصة صوفية تعانق وحدة الكون، وإيقاع موسيقى يسبح في عوالم الخلود. انهضي يا جالاتيا، هكذا تخاطب الشاعرة ذاتها، انهضي فإن بيجماليون أساء البناء والهندسة، بيجماليون أنجز صناعة أنثوية بعيون ذكورية، فهل أسقطت يا جالاتيا الغباء عن نزوع يقصي الحرف والهوية ومشاعر الحب؟

 

د. عزيز الهلالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *