في العاشر من يونيو الحالي تكون قد انقضت مئة وستة من الأعوام على الثورة العربية الكبرى التي شبت عام 1916 ضد سطوة الدولة العثمانية وامتدت من الحجاز إلى بلاد الشام والعراق بهدف اسقاط الحكم التركي وإقامة دولة عربية واحدة. ومع أن مصر لم تشارك في تلك الثورة إلا أنها عانت من الحرب حين شكل الانجليز فيها ” فيلق العمل المصري” لتجنيد الفلاحين بالقوة ليخدموا في خطوط الانجليز الخلفية حيث المعارك الضارية، وتعذب في تلك السخرة نحو نصف مليون فلاح كان كل منهم يتقاضى خمسة قروش في اليوم مقابل العمل والمخاطرة بحياته. وربما تكون رواية الكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد ” الرغيف” هي العمل الأدبي الوحيد الذي تصدى لتصوير أحوال الشام خلال مقاومته للعثمانيين. ومن اللافت للنظر أن الرواية صدرت عام 1939، وهو العام ذاته الذي صدرت فيه ” عبث الأقدار ” أولى روايات نجيب محفوظ. ومن اللافت للنظر أيضا أن يكون التاريخ موضوع الروايتين، مرة الفرعوني عند محفوظ ، ومرة الثورة العربية الكبرى عند توفيق عواد. لكننا عند الحديث عن نشأة الرواية العربية قلما نشير إلى الأجنحة العربية التي أسست الرواية العربية وحلقت بها عاليا جنبا إلى جنب مع محفوظ. للكاتب اللبناني الكبير رواية أخرى هي” طواحين بيروت” صدرت عام 1972، وللكاتب أيضا عدة مجموعات قصصية جديرة بأن تنال مكانتها في تاريخ السرد القصصي. في رواية ” الرغيف” نقرأ الأحداث بعيني صبي صغير يتابع الحرب وبزوغ المقاومة العربية خلالها بعد أن سنحت أمام العرب فرصة الخلاص من الحكم العثماني. يقول الكاتب في ذلك إن الشباب النابهين:” تعاونوا مع إخوانهم وأبناء عمومتهم وخؤولتهم في كل شعب من الشعوب العربية على خلع نير الأتراك”. ويعرض لنا الكاتب الكبير أحداث الثورة العربية من خلال شخصيات نراها قريبة منا ونكاد أن نتحدث معها: ” وردة كسار” صاحبة محل البقالة التي ازدهرت تجارتها بفضل العسكر التركي، و” زينة ” الشابة الجميلة التي تعلق قلبها بالمقاومة، و”سامي” الذي اختار أن ينضم إلى صفوف المقاتلين، بل ومن خلال ” خليل أبو العلا” الخائن، ثم الضباط الأتراك وبطشهم بالشوام في لبنان وسوريا. يستعرض الكاتب حياة البشر وعلاقاتهم المعقدة على خلفية سياسة تركيا حينذاك التي قامت بعد انخراطها في الحرب العالمية الأولى بتجنيد العرب بالقوة، ومصادرة جمال باشا السفاح لأملاكهم الزراعية لإطعام العساكر الأتراك، مما أفضي إلى مجاعة بشعة عام 1915 توفي خلالها نحو نصف مليون رجل وامرأة. جمال باشا السفاح هذا هو نفسه من حاول في 1915 دخول مصر عن طريق قناة السويس وفشل. وتذكر كتب التاريخ عن المجاعة التي تصفها رواية الرغيف أنها أهلكت في حلب وحدها نحو مئة ألف، ومئتي ألف في لبنان مثلوا ثلث سكانها حينذاك. خلال ذلك كان ” الرغيف” حلم النساء والرجال، يخوضون الوحل بحثا عنه، ويدركون أن الرغيف وثيق الصلة بتحرر أوطانهم، ويواصل بعضهم القتال ضد الأتراك في الجبال. الرواية عمل بديع يجب أن نضعه دوما نصب أعيننا ونحن نتحدث عن نشأة الرواية العربية، خاصة عندما يكون العمل مشحونا بالأمل، والعزيمة، واستشراف المستقبل. أخيرا ربما تجدر الاشارة إلى لغة الكاتب الرائعة التي لا نظير لها، والتي امتازت بها أعمال الأدباء السوريين : عبد السلام العجيلي، والقاص المدهش ابراهيم صموئيل، وغيرهما من أساتذة السرد العربي.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري