1-ملحمة الفارس في إهاب النمر والنهضة الإنسية الشرقية
إن التقسيم الغربي للتاريخ الثقافي تقسيم غريب حقا (1)، وغرابته لا تكمن في الإقصاء الممنهج لكل الثقافات التي تخرج عن دائرة الغرب وعلى رأسها الثقافة العربية الإسلامية فحسب، وإنما تكمن أيضا في طابعه الاستمراري. ففي ظل زمن مابعد -الحداثة ونظريات مابعد- الاستعمار، ما تزال مجمل الجامعات الغربية تعتمده بل إن بعض المؤسسات الشرقية المبنية على النماذج الغربية تتبناه وتكرسه بصفته تقسيما موضوعيا(2).
وإذا كان هذا التقسيم الغربي، الذي ادعى الموضوعية زمنا طويلا ، قد تجاهل عن عمد -من بين ما تجاهله-إسهام الحضارة العربية الإسلامية في تقدم الإنسانية(3)، حينما اعتبر القرون الوسطى التي أضاءتها هذه الحضارة عصور ظلام ، فقد أقصى في المقابل -عن جهل في الغالب (4)-النهضة الإنسية التي عرفتها إحدى ثقافات القوقاز المشعة خلال ما يسمى في الغرب بقرون الإحياء وتحديدا خلال القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.
ومما يثير الانتباه خلال هذه القرون ، أنه عندما كانت ثقافة الصور النمطية المشوهة للعربي والإسلام تتشكل وتتقوى في بلدان أوروبا الغربية محاولة حجب نور الثقافة العربية الإسلامية – وخاصة مع ظهور أنشودة رولان ، فنشيد الضعفاء ونشيد أنطاكية – كان نورها يشع دون عائق أو حجاب عبر ثقافة جورجيا، وهي البلد الذي أخذ على عاتقه خلال عصره الذهبي -ما بين أواخر القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر- رسالة الدفاع عن المسيحية في الشرق بعد أن ضعفت بيزنطة: فإذا كانت العلاقات الوطيدة مع بيزنطة قد أدت بالفعل دورا جوهريا في نهضة جورجيا ،حين وضعت في متناول المثقفين الجورجيين كنوز الفلسفة القديمة وتوجهاتها الجديدة التي ذابت في الثقافة الوطنية الجورجية ذات الجوهر المسيحي(5)، فإن ما لا يقل صحة عن هذا المعطى التاريخي أن أكاديميات تفليس(6) مثلت جسر الثقافة العربية الإسلامية إلى النهضة الشرقية الإنسية التي بزغ نورها خلال قرون الإحياء الأوروبي ، تماما كما كانت مدرسة طليطلة جسر هذه الثقافة إلى النهضة الأوروبية. مما يفيد أن الثقافة الجورجية الكلاسيكية تأسست في المقابل على التلاقح الإيجابي مع الثقافة العربية الإسلامية المزدهرة آنذاك، مثلما تترجم ذلك الصور الثقافية الإيجابية التي تتضمنها عن الإنسان العربي المسلم وثقافته ملحمة الفارس في إهاب النمر(7) للمفكر والشاعر الملحمي الجورجي القروسطي الكبير شوتا روستافيلي(8)،التي تشهد على غنى جورجيا الروحي وعلى حيوية ووهج ثقافتها القديمة ،والتي عبرت لقيمتها الفنية والإنسانية العالية حدود اللغة الجورجية مؤكدة نفسها كإحدى أمهات الكتب العالمية (9).
ولعل ما يعزز الحضور النموذجي للعربي المسلم في ملحمة روستافيلي ،أن هذه الملحمة التي تنتمي إلى العصر الذهبي في تاريخ جورجيا ، تعتبر الموسوعة الحقة للروح الجورجية وقمة تمثيل للنهضة الإنسية الشرقية (10) التي أوقف مسيرتها -مع الأسف -الغزو المغولي لجورجيا (11) وما تلاه من غزوات بعض القبائل الآسيوية فغزو الأتراك العثمانيين . الأمر الذي يضيء تحولها إلى رمز وطني عابر للعصور (12)، إذ قل في تاريخ الإبداع العالمي أن حظي مؤلف بنفس العلاقة الحميمة التي حظيت بها وما تزال ملحمة روستافيلي مع جمهورها(13)، فبعد زمن يسير من صدورها تخطت ملحمة الفارس في إهاب النمر حدود الطبقة النبيلة المتعلمة ، إلى الناس العاديين الذين كانوا ينشدون أبياتا منها في حفلاتهم واجتماعاتهم، ناهيك عن الجنود الذين كانوا ينشدونها بدورهم في سبيل شحذ عزائمهم وهم في طريقهم لصد غزو المغول والترك. وقد ظلت هذه العلاقة الحميمة التي ربطت الجورجيين بالملحمة علاقة قوية إلى حدود الزمن الحديث والمعاصر، كما يدل على ذلك معدل الإصدارات وعدد الطبعات(14). وتجدر الإشارة إلى أن هذا العمل الذي يؤصل للثقافة والأدب الجورجيين ،عمل تم إنشاده في الأصل للأمير الهندي تارييل مثلما يتضح من إعلان روستافيلي في المدخل وفي الختام ،ففي مدخل الملحمة يقول روستافيلي:
يلزمني ، لسان وقلب وفن، امنحني القوة ، والعون منك على الإبداع ، لكي أساعد تارييل ، يجب علي أن أنظم أبياتا جميلة… (ص.19).
أما في الختام، فقد حرص روستافيلي على موضعة ملحمته ضمن إنتاج عصره ،الذي نجت نماذج منه لحسن الحظ من تدمير المغول ، قائلا (15) :
أنشد موسى خونيلي ، لأميران بن داريجان ،
وأنشد شافتيلي ذو القوافي البديعة، لعبد المسيح ،
وأنشد سارغيس تموكفيلي ذو النفس الطويل ، لديلاغريت،
أما أنا روستافيلي ، فأنشدت لتارييل الذي أذرف عليه الدموع الغزيرة .(ص.399).
إلا أن إنقاذ الفارس الهندي تارييل ومساعدته (16)، استوجبا الإنشاد للفارس العربي أفتانديل بصفته المنقذ النموذج، ومن هنا توزع أحداث الملحمة بين فضاءين جغرافيين أساسيين: بلاد العرب وبلاد الهند، تنضاف إليهما بلاد الصين (قاطاي في الملحمة ) بوصفها فضاء واقعيا ،وبلدان متخيلان أحدهما يرمز إلى الخير( مولغازنزار) وثانيهما إلى الشر ( خادجيتي).
وإنه لأمر دال أن يكون العمل الذي يؤصل للثقافة والأدب الجورجيين ، هو العمل ذاته الذي تنطلق أحداثه من الجزيرة العربية والذي يشيد للعرب المسلمين أجمل صورة شيدها متخيل أجنبي قروسطي لهم على الإطلاق ، وهي صورة غير مسبوقة حتى في الكتابات الجورجية المعاصرة لروستافيلي، ففي ملحمة أميران بن داريجان (17)مثلا تحضر التمثلات الثقافية الإيجابية للعربي المسلم جنبا إلى جنب مع التمثلات السلبية.
2 -أصالة المتخيل / أصالة الصورة :
يفتتح روستافيلي أحداث ملحمة الفارس في إهاب النمر(18) بتقديم الشخصيات التي تؤثث بلاد العرب كما يلي :
كان في بلاد العرب ملك يدعى روستفان،
[…]
ما كان للملك من الأولاد غير أميرة ما لها مثيل.
[…]
كانت تسمى تيناتين ، وكانت تبدو لمن يتذكرها صغيرة ،
ويراها بعدما كبرت ونضجت ، تفوق الشمس في الحسن .
[…]
كان أفتانديل ابن الأمير سباسالار قائدا للجيش(ص.25-27)
سيستغرب القارئ عربيا كان أم أعجميا ولاشك، وهو يقرأ عن عربية اسمها تيناتين وعن عربي اسمه روستفان أو أفتانديل وسباسلار، خاصة وأن الملحمة كتبت في عهد يعد نتاج تلاقح إيجابي بين الجورجيين والعرب المسلمين ، مما يعني بالضرورة معرفة بالأسماء العربية مثلما يؤكد ذلك توظيف بعض الأسماء العربية في الملحمة : فاطمة ، أسامة، حسين، …
إلا أن النتائج التي سيقود إليها البحث في هذه المسألة ،ستختلف اختلافا جذريا عن النتائج التي سينتهي إليها البحث في أسماء الأعلام الغربية الموظفة للدلالة على شخصيات عربية في أنشودة رولان مثلا، نظرا للاختلاف الجذري في المنطلقات والأهداف. مما يفيد أن ملحمة روستافيلي ، ليست أول إبداع عالمي ينحو هذا النحو وهو يتناول شخصيات عربية ،إلا أنها تتميز بنبل منطلقاتها وأهدافها التي تعلي منها إبداعيتها المتفردة ومنظور مؤلفها الخاص للتفاعل بين الثقافات.
ففي أنشودة رولان(19)، التي ظهرت في أواخرالقرن الحادي عشر متضمنة أسوأ صورة للعربي على الإطلاق (20)،أي الصورة التي مثلت سلطة عبرت القرون لتستقر في وجدان ومتخيل الغربيين بصفتها حقيقة الحقائق، وحده النبي محمد احتفظ باسمه العربي مثلما كرسه –تقريبا- التقليد الكنسي الفرنسي منذ القرن الحادي عشر:Mahomet ، أما بقية الشخصيات التي يتم إلحاق ألقاب النبالة الفرنسية واللاتينية تعميما ببعضها (الدوق Duc، الكونت Comte، …) ،فتحمل أسماء أجنبية من مثل : الملك مارسيلLe roi Marsile ،بلانكاندران Blancandrin،إلخ… .
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المعطيين الآتيين :
-تزوير أنشودة رولان للوقائع التاريخية وفق ما تمليه أهداف الحروب الصليبية.
-كونها نتاج ضمير جمعي وليست نتاج مبدع فرد.
فإن التفسير الذي يفرض نفسه تفسير لا يمت بصلة إلى سلطة التسمية أو إلى الرغبة في التوطين، بقدر ما يعبر عن جهل مطبق بالثقافة العربية الإسلامية وخصوصياتها، يعمقه كره مرضي .
أما بالنسبة لملحمة روستافيلي، فإن استغراب القارئ هو الذي سيقوده ليس فقط إلى إثبات أصالة الملحمة، وإن بشكل مختلف عن علماء المقارنة الجورجيين ، وإنما إلى إثبات أصالة الصورة المتخيلة ذاتها:
إن معرفة الشاعر والمفكر الجورجي بالحضارة العربية الإسلامية ، ضمن معرفته بأهم الحضارات الشرقية والإنسانية تعميما (الحضارة الإغريقية ، والفارسية ، والهندية ، والصينية ، …)، تستوجب البحث عن أسباب لها علاقة بالمتخيل وبمنظور الشاعر لتلاقح الحضارات في اتصال بخصوصيات النسق الجورجي زمن إنتاج الملحمة(21)من أجل تفسير إطلاقه أسماء فارسية-جورجية على الشخصيات العربية ،وأسماء جورجية على الشخصيات الهندية ،ناهيك عن توظيفه أسماء يونانية (سقراط ،… )، وأخرى لا يستدل على أصولها بحيث أصبحت أسماء شرقية يحملها أي إنسان شرقي أعجمي (نستان مثلا) .
2-1.أصالة المتخيل :
يعلن روستافيلي بوضوح في مدخل ملحمته:
هذه حكاية فارسية أرويها باللغة الجورجية ،
مثل الدرة اليتيمة يتوارثها الأجيال من يد إلى يد .
وجدتها ، ونظمتها شعرا ، وغامرت في هذا العمل،
لتحكم علي حبيبتي الجميلة، التي سلبت مني القلب والعقل.(ص.20)
وقد أثار هذا الإعلان وما يزال جدلا بين المترجمين والباحثين الجورجيين(22) ،يذكرنا – ونحن نأخذ بعين الاعتبار كون التروبادور الفرنسي برنار دو فانتادور معاصرا لروستافيلي -بجدل المستشرقين والمستعربين الغربيين بخصوص تأثير الحب العذري والحضارة الإسلامية تعميما في شعر التروبادور في نفس الفترة تقريبا ، حيث انقسموا إلى فئات تدافع عن أطروحات مضادة لبعضها البعض (23).
ففي حين يرى بعض الباحثين الجورجيين أن روستافيلي كشف في مدخل ملحمته عن نموذجه الحاسم بالإحالة على مجنون ليلى ،وأنه استلهم الصورة التي رسختها عن المجنون العربي ملحمة نظامي الكنجوي بالفارسية :
في اللسان العربي ، يلقب المحب الذي يفقد عقله مجنونا.
يجن لأنه لم يتوصل إلى الاقتراب ممن يحب .(ص.22)
يُذَكِّر باحثون آخرون بالأغاني الشعبية الجورجية التي تتغنى بحكايات شبيهة إلى حدود الزمن الحاضر، فيما يشبه البعض الآخر حكاية روستافيلي من ناحية بخرافة تريستان وإيزوه البروطونية بهدف الربط بين الأدب الجورجي والأدب الأوروبي – مع أن هذه الخرافة ذات الأصول السلتية على مايبدو لم تصل إلى جمهورها الأوروبي ، وبطريقة مجزأة عبر نصوص ناقصة ومبتورة ، سوى في الفترة مابين النصف الثاني من القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر- ويشبهونها من ناحية ثانية بشعر التروبادور وروايات الفروسية بالاتكاء على التقاطعات والتشابهات بين المجتمع الفيودالي الجورجي والمجتمع الفيودالي الأوروبي والتي تترجمها بصفة خاصة قواعد مؤسسة الفروسية.
وإذ نثير الانتباه إلى أن القرن الثاني عشر الذي شهد ظهور شعر التروبادور بفعل التفاعل القوي مع العالم العربي الإسلامي، لم يتخذ في جورجيا نفس المظهر الذي اتخذه في فرنسا-حيث كانت جورجيا قد وضعت أسس نهضة إنسية ، فيما كانت فرنسا تحاول جاهدة الخروج من الزمن الفيودالي الأول- نميل إلى الاعتقاد استنادا الى خصوصيات ملحمة روستافيلي وتوجيهاتها النصية أن روستافلي لم يجد مصدره في الأدب الكورتوازي الأوروبي(24)كيفما كانت حقيقة المبادلات بين ثقافات القوقاز تعميما وأوروبا في القرون الوسطى(25).
وقد توصل أغلب الدارسين الجورجيين ،أمام عدم العثور على أي نص فارسي يحكي حكاية الأمير تارييل من ناحية ، وأمام اختلاف الملاحم والحكايات الشعبية التي رواها شعراء البلاط في أصفهان وشيراز عن حكاية روستافيلي باستثناء حكاية ليلى والمجنون لمعاصره نظامي(1140م-1202م) من شرق القوقاز (26) من ناحية ثانية،(توصلوا )إلى الاتفاق على أن الملحمة عمل جورجي أصيل . مما يفيد الاتفاق – في المجمل- على أن الملكة تامار(27) المعجبة بالشعر الفارسي طلبت من وزيرها الشاعر المثقف روستافيلي أن ينسج على منواله شعرا جيدا باللغة الجورجية،وأن إعلان روستافيلي في المدخل هو من قبيل التأدب مادامت الملحمة تحكي في الجوهر حكاية الملكة الجورجية تامار التي تنازل لها أبوها عن الحكم(28).
لكن هذا السند التاريخي الجدير بالاهتمام لا ينفي قطعا التفاعل مع المتخيل الفارسي والتأثير القوي الذي مارسه على الكتاب الجورجيين وهم يؤسسون للأدب الجورجي الكلاسيكي الإنساني ،فملحمة أميران بن داريجان السابقة عن ملحمة روستافيلي، والتي تتأسس أحداثها على مغامرات فارس بغداد أميران بن داريجان وهو شخصية فارسية ،أثارت هي نفسها هذا النقاش بخصوص مصدر الحكاية وتأثير الثقافة الفارسية ، انتهى أيضا بشبه إجماع العلماء الجورجيين على أصالة الملحمة. مما يعني أن الأصالة لا تنفي التفاعل مع النموذج الفارسي والشرقي تعميما كما تشهد على ذلك مثلا الصيغة الجورجية للقصيدة الغزلية الفارسية “فيس ورامين” ، والتي تناص معها روستافيلي في ملحمته وهو يشبه معاناة المحبين بمعاناة العاشقين الفارسيين :
(وقاسى من العذاب ما لم يعرفه فيس ورامين (ص.61
إن سيادة الزمن الشرقي- تتخلله الحكمة الإغريقية – في الملاحم الجورجية القديمة ومن بينها ملحمة روستافيلي التي نجد فيها جل الحضارات الشرقية العظيمة ممثلة بهذا القدر أو ذاك (الحضارة الهندية ، الحضارة الفارسية ، الحضارة الصينية ، الحضارة العربية الإسلامية التي ترمز لها جنة الفكر بغداد في إبداع روستافيلي ..)، لتدل على قوة وعمق العلاقات التي تربط الثقافة الجورجية بالثقافات الشرقية القديمة . فمن المؤكد تاريخيا أن الأدب الجورجي القديم قدم الحضارة الجورجية ، قد ربطته إلى جانب علاقته الموغلة في القدم بالثقافة الإغريقية علاقات وطيدة بالثقافات الشرقية الكبيرة – قبل ظهور المسيحية وبعدها- وعلى رأسها الثقافة الفارسية (29)التي كان أسلوبها يعتبر الأسلوب الأمثل في جورجيا آنذاك ،تماما كما كان شأن الثقافة الإيطالية في أوروبا في عصر النهضة ،وقد استمر تأثير الثقافة الفارسية قويا إلى قرون متقدمة مثلما تترجم ذلك تخصيصا الأشعار الجورجية التي ظهرت في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر(30).
وفي عهد الملكة تامار الذي شهد ولادة ملحمة روستافيلي، ويمتد من سنة 1184م إلى سنة 1213م ،ازدهرت العلوم ونشطت الحركة الثقافية والأدبية في تفاعل إيجابي مع الثقافة الإغريقية – البيزنطية والثقافتين العربية والفارسية مثلما يدل على ذلك موضوع الملحمة وأصولها الإبداعية. وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى موقع جورجيا الجغرافي فهي تقع في منطقة تتحد فيها أوروبا وآسيا ، الأمر الذي أهلها عبر مراحل تاريخ حضارتها العريقة لأن تشكل حلقة وصل بين أكبر حضارات آسيا القديمة وأكبر الحضارات الأوروبية ممثلة في الحضارات الإغريقية -السلافية .
وإذ نؤكد ، استنادا إلى ما سبق ، أن استعارة الهياكل (أي التناص التاريخي) عرف دأب عليه أكبر الكتاب العالميين الذين نفخوا فيها الروح بعبقرياتهم – وأشهرهم في زمن متأخر عن زمن روستافيلي شكسبير الذي استقى حكايات مسرحياته من الميثولوجيات اليونانية واللاتينية -نرى أن إمكانية استعارة روستافيلي لهيكل قصة فارسية كما تشير إلى ذلك الأسماء الفارسية المتملكة في ثقافات القوقاز تعميما (روستفان / أفتانديل…) ،إمكانية لا تنتقص من أصالة كتابته الكامنة في الروح الجديدة التي تترجمها أدبية النص والتي عبر عنها بنفسه قائلا:
[…]
أصيغ مغامرات ، كانت حكاية حتى الآن ، في منظومة كعقد من اللؤلؤ.
أصنع ،أنا روستافيلي ، هذا العمل ، ببراعتي وبدافع من قلبي ،
لتلك التي تجرحني ، وقد خضعت لها جيوش الجبابرة ، (ص.19 )
يتلاحم في هذه الملحمة ، حسب إعلان روستافيلي ،متخيلان اثنان إذن: متخيل فارسي يستوحي ظاهرة شعرية عربية ومتخيل جورجي ، يتفقان معا بخصوص الصورة العامة إلا أن المتخيل الجورجي وهو يحتفظ للمتخيل الفارسي بالسبق الزمني يتفوق عليه بالإبداع ،فمن مجرد حكاية مروية إلى ملحمة تتكون من 1587 رباعية ، مع ما يتطلبه ذلك من صنعة و تطوير للصور ومن خلق يؤصل للثقافة الجورجية ويؤسس لنهضة شرقية جديدة شاهدة على تطور الفكر في عصر جورجيا الذهبي ، عصر الملكة تامار .
والذي يهمنا أخيرا في تداخل المتخيلين ،في سياق تركيزنا على الحضور النموذجي للعربي المسلم في هذه الملحمة ، هو وحدة الصورة بين ثقافتين مختلفتين رغم تداخلهما وتفاعلهما معا مع ظاهرة الحب العذري العربية. مما يفيد أن هذا التفاعل والتداخل هو الذي يضيء في النهاية ،طبيعة توظيف أسماء غير عربية لتسمية شخصيات عربية .
2-2. أصالة الصورة :
لنفترض جدلا مع علماء المقارنة الجورجيين أن لجوء روستافيلي إلى العربي كان من باب التأدب، مادام تاريخ بلاد العرب لا يحفظ لنا اسم خليفة تنازل عن كرسي الخلافة لابنته ، فإن ما يهم في الصورة المتخيلة هو التفكير في العربي بصفته نموذجا ، ذلك أن اختيار النماذج لا يتم اعتباطا وإنما يتم ضمن أفق ، حيث تبدو الصورة “ككاشف موضح ، بصورة خاصة لآليات عمل مجتمع ما ضمن إيديولوجيته […]، وضمن منظومته الأدبية بوضوح ، وضمن خياله الاجتماعي (31)” .مما يعني أن الصورة بصفتها نتاج وعي معين بالذات وبالآخر، تعد إعادة تقديم واقع ثقافي يكشف من خلاله الفرد والجماعة الذين شكلوه الفضاء الاجتماعي ، والثقافي، والإيديولوجي، والخيالي الذين يريدون أن يتموقعوا ضمنه (32).
وبهذا سيتسنى لنا أن نقف ليس فقط على الطريقة التي تنظر بها الثقافة الجورجية إلى نفسها آنذاك ، وإنما أيضا على الطريقة التي تفكر فيها في الآخر (العربي المسلم) وتحلم به .ففي الوقت الذي تنقل لنا فيه حقائق وطنية بطريقة أدبية ، تكشف لنا في المقابل عن حقيقة نظرتها للآخر المبنية على طبيعة العلاقات التي جمعتها به تاريخيا وثقافيا واجتماعيا .أي أنها تكشف لنا عن خيال اجتماعي مطبوع بالثنائية : هوية -غيرية في سياق اعتبار الغيرية مكملة للهوية (33).
3- وحدة النموذج /تنوع الصور
ونحن نقتصر على دراسة تركيز ملحمة الفارس في إهاب النمر على الشخصيات العربية المسلمة بصفتها شخصيات نموذجية يمرر من خلالها روستافيلي أفكاره التنويرية الممثلة للنهضة الإنسية الشرقية -مثلما يتضح من تشييده لنموذج الحاكم الديمقراطي الحكيم ونموذج الفارس المُوَلَّه المتنور، فنموذج الملكة الوطنية المحبوبة- نسجل بداية الملاحظتين الآتيتين :
أ- شبه خلو الملحمة من الشخصيات الخرافية ، فباستثناء سكان بلاد السحرة فإن شخصياتها شخصيات بشرية حيث لم يحذ روستافيلي في ملحمته المجددة حذو كتاب الملاحم في القرون القديمة والوسطى ،بمن فيهم كاتب ملحمة أميران بن داريجان المعاصرة لإنتاجه(34).
ب- جل الشخصيات الممثلة للثقافات الشرقية في ملحمة روستافيلي شخصيات مسلمة :
كان المقرؤون والمعلمون قد شكلوا دائرة حولي ، –
وبأيديهم القرآن يقرؤونه كلهم معا ،(ص.97)
[…]
نظرت فرأيت تحت الوسادة كتابا مفتوحا ،
فحملت القرآن ونهضت وحمدت الله أولا ثم هي .(ص.147)
وقد أثارت هذه النقطة وماتزال جدلا كبيرا بين الدارسين الجورجيين حول ديانة المفكر والشاعر روستافيلي، لصعوبة الحسم في اعتناقه الديانة المحمدية أو المسيحية الأرثوذوكسية فهو يستشهد بالتوراة كما يستشهد بالقرآن (35):
– إنه القدرة المطلقة التي ترعى كل كائن على الأرض ، إنه الإله الخالد ذو العرش المجيد الذي يضع حدا لكل نهاية (ص.207) -ومن هذه الصلاة تخف نسبة ثقل اللحم علي في الدنيا ولا يتغير مظهري .
ولعل مما يضيء هذا التعالق والتفاعل بين التأثيرات المسيحية والإسلامية في ملحمة روستافيلي، استحضار موقف الملوك الجورجيين من الإسلام والمسلمين خلال العصر الذهبي لجورجيا فرغم تصميمهم على الاستقلال عن السلطة المسلمة كانت سياستهم تسير نحو تقوية الروابط بين شعوب القوقاز المسيحية والمسلمة. ومن هنا تميز الثقافة الجورجية -بخلاف الثقافة الأوروبية (36) – بتسامح ديني كبير وبتبني القيم الثقافية العربية الإسلامية -ضمن القيم الثقافية الشرقية -التي ساهمت دون أدنى شك في توسيع أفق الفكر الجورجي.
3-1 الملك الديمقراطي الحكيم
يفتتح روستافيلي عالمه المتخيل، بهذه الأبيات التي تشكل اللبنة الأولى في تشييد صورة الحاكم العربي المسلم :
كان في بلاد العرب ملك يدعى روستفان ،
يحيا بيمن الله ، ذا جلال واقتدار ، ووفرة في الجند والفرسان ،
عادلا، رحيما ، متبصرا وحاكما بإحسان .
وهو محارب أغلب، ذو بيان بليغ ساحر.(ص.25)
إن أول ما يسترعي الاهتمام في هذه الصورة المركبة – التي تمثل نقيض صورة الحاكم العربي الكافر والفاسد التي رسختها الأدبيات الغربية في العصر الوسيط، وعلى رأسها أنشودة رولان (37) -هو أن عنصرها الأول(يحيا بيمن الله) يعد شرطا لازما للعناصر التالية المترابطة فيما بينها ترابط عناصر بنية. فصفات القوة والعظمة والعدل والحكمة وحسن التدبير والثقافة والفروسية ، صفات تستمد وجودها من مباركة الخالق.
ببركة الله وعنايته، إذن ،توفرت في الحاكم العربي المسلم جميع أركان الحاكم النموذجي ولعل أهمها في سياق زمن التنوير: الشورى، و العدل بين الرعايا الذي يشمل التسوية بين الجنسين ، فالتربية على المواطنة الحقة التي تستوجب تقديم مصلحة الوطن العليا على المصلحة الشخصية:
[…]
في أحد الأيام دعا الملك وزراءه إليه في رفق ولين،
وقربهم من مجلسه ، وبدأهم بحديث لطيف .
[…]
قال :” أطلب منكم النصح ، فالأمر يستحق المشورة .
حين ترى الوردة زهرها يذبل ويجف ،
تمضي لكي يأتي غيرها إلى حديقة الورد النضيرة .
[…]
لقد عانيت المتاعب عبر السنين ، وها أنا الآن أدنو من نهايتي ،
[…]
فلنعط التاج لابنتي التي فاقت الشمس بالحسن “.(ص.25-26)
ومع أن التاريخ السياسي العربي الإسلامي عرف مثل هذا النموذج (38)، نؤكد مع دانييل هنري باجو ونحن نستحضر الجدل السائد في أوساط النقاد الجورجيين بخصوص الطابع المثالي لهذه الصورة، أنه يجب على دراسة التمثلات الثقافية ” ألا تهتم كثيرا بدرجة “واقعية “الصورة ، وأن تهتم أكثر بمطابقتها الواضحة ، قليلا أو كثيرا ، لنموذج أو خطة ثقافية موجودة قبلها في الثقافة (الناظرة) وليس في الثقافة ( المنظورة )، والتي من المهم معرفة أسسها، وعناصرها، ووظيفتها الاجتماعية، وآليتها (39) “.
وبهذا سيتبدى الحاكم العربي -السلطان الفارس والعالم بالضرورة ، العادل الرحيم الذي يعرف كيف يوازن بحكمة بين اللين والحزم – نموذجا للحاكم المرغوب فيه في الوسط الفيودالي الجورجي الذي كانت الملكية زمن كتابة الملحمة تجاهد في سبيل تغييره .
3-2الفارس المُوَلَّه المتنور:
من داخل مؤسسة الفروسية الجورجية، التي تشبه مؤسسة الفروسية الأوروبية في العصر الفيودالي الأول كما تشهد على ذلك ملحمة أميران بن داريجان تخصيصا(40)، يشيد روستافيلي في ملحمته الصورة البديلة للفارس من خلال شخصية أفتانديل العربي (41) :
أنا عربي، وفي بلاد العرب تقوم قصوري الفخمة . (ص.84)
بهذه الصفة قدم أفتانديل نفسه لصنوه تارييل ، وبهذه الصفة تقريبا كان يقدم نفسه لمن يقابله من الغرباء، فيكون هذا التقديم وحده كافيا ليفتح له أبواب القلوب في زمن قوة الملك العربي ، التي يعبر عنها أفتانديل وهو يخاطب الملك روستفان قائلا:
” […]
لقد أخضعت العالم ،يا مليكي، لسلطتك بالسيف ،
ومن الضروري أن يذاع هذا الخبر في كل الأرجاء.
لذا أريد أن أمضي وأجتاز الحدود محاربا ،
من أجل عزة تيناتين ، محطما قلوب العدو ،
حاملا البشرى إلى الأوفياء ، مستنزفا الدموع من العصاة ،
وسأمنح الهدايا الوفيرة ، ولن أبخل بالتحيات . (ص.51-52 )
وإذ تربط الملحمة ربطا وثيقا بين المقوم البطولي -العسكري للفروسية مثلما يمثله الفارس أفتانديل الذي يعد نتاج تنشئة الملك ورعايته الخاصة منذ الصغر، وبين المقومات الدينية والسياسية للحكم كما يمثلها الملك روستفان وابنته تيناتين من بعده ، يتبدى أفتانديل العربي نموذجا للفارس المرغوب فيه ،خاصة وأن المقومين السياسي والعسكري لا ينفصلان في الملحمة عن المقومين الأخلاقي والعلمي، مثلما يتضح من كلام الفارس العربي :
أنا رجل لا أقطف الدنيا كأنها فاكهة فجة ، (ص.205 )
[…]
من خلال أبحاث المعرفة نتوصل إلى نظام الكون السامي. (ص.206).
[…]
احفظ جيدا ما تعلمته ، واعلم، ما الجاهل سوى حمار. (ص.241).
وهذا يعني أن الصورة المشيدة للفارس العربي المسلم في هذا الزمن الشرقي بامتياز هي صورة الإنسان المتنور: فإذا كانت الملحمة قد ركزت على قوة أفتانديل الجسدية وشجاعته المتزنة حينما جعلت منه القائد الأعلى للجيش العربي والمنقذ الأول للفارس الهندي تارييل الذي لا يشق له غبار، فقد أكدت في المقابل على فضائل شتى تسند القوة والشجاعة، منها الحكمة والعلم والإباء والعدل والرحمة والكرم والوفاء في الصداقة. ولأن حكمة الملحمة تتمثل في الربط السببي بين نوع خاص من الحب و استحقاق الإنسان لآدميته ، ستتوج كل هذه الصفات صفة المحب الصادق المُوَلَّه ، على أساس أن الفارس النموذجي هو وحده الجدير بعاطفة الحب بوصفها عاطفة سامية تقرب الإنسان من الخالق.
3-3 الملكة الوطنية المحبوبة :
يفسح روستافيلي مجالا كبيرا في مدخل الملحمة لتعريف الحب لا يوازيه من حيث الأهمية سوى المجال المخصص لتعريف الشعر وتحديد شروط الشاعر الحق، الذي يتصل قدره في منظور روستافيلي بعشق الحبيبة الواحدة :
يجب على الشاعر أن لا يهدر ثمرة جهده.
عليه أن يحب ، وأن يكرس حبه لحبيبة واحدة ،
يبذل كل شيء لها وحدها ، فيمدح ويمجد الوحيدة.
لا تهفو نفسه إلى واحدة غيرها ، وباللسان يلحن لها موسيقى .(ص.21)
مع العلم أن تسوية الملحمة بين الشاعر و المحب، أي بين فن الشعر و فن الحب ، تسوية ترتكز على اتحاد الشعر بالحكمة عند روستافيلي ، فإذا كان الشعر عنده هو “فرع من الحكمة الإلهية “(ص.20) قبل كل شيء ، فإن حكمة الملحمة تتمثل -كما أسلفنا- في احتمال ضياع الإنسان وسط ليل بهيمي (42) ، في غياب حب سام يحميه.
ويعتبر التراث العربي في مجال العشق -عبر الوساطة الفارسية- سندا لروستافيلي في إبداع دستور جديد للحب ينتمي إلى الدرجة السامية: أنا أتكلم عن الحب العاطفي الذي ينتمي إلى الدرجة السامية . الحديث فيه صعب ، وتفسيره عسير ، وهو فوق كل فهم وفكر.
إنه عاطفة تنزل من السماء وتعطينا رفعة النفس.
من يسعى إلى الوصول إليها يتحتم عليه أن يصبر على آلامها . (ص.22)
إلا أن تفاعل روستافيلي مع الحب العذري العربي – تماما كما هو الشأن بالنسبة لشعراء التروبادور ومن هنا التشابهات الملحوظة بين ملحمة روستافيلي وأشعارهم (43) -لايعني إطلاقا استنساخ الظاهرة العربية ، فالحب الذي تتغنى به الملحمة يختلف في كثير من التفاصيل عن حب بني عذرة الذي يستقي جوهره ، من بينها:
أ-ارتباطه بالطبقة الأرستقراطية (ملوك -ملكات ، أمراء –أميرات… )
ب- اتصال فن الحكم وفن الفروسية اتصالا لا انفصام فيه بفن الحب ، من زاوية التسوية بين الرجل المحب والمرأة الحبيبة في الإنسانية والحقوق والواجبات : ” إنها أنثى، ولكن الله خلقها في الدنيا لتملك،
لقد قلنا في غيابك ، ونقول الآن بحضورك ،ولا نخفي عنك ،
إن صفاتها السامية تعادل أشعة الشمس ، أولاد الأسد متساوية ، إناثا كانت أو ذكورا “.(ص.26)
ت-مبادرة الحبيبة: فمن المثير للانتباه ، في هذا السياق ، أن المرأة موضوع الحب في الملحمة امرأة مبادرة على أساس الاقتناع بالحب الذي يكنه لها الحبيب ، ومبادرتها التي تتضمن وعدا بالوفاء مقرونة دائما بتكليف الفارس بمهمة صعبة من أجل الوطن الذي تسوسه في الغالب. وبهذا يتضح أن المرأة الحبيبة في الملحمة -بإلهامها للأبطال وتوجيهها لمسارهم -لاتعد مساوية للرجل فحسب وإنما هي السيدة العليا على ضميره أيضا (44) .تقول تيناتين مخاطبة أفتانديل:
“حتى هذا اليوم لم يتمكن من مخاطبتي غير قلبك ،
وكنت أشعر في أثناء ذلك بالحب العميق الذي تكنه لي ،
[…]
اذهب، سر إلى البحث عن هذا الفارس حيثما كان ، بعيدا أو قريبا.
[…]
أثبت بهذا عن الحب الذي تشعر به نحوي ،
اقبض على إبليس اللعين ، كي تخلصني من شقائي
زين بنفسجات الأمل في قلبي بالورود ،
ثم عد يا سبعي، وسيلتقي كل منا عند شمس الآخر . (ص.49)
ث-النهاية السعيدة بين الحبيبين اللذين يحظيان بالزواج والوصال بعد أن يكون الحبيب الفارس قد لبى طلب حبيبته. مع العلم أن النهاية السعيدة بين تارييل وداريجان الهنديين هي نتاج مواجهة المرأة وليس الرجل للسلطة الملكية والأبوية ، لتسن دستورا جديدا للحب والزواج غير الدستور الفيودالي الموروث حيث الغلبة للمصالح(45) .
استنادا ،إذن، إلى طبيعة العلاقة التي تجمع روستفان بتيناتين ،وداريجان بتارييل تشيد الملحمة وهي تعيد من زاوية تنويرية تشكيل وضعية المرأة في المجتمع الفيودالي المسيحي(46) صورة للمرأة العربية والمسلمة تعميما خارج أسوار الحريم. فهي صورة تختلف جذريا عن الصورة المكرسة عنها في المتخيل الغربي، إنها امرأة متعلمة حكيمة، ذات إرادة وشخصية قوية تصل بها إلى سدة الحكم ، وهي في الآن ذاته امرأة جميلة ، محبة ورقيقة المشاعر تتجسد فيها كل معاني الأنوثة:
كانت الشمس الفخورة تجلس على العرش بدون أي خوف ،
فرأت نضارتها الغضة تبعث الحياة في سروة عدن ،
البلور والياقوت يبرزان جمال الحواجب الدقيقة والشعر السبجي،
من أنا لأصفها ؟ وصفها يحتاج إلى أسلوب حكماء أثينا . (ص.185)
ولعل ما يجلي أكثر مكانة المرأة تعميما في الملحمة ،الشروط التي وضعها الشاعر للمحب ليكون جديرا بحبيبته:
يجب على المحب أن يكون جميلا غير مشوه ، مثل الشمس الساطعة ،
وأن يكون عاقلا ، كريما ، متواضعا نبيلا ومتفرغا ،
ويجب أن يكون حسن البيان ، حكيما متسامحا ، جسورا ، أغلب في الحرب.
من لا تتوفر فيه كل هذه الصفات ، يكون أدنى من درجة محب .(ص.22)
فاتحة الطايب
الهوامش
1-انظر : سوان باسنيت ،الأدب المقارن (مقدمة نقدية )،ترجمة أميرة حسن النويرة،المجلس الأعلى للثقافة، 1999 ، ص.89.
2- رغم تواتر صدور كتابات نقدية وفكرية قيمة في الغرب والشرق معا تصحح هذا التقسيم ،من زاوية إبراز دور الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الشرقية تعميما في تشكل و تطور الحضارة الإنسانية. و من بين الكتابات الغربية نذكر إلى جانب كتاب شمس العرب تشرق على الغرب لزيغريد هونكه ، كتاب ثقافة الالتباس :نحوتاريخ آخر للإسلام لتوماس باور، وكتاب فلورنسا وبغداد: فن النهضة والعلم العربي لهانس بيلتنغ .
3- منذ أن نصبت أوروبا نفسها في القرن التاسع عشر، وهو قرن الاستشراق بامتياز، عاصمة للعالم وللحضارة الإنسانية ،فقدت ذاكرتها تماما بخصوص الدور العربي الإسلامي وغذت التمثلات النمطية للعربي والإسلام التي ورثتها عن القرون الوسطى لتبرر تدخلاتها الاستعمارية ، في المقابل أكدت على علاقتها الوطيدة بالثقافة الإغريقية التي جعلت منها حالة فريدة في الكون انبثقت ذات قرن من عدم .فمن المسلمات التي رسختها المركزية الغربية عبر القرون مسلمة “المعجزة الإغريقية ” المنبثقة من عدم ، في تضاد صارخ مع المبدأ الإغريقي : لاشيء يخلق من عدم .
4- ذلك أن تذكر الغرب لوجود أمة مسيحية تعيش على تخوم آسيا الصغرى -(مع العلم أن 10% من ساكنة جورجيا تدين بالإسلام)-يعد قريب عهد، حيث يعود إلى أواخر القرن السابع عشر حينما نشر الرحالة الفرنسي جون شاردان مابين سنة 1685بلندن وسنة1686بأمستردام الجزء الأول من رحلته إلى فارس ومناطق أخرى من الشرق بما فيها جورجيا التي ركز على عاصمتها تفليس، بعنوان:
رحلات السيد الفارس شاردان إلى فارس ومناطق أخرى من الشرق
Voyages de monsieur le chevalier Chardin en Perse et autres lieux de l’Orient
وقد حظي هذا المؤلف ،الذي لم يكمله إلا سنة 1711م ، بترحيب من قبل فلاسفة عصر الأنوار: مونتسكيو وروسو وفولتير الذي اعتبر الحضارة الجورجية حضارة عظيمة تثير الدارس لاكتشافها والتعريف بها ،دون أن يؤثر ذلك في منظور المركزية الأوروبية. في المقابل حظيت رحلة شاردان باهتمام كبير من قبل الجورجيين، وصل إلى درجة إطلاق اسم الرحالة جون شاردان على إحدى أزقة المدينة القديمة بالعاصمة تبليسي. انظر بهذا الصدد:
Serge Tsouladzé , «introduction » , in : Chota Roustaveli , Le chevalier à la peau de tigre , Traduction Serge Tsouladzé , 2 éds , Editions Ganatleba , Tbilissi , p. 9.
5- Serge Tsouladzé , Connaissance de Roustaveli ,éditions Ganatleba , Tbilissi ,1966,p.9-10-11.
6- تطورت في عهد الملكة تامار ثلاث أكاديميات للعلوم، فازدهرت الثقافة والفلسفة والرياضيات وتعرف العلماء والأدباء آنذاك ،إلى جانب ثقافات اليونان ،على الثقافة العربية الإسلامية والفارسية فازدادوا بها غنى فكريا وعلميا.
7- من المتفق عليه من قبل الباحثين الجورجيين أن شوتا روستافيلي كتب ملحمته مابين سنة 1189وسنة 1207 .ونعتمد في هذه الدراسة الطبعة الأولى من الترجمة العربية التي أنجزها المترجم السوري نزار خليلي والصادرة بدمشق سنة 1984 .
8-” لم يعرف سوى القليل جدا من [حياة شوتا روستافيلي].لأن الغزوات الكثيرة التي عدت على جورجيا بعد الملكة تامار ، وبعد ظهور ملحمته بسنوات قليلة ، قضت على الوثائق المتعلقة بشخصه وحياته ، ولم يبق من مستند غير الأقوال الشعبية التي تذكر تخمينا ، أن شوتا قد ولد في قرية روستافي في مقاطعة مسخيتي في جورجيا ، وحمل نسبته إلى قريته وكني بروستافيلي , ومن الواضح أنه عاش بين النصف لثاني للقرن الثاني عشر والنصف الأول للقرن الثالث عشر لأنه عاصر الملك تامار التي تقول الرواية الشعبية أنه كان شخصية رفيعة المكانة في بلاطها ، إذ كان القيم الأكبر على خزائنها ، وأحبها حبا بلا أمل ، وعاش بقية حياته بعيدا عن وطنه في دير الصليب المقدس الجورجي في القس ومات ودفن فيه ، إذ شوهدت على أحد أعمدة هذا الديررسوم وكتابات تذكره وتظهر صورته “.( نزار خليلي –غورام تشيكوفاني، “شوتا روستافيلي الشاعر الجورجي العبقري الكبير” ، الفارس في إهاب النمر ،م.س. ، ص. 9).
9- بدأت عملية ترجمة ملحمة روستافيلي إلى اللغات الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
10- Dato Barbakadzé , « Tradition et modernité de la littérature géorgienne » ,traduction Maia Tadoua, in :missives , n° spécial , 1998, p.10.
11 –دمر المغول أثناء غزوهم لجورجيا في ثلاثينات القرن 13م معظم المؤلفات الفكرية والأدبية الجورجية واضعين بذلك حدا لعصرها الذهبي ، وتأتي ملحمة الفارس في إهاب النمر لشوتا روستافيلي على رأس الإنتاجات الأدبية القليلة التي نجت من تدمير المغول لتظل شاهدة على ازدهار الثقافة الجورجية في هذه الحقبة.
12-من بين التقاليد الاجتماعية الجورجية التي تؤكد العلاقة الحميمة التي ربطت الجورجيين بملحمة روستافيلي،تقديمها ولفترة طويلة هدية زفاف. وتدين كاتبة هذه الدراسة بالنسخة التي تمثل متن الاشتغال لصديقتها الجورجية المستعربة نينو دوليدزي التي قدمتها لها هدية خلال فترة عملها أستاذة زائرة بجامعة تبليسي الحكومية سنة2012 .
13- Serge Tsouladzé , Connaissance de Roustaveli,op.cit.,p.6-7.
14-Ibid , p.6
(أكدت لنا الزميلة والصديقة الجورجية المستعربة داريجان غارداوادزه ، رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة تبليسي الحكومية ، أن عدد إصدارات وطبعات الملحمة حاليا لا يقل أهمية عن عدد إصداراتها في النصف الثاني من ستينات القرن العشرين بل ويزيد).
15-ولعل في إلمامه بمعظم إنتاج معاصريه الشعراء ما يفسرعلاقة التفاعل مع هذا الانتاج وكذا عملية تجاوزه حيث تعتبر ملحمة روستافيلي ، التي جعلت من صاحبها أمير الشعراء الجورجيين الكلاسيكيين، الإنتاج الأكثر اكتمالا مقارنة ببقية إنتاجات العصر. .
16- يؤكد إنشاد روستافيلي للفارس الهندي تارييل ، علاقة التفاعل القوية عبر التاريخ بين الثقافة الجورجية و الثقافة الهندية الغنية ،مثلما تشهد على ذلك أيضا ملحمة أميران بن داريجان ، التي يفتتح فيها الحكي بقصة عبد السلام ملك الهند.ومن بين الأمثلة التي يقدمها المترجم تسولادزه عن دور الوساطة الذي أدته الثقافة الجورجية ضمن ثقافات أخرى لتطعيم الثقافة البيزنطية بعناصرالثقافات الشرقية، بما فيها الثقافة الإسلامية ،مثال انتشارالرواية الهندية في أوربا القرون الوسطى عبر الآداب الجورجية ،ممثلة برواية “بارلام وجوزافات “التي هي في العمق سيرة بوذا مسرودة وفق المنظور المسيحي. انظر :
Serge Tsouladzé , Connaissance de Roustaveli, op.cit., p.11-12
17-Mossé Khonéli , Amiran-Daredjaniani (Roman de chevalerie), traduit du géorgien et préfacé par Gaston Bouatchidzé , Illustrations de Natalia Markova , éditions » Radouka » ,Moscou , 1990.
18- رغم الجهد الكبير المبذول لنقل مضمون الملحمة فإن الترجمة النثرية العربية تحول دون الوقوف عند ملمح من أهم ملامح هذه الملحمة الجورجية ،وهي التجديد الشعري الذي أشاد به النقاد الجورجيون وتوقف عنده مترجموها إلى اللغات الغربية وهم يتأسفون على الخسارة التي منيت بها الملحمة أثناء عملية النقل من اللغة الجورجية ، ومن بينهم سيركي تسولادزه الذي فازت ترجمته للملحمة إلى اللغة الفرنسية سنة 1964 بجائزة لانكلوا لأكاديمية العلوم الفرنسية.
19- Voir : Léon Gautier , La Chanson de Rolland, (Texte critique , Traduction et commentaire),Cinquième édition ,éditeurs , Alfred Mame et fils ,éditeurs, Tours .
20-L’ennemi sans foi ni loi… (Ibid)
21- في ملحمة أميران بن داريجان نجد بالإضافة إلى الأسماء العربية التي تحملها شخصيات هندية وعربية وفارسية من مثل:عبد السلام ، أبو الحسن بن أبو القاسم ، أبو بكار، والأسماء الفارسية والهندية والجورجية التي تم إطلاقها على شخصيات فارسية وهندية من ،(نجد) أسماء مركبة تجمع بين الاسم العربي والجورجي ،إلخ ..، كما يلي :Djazirمثل
Ali Mohamadisdzé , kamar komréli , …
22-انظر في هذا الشأن مثلا :
-Collectif , The Knight in the Panter’s Skin and its Place in the World Literature. Modern Interpretation, (Dedicated to the 850th Anniversary of the Creation of « The Knight in the Panter »s Skin“,TSU Shota Rustaveli Institute of Georgian Literature, 2016.
-Maka Elbakidze ,The Man in the Panther’s Skin In the Context of Medieval Literature , LAP LAMBERT Academic Publishing , 2018.
23- انظر بهذا الصدد دراستنا : “الفروسية الغرامية ونسائم الحب العذرية “، ضمن كتاب على حدود المقارنة ، دارالنابغة للنشر والتوزيع، طنطا،2021، ص.38-64.
24- Serge Tsouladzé , Connaissance de Roustaveli , op.cit., ,p.36.
25- انظر مثلا بخصوص العلاقات بين بلدان القوقاز و أوروبا ابتداء من القرون الوسطى :
-Isabelle Augé et autres ,L’Arménie et la Géorgie en dialogue avec l’Europe: du Moyen âge à nos jours ,Geuthner , 2016.
26-وكان ساعتها خاضعا للسلطة الجورجية.
27- ابنة الملك جورج الثالث وولية عهده جلست على العرش بعد تنازل أبيها لها عنه ،مابين 1184و1213 .
28- تحكي الملحمة حكاية ملك عربي تنازل لابنته الوحيدة عن العرش ، لترث بذلك ملكا عظيما قررت أن تديره مع قائد جيش أبيها، الذي تجمعها به علاقة حب عفيف غايتها الزواج .إلا أن شرطها الوحيد لكي يتم الزواج، هو أن يذهب للبحث عن الفارس في إهاب النمرالذي تحدى اباها ذات رحلة صيد وأدخل الحزن إلى قلبه .فيكون الفراق لتبدأ رحلة البحث التي ستسفر عن صداقة وثيقة بين الفارس العربي وصنوه الفارس الهندي يكون من نتائجها مساعدته للعثور على حبيبته المختطفة والمسجونة في بلاد الجن . تنتهي الملحمة بعد أحداث متشعبة تمثل حيلة سردية لنشر أفكار إنسية تنويرية ، باللقاء السعيد وبوصال المحبين ،مؤسسة بذلك تفاعلا من نوع خاص مع فلسفة الحب العذري العربية .
29- -في القرن الثالث الميلادي كانت جورجيا محمية فارسية.
30- مع العلم أن الآداب الجورجية عرفت انتعاشا فعليا بعد انحدارها في القرن الثالث عشر ابتداء من القرن السابع عشر تحديدا . انظر :
– Dato Barbakadzé , op.cit., p.10.
31- دانييل – هنري باجو ، الأدب العام المقارن ، ترجمة غسان السيد،منشورات اتحاد الكتاب العرب،1997، ص.90.
32- نفسه ،ص.92.
33 –نفسه ،ص.92.
34-درج هؤلاء الكتاب “على إلباس أبطالهم ثوب الخرافة والغرابة جاعلينهم عمالقة وغيلانا وحيوانات خرافية كالتنين والعنقاء وغيرهما ، معتمدين في ذلك على القوة البدنية الخارقة”.(انظر : نزار خليلي ،مقدمة ، الفارس في إهاب النمر، م.س.، ص.8.) .
35- Serge Tsouladzé, Serge Tsouladzé, « introduction », op.cit., p.14.
36-“كان الغربيون يعتقدون في معظم فترات العصور الوسطى وفي إبان مطلع عصر النهضة في أوروبا أن الاسلام دين شيطاني يتضمن الردة والتجديف والغموض ولم يكن يعنيهم أن المسلمين يعتبرون محمدا نبيا لا إلها ، وأما الذي كان يعني المسيحيين فهو أن يصفوا محمدا بأنه نبي كاذب ، رجل يبذربذور الشقاق ، ويحب الملاذ الحسية ، ومنافق وعميل للشيطان. ولكن هذه النظرة إلى محمد لم تكن تقوم على أسس العقيدة ،ان شئنا الدقة في التعبير، فالأحداث الواقعية في العالم الحقيقي من حولهم جعلت من الإسلام قوة سياسية جبارة….”.(إدوراد سعيد ، تغطية الإسلام، ترجمة محمد عناني ، رؤية ، ط1، 2005، ص.71. ).
37- Charles le roi, notre grand empereur.
Sept ans entiers est resté en Espagne :
Jusqu’à la mer, il a conquis la haute terre.
Pas de château qui tienne devant lui,
Pas de cité ni de mur qui reste encore debout
Hors Saragosse, qui est sur une montagne.
Le roi Marsile la tient, Marsile qui n’aime pas Dieu,
Qui sert Mahomet et prie Apollon;
Mais le malheur va l’atteindre : il ne s’en peut garder. (p.3-5)
38- نعطي مثالا بالخليفة عمر بن عبد العزيز الذي عد خامس الخلفاء الراشدين .
39- جماعي ، الوجيز في الأدب المقارن ، بإشراف بيير برونيل وإيف شيفريل ، ترجمة غسان السيد ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، 1999 ،ص. 147-.149
40 -من خلال أسلوب حياة الفرسان وعدتهم: دروع ، ورماح وسيوف وخيول .. ،مباريات و مبارزات في الساحات العامة بحضور الملوك والجمهور …، ناهيك عن التراتبية بين الفارس والتابع داخل مؤسسة الفروسية.
41- في تزامن مع تأسيس المرحلة الثانية المؤرخة للعصر الفيودالي الثاني الذي بصمته الحروب الصليبية في فرنسا وبقية البلدان الأوروبية بعدها. فإذا كان تطور مؤسسة الفروسية وتغير معالمها في أوروبا وثيق الصلة بالمواجهة الصدامية بين الحضارة الأوروبية والحضارة العربية الإسلامية المتفوقة آنذاك، فإن تطوير مؤسسة الفروسية في الملحمة في سبيل خلق نهضة إنسية ، يقوم على التفاعل مع نفس الحضارة بعيدا عن الصدام.
42-Chota Rostavéli , Le chevalier à la peau de Panthère , traduit du géorgien , préfacé et commenté par Gaston Bouatchidzé , Eds .Radouga , Moscou , 1989,p.7.
43 – Serge Tsouladzé, « introduction », op.cit., p.12.
44 –Ibid , p.13.
45-Serge Tsouladzé , Connaissance de Roustaveli, op.cit.,p.49.
46- Serge Tsouladzé, « introduction », op.cit., p.13.