كلّما هبّت نسائم الحج ّوتوافد ركب الزّوار على أرض النبوة كلّما توافدت على مخيّلتي مجموعة من صور البيت العتيق ،على كثرتها وسهولة استحضارها تظّل الصورة الحاكمة والعميقة هي صورة الأرض الموات، الأرض الفقيرة بيئيا لكنها تفيض غنى من حيث الرّموز والدّلالات. .
هي صورة واد غير ذي زرع ،واد ميّت لا روح تخفق فيه ولا جناح يرّف فيه ،غير أن سعي امرأة وحيدة سيحوّل هذا الوادي إلى منبع لعقيدة التوحيد… إلى مركز للعمران وإلى مهد لصناعة فصول من التاريخ البشري . .
جلّنا يعرف قصة السيدة “هاجر” لكن بعضنا يغفل أسرارها .
فقد مجّد الله سعي” أم إسماعيل عليه السلام” بين جبلي “الصّفا والمروة “فجعله شعيرة من شعائر الحج :”إنّ الصّفا والمروة من شعائر الله” سورة البقرة .
عند جمهور العلماء يبطل الحجّ بترك السعي بينهما ، يبطل إذا لم يلتمس ضيوف الرّحمان نفس طريق العطاء والحبّ الذي سلكته السيدة “هاجر”، إذا لم يغنموا هباته الإيمانية والإنسانية التي انسابت بين الجبلين . .
اللاّفت أنّ ذكر السيدة “هاجر” يرتبط دوما بالماء، سرّ الحياة وباعثها على الاستمرارية . الماء الذي كان ولا يزال له حضور وازن في الشعائر والممارسات الدينية سواء في الإسلام، المسيحية واليهودية.كما كان له حضور طاغ في أغلب الأساطير والثقافات القديمة التي أله بعضها عنصر الماء ــ الإله مون عند قدماء المصريين ــ وقدسه بعضها ألآخركما في أسطورة أدو نيس وعشتروت .
ارتباط اسم السيدة “هاجر”بالماء بدأ في واد غيرذي زرع فيه تم اللقاء، بين أمومة معطاء وماء مغداق …هناك حيث كان الجوع والعطش يقرض أحشاء رضيع بعد نضوب ثدي أمّ لم ينضب سخاء قلبها وقوة عزمها في مقاومة شبح الموت و في إسكات بكاء الوليد .
صعدت جبل” الصّفا “لعلّها تجد ماء أوتبصر بشرا يحمله لكن دون جدوى، وهي تهبط إلى بطن الوادي المنخفض قاصدة جبل” المروة “استعصت عليها رؤية ابنها فشرعت في الهرولة حتى يرتفع بصرها ويقع على الرضيع الذي أودع بكاؤه في قلبها جمرا.
بعد تكرار السعي بين” الصفا والمروة” أشرق النور في آخر النفق، تدفق ماء زمزم، لترمي السيدة هاجر آمالها عند نبعه وترتمي على صغيرها ترويه وتروي الأرض الميتة .
إن ارتباط اسم السيدة “هاجر” بالماء أمر جدير بالتأمل ،فهو لا يرتبط بأي ماء ،وإنما بماء نابض بالحياة هو طعام طعم وشفاء سقم،ماء متدّفق بالحياة منذ آلاف السنين، لم ينضب ولم يتكدّر، كعطاء الأمومة الصافي والفيّاض الذي لطالما لطف بالجنين قبل عملية المخاض والذي أشبع ولا يزال كل ظمآن متعطّش إلى السقيا من زلاله. .
ومثل الماء المعروف بخاصية الحركة المستمرّة بين سطح الأرض والهواء “دورة الماء ” لم تستسلم السيدة هاجر لشبح الموت وإنّما تحركت وسعت بين جبال وقور لم يستطع صمتها الموحش إخراس صوت أمومتها الناطق بكل معاني الحب والفداء، فقطعت مسافة ثلاثة كيلومترات تقريبا تبحث عن الماء صعودا ونزولا .ولعظيم الفعل خلده الله وجعله شعيرة من شعائره .
إنّ السيّدة” هاجر” تعدّ رمزا للأرض المزروعة المثمرة فإذا كان سعيها بين الجبال قد أثمر ماء زمزم فإنه في المقابل أثمر أيضا عمرانا بشريا في مكة المكرمة بعد استقرار قبيلة “جرهم “العربية فيها التي استأذنت سيدة النبع “هاجر” في النزول بجوارها والاستفادة من “مائها ” لتدّون فصول رئيسة من التاريخ الإنساني، بدأت من هناك ،من واد أعشب و أورق شجره بعد أن كان غير ذي زرع. فسلام على أهيل ذاك الوادي.