الرئيسيةأخبارحوار لسعدي يوسف مع “طنجة الأدبية” نُشر سنة 2011

حوار لسعدي يوسف مع “طنجة الأدبية” نُشر سنة 2011

الشاعر سعدي يوسف لـ«طنجة الأدبية»: – البانوراما الحالية للشعر العربي ليست مغرية وأنا لست ملزما بمتابعتها

 

سعدي يوسف أحد القمم الشعرية العربية وهو شاعر و قاص ومترجم غزير الإنتاج، لديه  45 ديوانا شعريا صدر أولها سنة 1952 ، إضافة لعدة دواوين شعرية مترجمة لكبار الشعراء العالميين كوالت ويتمان وكفافي ولوركا وفاسكوبوبا وغيرهم، وروايات ترجمها لهنري ميلر وولي سونيكا وجورج أورويل وأنطوان دوسانت إكسوبري وآخرين. أما مجاميعه القصصية فبلغت تسعة مجاميع صدرت أولاها «نافذة في البيت المغربي» سنة1974 وآخرها «يوميات ما بعد الأذى» سنة2007.
فاز بعدة جوائز شعرية من بينها جائزة سلطان العويس والجائزة الإيطالية العالمية وجائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلف أجنبي. إلتقيناه بمدينة طنجة وكان لنا معه هذا الحوار التلقائي والعفوي، وهما للإشارة صفتان تميزان شاعرنا الكبير نفسه:

– ربما أنت من بين الشعراء العرب القلائل الذين مازالوا يحافظون على الإلتزام بقضايا الأمة رغم أن قصيدتك لا تتميز بذلك الصوت العالي، أو كما يقول عنك عبد العزيز المقالح في مقال منشور بجريدة الحياة اللندنية: «سعدي يوسف شاعر سياسي من دون شك، لكن القصيدة السياسية تختلف أو تتميز عنده عن كل ما يكتبه الشعراء السياسيون من حيث الحضور المكثف للطبيعة والصورالفنية التي تجعل من القصيدة السياسية شيئا لا يمت بصلة إلى تلك القصائد الهادرة التي تستخدم الألفاظ الكبيرة…» هل تتفق مع هذا التصنيف وهل تعتبر نفسك شاعرا سياسيا أم شاعرا فقط؟
– أنا أتفق مع صديقي عبد العزيز المقالح وهو شاعر جيد وأكاديمي وأحترم أحكامه ووجهة نظره النقدية، أنا فعلا أهتم بالشأن السياسي في حياتي وكذلك عبر النص، ولكن لا يمكنني أن أقول أني أكتب قصيدة سياسية، هذا الجدل نفسه ورد قبل أكثر من عشر سنين حول ماسمي بالأغنية السياسية، وأنا قلت في حينها أن هذا التعبير ليس دقيقا، فالأغنية هي الغنية وليست أغنية سياسية أو أغنية غير سياسية، وكأن القول بالأغنية السياسية يخرجها عن الأساس الذي هو قيمة صوتية وموسيقية، كذلك فيما يتعلق بالقصيدة، معظم نصوصي في واقع الأمر لها علاقة بالناس، بالحياة اليومية وبالطبيعة، لكن القضايا السياسية تلح على الإنسان إلحاحا شديدا، فينبغي للفنان أن يستجيب، وكذلك أستجيب.. الإنسان مخلوق سياسي بشكل ما، أنا أيضا مخلوق سياسي، لأن السياسة تأثر على المرء في حياته اليومية وكذلك في رسم ربما معالم حياته كلها، مثلي أنا، لكني لا أتقصد أن أكتب في السياسة إلا إذا صارت لدي استجابة عميقة، وهذه الإستجابة يمكن أن تتخذ لها صورة جمالية أو فنية عبر النص الشعري.
– في نفس السياق، ماذا تبقى في نظرك هنا والآن من الأطروحة الغرامشية حول «المثقف العضوي»، وهل مازال لها وقع في السياق الحالي؟
– طبعا جاء غرامشي بأطروحة المثقف العضوي، ثم تم تعميم مسألة المثقف عنده  بحيث أن كل من لديه وجهة نظر عامة في العالم يعتبر مثقفا، وهكذا يمكن إدراج معظم الناس ضمن أطروحة غرامشي باعتبارهم مثقفين… تعبير المثقف العضوي قد يكون الآن سائدا ولكن على عكس مفهوم غرامشي، يعني المثقف صار عضويا في أجهزة الحكم (بسخرية وهو يبتسم) عند السلطان، عند الحكومات، في محطات التلفزة، صار مستأجرا، مثقفا عضويا ولكن على عكس مما أراد غرامشي…
– قصيدتك هي قصيدة التفاصيل الصغيرة كما يقول عنك النقاد وربما تقترب في بعض الأحيان من السرد القصصي دون فقدان شعريتها، إنطلاقا من هذا ماذا عن تداخل الأجناس في شعرك وكل كتاباتك، بما أنك كتبت أيضا القصة والرواية، وهناك مؤلفات لك غير مجنسة كـ«يوميات الأذى» و«يوميات مابعد الأذى» و«يوميات المنفى»؟
– أنا أقر معك حول مسألة السرد.. السرد أساسي في كتاباتي وبإمكانك أن تطلق على قصائدي لفظ القصائد السردية وهذه هي طريقتي في الكتابة، أما كيف؟ فالمسألة أصول، أنا أهتم بالقصة القصيرة تماما وحاولت أن أكتب القصة القصيرة في المجموعة القصصية «نافذة في المنزل المغربي».. وأقرب الأنواع الأدبية إلى القصيدة كما أراها هي القصة القصيرة. السرد قيمة إيجابية لأنه يقرب النص من القارئ، السرد يجعلك تهتم بالحقائق، ليس التهويم فقط، التهويم ليس الطريق السليم أو الأساس للنص كما أرى، السرد يساعد في قراءة الأرض حقيقة. أتذكر في وقت مبكر من حياتي قرأت لكاتب قصة أمريكي شهير يقدم نصيحة لكاتب شاب، قال له: «أنت في غرفة نوم تستيقظ، تخرج من غرفة النوم إلى باب بيتك في الخارج، تعبر ممر المشاة إلى رصيف آخر..»، قال له: «هذا هو الإمتحان الأول»، هاهو يوصيه إذن بدراسة الأرض، بدراسة التفاصيل، بأن يخرج ويعبر الرصيف إلى الناحية الأخرى، «بعد ذلك ستتعلم كيف تكتب»، وهكذا أنا تعلمت بالتدريج كيف أكتب، وقد أفادتني هذه النصيحة كثيرا، ولهذا فالتفاصيل التي ذَكرتها موجودة في نصوصي، أنا أراقب الأشياء وفي الحقيقة أنا في معظم حياتي أراقب الأشياء لأدخلها في القصائد، غير مستريح، أمشي في الشارع وأنا أفكر هل بإمكاني إدخال هذا الشيء في نص مقبل، أحيانا يتعبني الأمر، لأني لا أريد أن أكون دائما براغماتيا ومستغلا حتى متعتي، أظل في موضع المراقب ولست في موضع المستمتع.
– تكتب باللغتين العربية والإنجليزية، إنطلاقا من هذا ماذا تعني لك اللغة وهل تجد نفسك أكثر في العربية أم أن اللغة بالنسبة لك مجرد وعاء حتى وإن حافظ على شعريته؟
– أنا أكتب باللغة الإنجليزية ولكن ليس الشعر، أكتب مقالة، أكتب قصة، أترجم ما أكتبه إلى اللغة الإنجليزية، لكنني لا أستطيع أن أكتب شعرا باللغة الإنجليزية، الإنجليزية ليست لغتي الأم وأنا أعتبر اللغة العربية أجمل اللغات كلها وأكثر لغات العالم حرية في توليد الكلمات، حول مبدأ الإشتقاق، حول مبدأ القياس في اللغة، وبإمكان الإنسان المهتم باللغة أن يستنبط كلمات جديدة ويدخلها في اللغة العربية.. أمس كنت في حديث مع أحمد الريسوني والمهدي أخريف وانتبها إلى كلمة إستعملتها، إستعملت «منابذ»، منابذ مكناس، هذه الكلمة لم توجد قبل في اللغة العربية وهي تعني الأماكن حيث يصنع النبيذ، ولدت هذه الكلمة، لكني لم أولدها هكذا من الحائط، أنا لدي في اللغة العربية قواعد للتحرير وليس العكس..هي إسم مكان مفرد منبذ والجمع منابذ، ولا تبدو الكلمة غريبة ولا نابية بل طبيعية كأنها كانت دائما موجودة في اللغة، ومن هنا أنا لا أستطيع ان أكتب شعرا بلغة غير العربية، هذا مستحيل.
– ما الأمر الذي يجعلك تكتب قصة عوض أن تكتب قصيدة، هل الموضوع هو الذي يفرض عليك نوع الجنس الذي تكتبه أم ماذا؟
– كتبت القصة تحت وطأة الذكريات، كان ينبغي علي أن أدونها خاصة وأنا في الجزائر والمغرب. أنا لا أكتب مذكرات لكن قلت خير وسيلة لتثبيت هذه الذكريات أن أضعها في صيغة فنية وأنوعها كقصص قصيرة، وقراءاتي في القصة القصيرة وفي الرواية ساعدتني في هذا الأمر إذ أني لست غريبا عن هذا، مثلا في بيتي بلندن الروايات أكثر من الكتب التي تعنى بالشعر ونقده، معظم مكتبتي مكتبة روائية وأنا أقرأ الرواية باستمرار وهي ليست غريبة علي، مع مرور الزمن أصبحت أقرأ الشعر بصورة أقل، صرت انتقائيا جدا في قراءة الشعر إلا عددا قليلا ممن أهتم بهم إهتماما شخصيا، أتابع مايكتبون، لكن على العموم البانوراما الحالية للشعر العربي ليست مغرية وأنا لست ملزما بمتابعتها…
– هل يعني هذا لك أن الشعر الآن في العالم العربي ليس بخير؟
– أبدا.. صار هناك تباعد أو قطيعة بين النص والحياة وهذا مقتل للنص، بعض الناس يخافون، لا يكتبون خوفا، ليست هناك حرية تعبير، والمسألة شائكة ومرتبكة ليس فقط من جانب الحكومات لكن أحيانا تيارات من المجتمع نفسه تمنعك من الكتابة. صحيفة «الحياة» اللندنية مثلا تمنع استعمال كلمة خمر أو نبيذ على الإطلاق، مرة أرسل إليهم حسونة المصباحي في «الحياة» قصة بها شخصية دخلت إلى حانة بألمانيا ففوجئ بعد نشر القصة أنهم بدلوا البيرة بالشاي(ويضحك)…
– إذن مقولة أن ديوان العرب لم يعد هو الشعر وأن الرواية ربما هي التي أخذت مكانه تجد لها شرعية الآن؟
– يمكن.. الرواية أشجع، فعبد الرحمان منيف مثلا عبر عن المملكة العربية السعودية في رواياته خيرا من الشعراء…
– يقول عنك محمود درويش: «منذ قرأت سعدي يوسف، أصبح بالنسبة لي الشاعر الوحيد الذي يعبر عن ذائقتي الشعرية باعتباره واحدا من أعظم شعرائنا…»، لن أسألك عن ما تمثله لك هذه الشهادة من محمود درويش بل أسألك ماذا يمثل لك محمود درويش نفسه؟
– محمود درويش رفيق حياة ورفيق رحلة في القصيدة ونحن قريبان من بعضنا، واحدنا يستأنس برأي الآخر وحمود درويش رحل وهو في قمة من قمم تطوره وتمتعه بحرية الفنان المكتسبة، مع الأسف ذهب.. قبل ذلك التقيت به في باريس قبل أن يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء عمليته الأخيرة، وكان قد نصحه الأطباء الفرنسيون بألا يقوم بهذه العملية، وقالوا له بأن نسبة الخطورة فيها قد تبلغ إلى ثمانين في المائة، ولا أدري كيف غامر.. محمود درويش شخص شجاع، كنا في بيروت سنة 1982 تحت القنابل وظل هناك حتى النهاية، جئت أنا تحت إشراف الأمم المتحدة في آخر يوم من أيام الإجلاء في سفينة يونانية ذهبت بي إلى ميناء طرطوس فيما ظل هو في بيروت.. هو رجل تحلى بالشجاعة وحتى قوله عني هذا هو قول فيه شجاعة كبيرة، لأن هناك عددا من الشعراء قد يستاؤون من قولة محمود درويش هذه عني.
– محمود درويش نفسه يقول بأنك «خلقت لغة شعرية جديدة في الشعر، تارة تتميز في البساطة وأخرى في البحث عن الجوهر».. إذن في ماذا يمكن أن تشترك أنت ومحمود درويش شعريا وماذا يميزكما عن بعض؟
– أولا نحن رفيقان شيوعيان، هذه المسألة أنا أفتخر بها ومحمود أيضا يفتخر بها، ثم  بحثنا عن حريتنا في النص مع بقاء نوع من الإلتزام العام بجذورنا. بقي محمود درويش يساريا إلى آخر يوم في حياته وأنا حتى الآن يساري ومفضوح، لا أخفي هذا الشيء. تجمعنا أشياء كثيرة، حتى في طبيعة النص الفني، يوجد نوع من التقارب الخفي، المدخل مختلف لكن المسعى واحد، مسعى الحرية في النهاية.
– حدثني عن شخصيتي «الشيوعي الأخير» و«الأخضر بن يوسف».
– إبتدعت شخصية الشيوعي الأخير وأحيانا أبتدع شخصية الأخضر بن يوسف الذي يذهب إلى هنا ويذهب إلى هناك، يسافر إلى آخره. الشيوعي الأخير شخصية تحمل نوعا من الدعابة، مرة ينزل بالباراشوت، مرة يغوص في البحر، مرة ينسى المفتاح، هي ليست موقفا بقدر ماهي مسعى فني لخلق شخصية.
– ماذا يمثل لك المكان، هل هو ذلك الفضاء المحسوس أم ذلك الشعور الذي تحمله له داخلك والذي يرافقك أينما ذهبت؟
– المكان أساس لدي في كتابة النص، هو الأساس، يعني بدون قراءة المكان لا أستطيع أن أكتب، لهذا عشت في بلدان كثيرة، ومن مهماتي الأولى أن أحاول ألا أكون غريبا، أن أقرأ الأرض، أن أتوطد، لأني لا أستطيع أن أكتب بدون المكان..المكان مسألة هامة جدا في نصي، بدون المكان لا يمكن أن يكون هناك نص أبدا، كنت عند صديقي نزيه أبو عفش كان ابنه صغيرا، كان اسمه كنان، يأتيني برسومات وتخطيطات، وكان حينما يرسم شجرة أو سفينة يضع تحتهما خطا، وحينما أقول له: «ياكنان لماذا هذا الخط؟»، يجيبني: «حتى لا تقع الشجرة في الحفرة».. وقلت لنفسي: «إن إحساس هذا الطفل بالمكان أقوى من إحساسي به، هو يخاف أن تسقط الشجرة في الحفرة، إذن ينبغي أن أتعلم من كنان احترام المكان حتى لا يسقط النص في التهويم، حتى يظل ملتصقا بالأرض، بالحياة».
– هل حقا نحن كالأشجار، وهل نموت واقفين مثلها؟
– والهب حسب موقفنا، حسب الموقف الفردي لكل واحد، الموت واقفا مسألة هامة، تعرف أن كليمانصو أوصى أن يدفن واقفا في القبر؟…
– أنت تعتبر نفسك كشجرة...
– نعم كشجرة
– وتريد أن تموت واقفا؟
– أن أعيش وأن أموت واقفا.
– مثل ما نراه في ذلك لفيلم: «الأخضر بن يوسف» الذي صور عنك والذي نرى به تلك الأشجار التي تسقط واقفة؟
– رأيته؟
– نعم رأيته.
– هذا فيلم لطيف فيه جهد كبير، وتخلص فيه مخرجه من الوثائقية البسيطة. هو ليس عبارة عن مقابلة بسيطة بل جمع عدة فنون، هذا الرجل جودي الكناني أحترم جهده حقيقية. الآن المسألة نادرة أن يكون فيلم عن شاعر حي به حساسية مثل هذه ويحترم القيم الفنية، هي ليست مسألة أن تضع فيديو، هناك جهد فني، أنا ذهبت إلى الدنمارك ومن بعد ذلك جاء فريقه إلى بيتي في لندن واستغرق تصوير وإنجاز هذا الفيلم وقتا وجهدا.
– إعتبرت في أحد أحاديثك الحنين عدوا، كيف ذلك؟
– أنا في رأيي أن الفنان يجب أن يتمتع بقدرة السيطرة على مادته، لأنه مكلف بإعادة تشكيل الأشياء، بإعادة ترتيب الأمور، بإعادة خلق العالم، بشكل ما، ولهذا عليه أن يكون متوازنا حتى يستطيع أن يقوم بهذه المهمة المعقدة.. النوستالجيا تخل بالتوازن، مثلا هناك شجرة صنوبر في النوستالجيا أنت تراها نخلة، النوستالجيا تمنعك من الإشتغال على الصنوبر أو تجعلهما شجرتان تتناوبان، ومن هنا أعتبر الحنين عدوا…
– لكنك لا تستطيع التخلص منه نهائيا..
– بالتدريج أستطيع، فمثلا «الديوان الإيطالي» ليس فيه كلمة واحدة عن العراق، «قصائد نيويورك» ليس فيه أي شيء وهكذا، الآن كتبت ديوانا سيصدر قريبا «صورة أندريا» ليس به أي كلمة عن النوستالجيا.

 

حاوره بطنجة عبد الكريم واكريم(2011-08-17)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *