الرئيسيةأخبارإصدارات: “جحيم حيّ” تأبين الوجع في يقين وطن يحتضر!

إصدارات: “جحيم حيّ” تأبين الوجع في يقين وطن يحتضر!

عندما يختمر الوجع في نسل الحقيقية نضمر الرصاص ونقاوم بقيظ القلم، فنصوّغ من الألم حكايات تنثر على صفيح الوجع، ونتأوّه كلمات تليق بعبثية الشتات، نصرخ في وجه العدم ونفضّ بكارة الورق برؤية عميقة، أداتها اللغة وحصانها الخيال، فنسافر بقلب مفجوع على صهوة الكلمة ونبتكر دلالات مليئة بالمعاني والإيحاءات المدهشة.
صديقنا الشاعر الكردي السوري «إدريس سالم» يحبر لنا ديوانه الشعري الأول «جحيم حيّ» بإبداع نثري ينبض بالحياة، فيطلق العنان لشهوة الحرف في زمن أمسى فيه الموت أكثرة وحدة بين الأحياء، فروحه هائمة تعاند القدر وتثور في ثورة الكلمة بحثاً عن قصيدة تليق بأنينه بعد موت جسده هناك في الوطن، فيقول في الصفحة (59):
في بلادنا
جعلوا الموتَ كائناً أليفاً
لا يثيرُ غريزةَ البقاءِ،
ولا يجتلبُ فضولَ «العدَسَةِ».
إنّنا منحوسون
من الرابعة فجراً
إلى الثامنة صباحاً…
أيّتُها البلادُ المعطّرةُ برائحة جوعها
أيّتُها البلادُ المصابةُ بالحُمّى
متى ترفعُ الشمسُ رأسَها،
وتغنّي…؟!

لو تأمّلنا لوحة الغلاف سنجد ذاك الكم الهائل من الخراب والدمار، بالرغم من صفاء الأزرق المؤشّر للخصوبة والحياة والماء وأسطورة الموت، لكن ذاك الشال الأحمر هو الدم المهدور الذي أراق بلا هوادة في سديم الحرّية، ويُبْس الأرض والشجر هو خير شاهد يحمل دلالات طبوغرافية لوطن يمضي في مخاضه نحو جحيم حيّ، والرأس المقطوع هو رمز التحدّي والمقاومة، رمز الثورة والتغيير روحياً حتى بدون الجسد «الرأس».
يرسم لنا سالم في ديوانه الصادر لعام 2020م عن دار فضاءات للنشر والتوزيع لوحات تراجيديا بجرأة قلمه لعمق مأساة بلاده، وخاصة أبناء جلدته، الذين باتوا رهائن أقدار سوداء ممزّقين في الشتات؛ لا أرض يحملهم ولا سماء يحميهم ولا أصدقاء لهم سوى الجبال، فيسأل نفسه في المقطع الأخير من قصيدة «غناءُ الحجلِ»:
ويبقى ذاك السؤالُ المسعورُ:
«هل سيتوحّدون
كالجار والمجرور،
أم
سيبقون أداةً
لا محلَّ لها
في كلّ العصور؟!».

يلبس ابن مدينة كوباني ثوب الحزن بكلّ شجن، ويغوص في متاهة الوجع بصخب أسود؛ ليلتقط مفردات تليق بمخاض حرب غير منتهية وغير متكافئة، فيحاول أن يحفر في متن اللغة مفردات تعاند شراسة الواقع وكوابيسها، لينسج لغته الخاصة بالعزف على مقام الوجع تقاسيم الحزن، فينتمي بذلك إلى الحداثة والتجديد بلون باهت رافل بالمجاز والجمال، فيصف الحرب قائلاً:
الحربُ:
جُرْنٌ لهرس أحلامٍ نقيةٍ
فأرٌ يخرّبُ حكمةً مؤبّدةً
ابنةٌ خُلِقَتْ
لفقراء حَمقى
لعشّاق غَرْقى…،
ولمدن دافئةٍ على ذاكرتها.

في هذه الديوان بقصائده العشرين نحن أمام لغة لا تكمن جماليتها في الاستعارة فقط بل في الصور البيانية أيضاً، فهنا تتضافر جميعها في تشكيل موزاييك الحزن كلوحة تراجيدية لمأساة شعب بات يعاني حرب دموية، فالشاعر يتحدّى الواقع بكلماته ويصرخ في وجه الطغاة بأن يغادروا هذا الأرض قبل فسادها وخرابها، ليخاطب الديكتاتور متحدّياً شاهراً كلمات قصيدته «سقوطُ الآلهةِ» في وجه جبروته:
لو حفرْتُم حتّى تاسعِ أرضٍ
فلن تُسقِطونا…
لو وصلْتُم إلى تاسع سماءٍ
فلن تُسقِطونا…
لو عبّأْتُم أجسادَنا نُدُوباً
فلن تُسقِطونا…
لو استيقظَتِ الغوريلاتُ
في أفعالكم وأقوالكم
فلن تُسقِطونا…
أتيْتُم مهزومين،
فلن تعودوا منتصرين.

فلغته متأثّرة جدّاً بالوقع المزري الذي يقهر الإنسان ويحطّم كرامته ويعزّز من انكسارات الذات وتشظيّاتها، فتتماهى الأصوات هنا في هذا الديوان لتشكّل قصائد جميلة تعبّر عن تصدّعات النفس وانتصاراً مجازياً على هلاك العالم.
يحاول الشاعر إعادة تشكيل المعنى فيلبسه ثوباً بلاغياً مطرّزاً بالشوق والأنين، حيث يصبّ عليها روحه المتعبة؛ لتبعث تشكيلات لغوية جميلة، تستثير ذائقة القارئ الفكرية وتحرّضه على الثورة ضد الظلم والقمع في ماهية المعنى، لذلك نرى بأن معظم القصائد ذات طابع ثوري فيقول مثلاً في قصيدة «خيمةُ حربٍ… حربُ أرقامٍ»:
إنّنا أحياءٌ أمواتٌ!
صحونٌ فارغةٌ
لموت أكْمَهَ سغبانَ
وجوهٌ من أذِبَّة حَلزونية
والوطنُ
فُجْلَةٌ رخيصةٌ،
وضحيةٌ كُبرى.

المعنى في القصائد ليس المقصود الحرفي وإنما أبعد من مكونات دلالية كلاسيكية، فالرمز حاضر بقوّة ليقلق القارئ بكلّ ما تحمله الجملة من وجع وإسقاط، بذلك تصبح القصائد مكيدة تهرب من معنى واحد لتضخّ معاني غير منتهية في دلالتها بتعدّد ذائقة المتلقّي، فالشاعر يزجّ ما يحمله القلب من أوجاع ليشكّل لوحات سريالية تبحث عن المعنى لهذا الكم الهائل من الحزن والألم، فيقول في المقطع التاسع من قصيدة «صراعُ الطواحين»:
هكذا يولدُ الألمُ في مدينتي
ذاك المُتذمّرُ الصاخبُ
هكذا نطفئُ فراغاً مُعتكِفاً
نُفرِطُ بالأمل
وسطَ ركام العبثية
نجمعُ شظايا عديمةَ الشكلِ
جاهدين نحاولُ
رسمَ معالم روحِ الإنسانيةِ
ننتظرُ الغدَ
في عنق زجاجاتِ ماءٍ مُتْرَبةٍ،
ومصابيحَ مُنيرةٍ بالدُّهمة.
هكذا تتحشرجُ ذواتُنا
صعوداً ونزولاً…
هكذا نتذكّرُ أيّامَ كانَتْ أُمّاتُنا
تلفُّنا بخبز التنّورِ
المَشوشِ بالسماسم،
والمَدهونِ بالأَسْلِئةِ
تلفُّنا بدفء القمحِ
حينَ وُلِدْنا،
وحين كَبُرْنا.

يستحضر الشاعر وطنه بقوة، ذاك الوطن الذي أصبح من ورق، فتيتّم في خضم دوّامة أزلية ينادي بشهوة الموت في معترك الطرقات؛ لعل شمس الحرّية تعيد لشروق الحياة رونقها بعد أن سادها الظلام الدامس:
وطنٌ
بطعم السفرجلِ والليمونِ
بنيناهُ في عجينة
مطحونةٍ في ثدي آذارَ
ممزوجةٍ بغضب أيلولَ
نحن أيتامُه الضالّون
أيتامُ وطنٍ من ورق.

يتحرّر الشاعر الكردي السوري إدريس سالم في ديوانه من ثنائية الشكل والمضمون التقليدي، بحيث يصرف طاقاته الإبداعية في بنية الإيقاع التي تتولد عنها الدلالات والإيحاءات، التي تنبجس أساساً من الإيقاع، وهذه العلاقة الجدلية تبدأ من تلك التقاطعات – الإيقاع مع الدلالة – حيث يتفاعل النبرة اللغوية مع الروح الشعرية، مشكّلة حيوية إيقاعية دلالية للقصائد، فنلاحظ في هذا الديوان بنية إيقاع الأصوات وإيقاع الفكرة وإيقاع التكرار وكذلك إيقاع العقدة من دون القفلة:
(أنا ابنُ شهوةٍ. أنا ابنُ أحقادٍ شمطاء. أنا وطنٌ من أتياه ملعونين. أنا ابنُ مجزرةِ الخامسِ والعشرين. أنا ابنُ مجزرةِ السابعِ والعشرين).
ثمة خصوصية يطرحها الشاعر – كردياً – في عدم الْتِئام جرحه، وسورياً مازال يعاني الشتات، لا يفقهه العام، وقد يجد صعوبة في فهم المغزى الذي يرنو إليه في كثير من الأماكن، ولكن ابن «كوباني» الذي ذاق الأمرّين يتذوّق دلالة الحرف من مرارة الصوت في صدى الكلمات، ففي قصيدته «وطنٌ معتّر» يصرخ في وجه الموت فيقول:
أنا ابنُ مَجزرةِ الخامسِ والعشرين
من حزيرانَ
تعتّمَتْ فيه شوارعُ
بصراخ الحناجرِ…
تبلّلَتْ شراشفُ ووسائدُ
برائحة الخناجرِ…
احمرَّتْ
لحيةُ المقابرِ…
تناثرَتْ شهقاتُ الصغارِ
بينَ أقدامِ الشياطين.

أخيراً إن ديوان «جحيم حيّ» بصفحاته المائة والأربع والثلاثين صفحة يؤرّق مأساة شعب برمّته، يؤرشف جزئيات الواقع الحزين في قاموس الحرب، ينثر الألم شعراً في تراتيل الموت، ويهمس في أذن الورق بلسان العدم حياة ضائعة في دهاليز قلبه المتعب وبأنين البوح ورصانة الوجع، يدعو أخوته إلى توحيد صفّهم بكلمتهم وابتعادهم عن الأنانية والتخوين، وجعل خريفهم ربيعاً يليق بكرديتهم.

سربند حبيب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *