الرئيسيةأعمدةد.عبد الكريم برشيد: المسرح والصحراء ” الأرض والإنسان والزمن “

د.عبد الكريم برشيد: المسرح والصحراء ” الأرض والإنسان والزمن “

عبد الكريم برشيد

تأملات على مهرجان المسرح الصحراوي بالشارقة بالإمارات العربية المتحدة 14 ـ 17 ديسمبر 2017
عندما نتحدث عن المسرح اليوناني ـ مثلا ـ فنحن بالتأكيد نتحدث عن قوم من بني الإنسان، ونتحدث عن حيز مكاني على هذه الأرض، ونتحدث عن مرحلة زمنية في التاريخ، ونتحدث عن سياق حضاري له خصوصيته، ونتحدث عن منظومة فكرية وجمالية وأخلاقية معينة، ونتحدث عن نظام للحكم قائم على المشاركة والحوار، ونتحدث عن نظام للعيش، ونتحدث عن رؤية عامة للوجود والحياة، وأعتقد أن بمثل هذه العين، وبمثل هذا المنطق أيضا، ينبغي أن نقرأ اليوم المسرح الصحراوي، أي باعتبار أنه ثقافة أولا وأخيرا، وأن من طبيعة هذه الثقافة أنها الوجه الرمزي للفلاحة، والتي تتم أساسا من خلال العمل مع التربة، ومع الماء ومع الهواء ومع الزمن الذي ينضج الثمار، تماما كما ينضج الأفكار أيضا، ونعرف أن هذا الإنسان الصحراوي لا يعيش في الفراغ المطلق، ولكن على أرض لها جغرافيتها الخاصة، ولها منطقها ولها لغتها ولها فكرها ولها رؤيتها ولها جمالياتها ولها أخلاقياتها المختلفة ولها سحرها وغرائبيتها، ونعرف أن الإنسان لا يمكن أن يوجد في الفراغ، وهو يوجد على أرض معينة ومحددة دائما، وفي حقبة زمنية محددة أيضا، وهو بهذا نبت من نبات هذه الأرض، وهو محكوم بأن يشبه تربته، وأن يشبه زمنه، وأن يشبه نظام العيش على هذه الأرض، ولهذا يكون ضروريا البحث عن المسرح الصحراوي في ظل شروطه، وفي إطار سياقاته التي ساقته، ومن خلال إثارة الأسئلة عن معنى الصحراء أولا، وعن معنى وجود الإنسان فيها ثانيا، وعن طبيعة الصراع الوجودي مع المظاهر الغاضبة لهذه الطبيعة ثالثا، وإذا كان الإنسان في المسرح اليوناني يواجه غضب الآلهة، فهو في المسرح الصحراوي يواجه غضب الطبيعة، والتي تتجلى أساسا في السراب وفي الرمال المتحركة وفي العاصفة الرملية وفي الضلال والتيه، وذلك في الفضاء اللامحدود، ويواجه قساوة العيش، ويواجه النظام العشائري القاسي، ويواجه منطق الغلبة للأقوى، وفي ظل هذه الخصوصية الصحراوية، هناك أسئلة كثيرة ينبغي أن يطرحها المسرح الصحراوي، والتي تتعلق أساسا بسؤال الوجود وبسؤال الهوية وبسؤال المعنى وبسؤال المبنى، وأرى أن هذا المسرح يعيدنا اليوم إلى درجة الصفر في البحث عن الذات المبدعة والخلاقة، والتي هي درجة التأسيس، أو هي درجة إعادة التأسيس، ولعل هذا هو ما يجعل هذا المسرح يشكل رافدا جديدا، ينضاف إلى كل الروافد المسرحية الكثيرة والمتنوعة في العالم، والتي ينبغي إلى تصب كلها في مصب واحد، والذي هو المسرح العربي، في بعده الإنساني والكوني العام.
مسرحنا والسؤال المؤجل
وفي هذا المسرح العربي، تماما كما في كل الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، طرحنا ( كل) الاسئلة الهامشية والجانبية والشكلية والهامشية والمرحلية، وأغفلنا الأسئلة الحقيقية والأساسية والجوهرية، لقد طرحنا سؤال:
ــ هل مسرحنا تجريبي؟
وطرحنا سؤال: هل مسرحنا حداثي؟
وطرحنا سؤال: هل مسرحنا معاصر؟
لقد طرحنا كل الأسئلة المتعلقة بشكل المسرح وبتقنياته واتجاهاته ومدارسه، وأغفلنا طرح سؤال المضمون وسؤال الوجود وسؤال الهوية، وأعتقد أن السؤال الذي تم القفز عليه هو السؤال التلي:
ـ هل هذا الذي نسميه ( مسرحنا) هو فعلا مسرحنا؟
ونعرف أن د, طه حسين في كتابه ( في الشعر الجاهلي) قد اتهم هذا الشعر بأنه منتحل، وأنه غير حقيقي، لماذا؟ لأنه لا يعكس الروح الجاهلية فيه، ولا يعكس ذلك النظام الديني والاجتماعي والأخلاقي العام، والذي هو جزء من بيئة جغرافية وثقافية وحضارية عامة، وأخوف ما نخافه اليوم، هو أن يأتي زمن يقال لنا فيه:
ــ أين مسرحكم في هذا المسرح؟
ـ وأين حياتكم في هذا المسرح؟
ـ وأين ثقافتكم في هذا المسرح؟
ـ وأين هي الصحراء في مسرحكم؟
ليس مستبعدا أبدا أن يقال لنا غدا، في حال إذا ما غفلنا هذا المكون الطبيعي والثقافي في مسرحنا: مسرحكم هذا منتحل، وهو غير صادق وغير حقيقي، وفيه كل شيء إلا ما هو أساسي وما هو جوهري وما هو تاريخي، والذي هو عبقرية الإنسان وهو عبقرية المكان، وعبقرية المسرح، وعبقرية الزمن وعبقرية الوجود والحياة، ونعرف أن المعلقات الشعرية العربية كانت من إبداع الإنسان بكل تأكيد، ولكنها أيضا، كانت من إبداع الفضاء الصحراي، والذي هو فضاء مفتوح على الأرض والسماء وعلى وادي عبقر، حيث يقيم شياطين الشعراء
ومن المؤكد أنه سيقال لنا: لقد هرولتم نحو التجريب الشكلاني، واستعرتم أحدث التقنيات، ورددتم نفس المصطلحات، ونقلتم آخر المنهجيات، ولكنكم قفزتم على الواقع، وقفزتم على التاريخ وعلى روح التاريخ.
وما لا يعرفه البعض ـ أو ما لا يريد أن يعرفه ـ هو أن البداوة ليست مرحلة في التاريخ، يمكن أن تتجاوزها الأيام والأعوام، ولكنها نظام كامل في العيش والوجود وفي التلاقي وفي الاحتفال والتعييد، وفي الرؤية والتفكير، وفي الخلق الجمالي والإبداعي، وهذا النظام موجود الآن هنا، بنا ومعنا، وهو يعكس رؤية عذرية وصادقة وشفافة للحياة.
وبخصوص هذا الذي نسميه المسرح الصحراوي، فإننا نجد أنفسنا، وربما لأول مرة، أمام التحدي الذي يمثله السؤال التالي:
ــ وهل هناك شيء حقيقي يسمى المسرح الصحراوي؟
وجوابا على هذا السؤال يمكن أن أقول ما يلي، إذا لم يكن هناك مسرح صحراوي، إلى حدود الأمس القريب، فإنه ينبغي أن يكون موجودا مستقبلا، وبشكل كامل وحقيقي، فمادام هناك إنسان صحراوي، يعيش على هذه أرض هذه الصحراء، وكانت لهذا الإنسان ثقافة الصحراء، وكانت له حاجة فطرية للمسرح والتمسرح، فإنه من الواجب أن يبحث عن مسرحه الذي يشبهه، والذي هو مرآة روحه، وهو مرآة وجدانه، وهو مرآة واقعه وتاريخه، وهو مرآة وعيه الفردي والجماعي، وبهذا يكون هذا المسرح اليوم في درجة التأسيس، ويكون موجودا، بشكل أوضح وأفصح، في المستقبل الآتي، ونعرف أن كل مسارح العالم الكبرى، ما كانت لتعيش عبر التاريخ، إلا لأنها حافظت على روح التأسيس فيها، وعلى آليات إعادة التأسيس، ولهذا فقد أوجدت لكل مقام وجودي مقاله المسرحي الخاص، وأوجدت لكل حادث في التاريخ حديثه الفكري والجمالي الخاص، وأوجدت لكل مرحلة تاريخية مسرحها الخاص، ولعل هذا هو ما ينبغي أن يقوم به المسرح الصحراوي اليوم.

 

د.عبد الكريم برشيد

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *