وا أسفاه على شيء أمرّ من الأسف! وا حزناه على سيرة علمٍ من أعلام الفقه المعاصر لم تدون سيرته! وا حسرتاه على المذهب المالكيّ في مدينة “دسوق” مِن بعده!
هذه ذكريات غير متكاملة أرى ضرورة بثها عن عالمٍ من كبار فقهاء المالكية بمصر لم يجرِ ذكره على الألسنة كثيراً، اجتررتُ هذه الذكريات عنه بعدما رأيتُ أنّه لا توجد ترجمة لهذا العَلَم حتى الآن بعد سنين من وفاته، فلعل كتابتي توافق شعوراً بالوفاء من عارفٍ بحاله ملمٍ بأخباره فيتحمس للكتابة عنه ترجمة تعيد إلى الناس ذكر جهوده المعرفية، وما أعظمها وأكثرها.
وقبلها أرى أنّ من الواجب عليّ أن أقرّ بتقصيري غير المتعمد في حق هذا الشيخ الجليل؛ لأني لم أكتب عنه شيئاً إلى هذه اللحظة، وإن عذرت نفسي فما ذاك إلا لقلة معرفتي به، فلم أجتمع به إلا مرة واحدة أراها غير كافية لكتابة ما يكفي عنه، فلا أعرف عن دراسته ونشأته العلمية إلا نزراً يسيراً لا يرقى لترجمةٍ تليق بأمثاله.
أقلّ ما يقال عن هذا العالم الخفي أنّه فقيهٌ زاهدٌ عظيمٌ تاه في زحام الحياة، وضيعه أهله بحياتهم الخاصة، ونساه تلاميذه، في حين أن منزلته السامية -كشيخ علماء المالكية في مدينته وتلميذ العلماء الأكابر- تستوجب رفعه في منزلة راقية، وتقتضي على الأقل أن يترجم له ترجمة حافلة، لكن هكذا قضى النسيان على الوفاء بهؤلاء الأعلام.
لو كانت المساجد تتكلم وسُئل المسجد الإبراهيميّ: مَن هم أعلامك من فقهاء المالكية؟
فلعله كان يجيب بقوله: الفقيه عبد المنعم حجاب الأزهري الذي لا تُنسى جهوده في نشر المذهب المالكي في مدينة “دسوق”، وبوفاته خلتْ من شيخ علمائها.
تقع مدينة “دسوق” في أقصى شمال مصر، وتطلّ على فرع رشيد أحد فرعي نهر النيل، وتتميز بمناخها المعتدل نسبياً، وهي من المدن القديمة، حيث ورد ذكرها في كتاب “قوانين الدواوين” لابن مماتي، وفي “البلدانيات” للحافظ السخاوي، ولها جلالةٌ بعلمائها ومشايخها، ويعد معهدها “الأزهري” من أقدم ثلاث معاهد أزهرية بمصر، ولي في هذه المدينة ذكرياتٌ جميلةٌ، حيث كنتُ أتردد عليها منذُ صباي لزيارة أقاربي هناك.
في هذه المدينة تعرفتُ على علمائها، وجلستُ في حلقاتها العلمية بالمسجد الإبراهيمي، وزرتُ مشايخها ومثقفيها على اختلاف تخصصاتهم، ومن ضمن الأسماء الذائعة في المسجد الإبراهيمي اسم توارد على سمعي من كثيرين، ألا وهو العلامة الفقيه عبد المنعم عبد الحليم حجاب الدسوقي الأزهري، فتكاد سيرته العطرة وما يحمله من علوم أمراً مجمعاً عليه ممن قابلتهم مما حدا بي أن أتعرف عنه عن قرب، وبعد سؤال متكرر عرفت أنه كبير في السن، ملازم لبيته فلا يخرج منه.
دلني إلى بيته أحد أساتذة العلم هناك، وأشار إلى الطابق العلوي الذي يسكن فيه، وعندما طرقتُ الباب خرجت لي سيدة حيتني، عرفت منها أنها قرينته، فقلتُ لها: إنني وددت الاجتماع بالأستاذ الكبير ورؤيته، فاقتادتني لا إلى غرفة الضيوف كما هو معهود، بل وجدت نفسي متجاوزاً حدود الغرف لأجد نفسي بعد خطوات في غرفة نوم، وأنا مندهش من هذا الأمر، إذ لم أتصور الحالة التي كان عليها، فظننت عدم خروجه ما هو إلا لكبر سنه.
ها أنا قد وصلتُ غرفة النوم لأجد شيخاً كبيراً في السن مضطجعاً على سرير، ويكاد لا تسمع صوته من شدة تعبه، فهو يخرج الكلمة بعد الكلمة مع إرهاق واضح، وقد أسفت جداً من اقتحامي غرفة نومه بهذه الصورة واعتذرتُ منه كثيراً، فرحب بي هاشاً باشاً بما أشعرني أني ولده، ومع هذه الحالة المرضية إلا أني أعترف أني ما رأيت رجلاً كحاله من شدة الحفاوة بضيفه وسؤاله عنه، وانبساطه في الحديث معه، فكأنه يعرف الغريب القادم عليه أولّ مرة من سنوات.
أجلسني شيخنا على مقعدٍ إلى جوار فراشه في هذه الغرفة التي أصبحت محل نومه واستقبال ضيوفه، وفيها طعامه وشرابه، وقضى فيها عمره المتأخر مقعداً على هذا السرير، فاحتجب عن الناس، وتحالفتْ عليه الشيخوخة والآلام الحادة، وتكالبتْ عليه الأمراض، زيادة على عزلته التي لم يخترها لنفسه، بل فرضت عليه فرضاً نتيجة ظروفه الصحية.
احتمل أستاذنا هذه الشدائد كلها في صبر تام، ولم يجر على لسانه في تلك الجلسة اليتيمة إلا عبارات الحمد والتسليم والصبر والرضا الكامل، ومع طيلة هذه السنين وشدتها عليه إلا أنّ اسمه بقي في صدارة المتصدرين من المشتغلين بفقه المالكية؛ بحيث إذا ذكر الفقه المالكي في مدينة “دسوق” انصرف إليه دون نزاعٍ.
لم أستطع تدوينَ شيء من سيرته إلا ما عرفته أنه من خاصة تلاميذ شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري، والفقيه المالكي عبد المجيد الشرنوبي، وقد أجيز منهما، فكانت حالته حين زيارتي له غير مستقرة، ولم أرد أن أشق عليه بكثرة الأسئلة، لكن في الحقيقة تأسفت كثيراً بعد سنوات فليتني أكثرت عليه؛ لأسطر شيئاً من سيرته التي أجزم أنها سيرة فقيه ضيعه قومه.
ها أنا قد حاولتُ أن أرسم صورة ذهنية لهذا الفقيه يعيبها الإقلال والقِصَر، فكتبتُ عنه في دفتري ما لا يكفي للتنويه بفضله: “أستاذنا شيخ علماء دسوق عبد المنعم بن عبد الحليم حجاب الدسوقي الأزهري المالكي لقيته في بيته طريح الفراش، وهو فقيهٌ مالكيّ من الطراز الأول حافظ للمذهب ونصوصه، ومن خاصة تلاميذ الشيخين شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري وعبد المجيد الشرنوبي، وقد حدثني معالي الشيخ صالح بن عبد الله العصيمي -عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية- عنه فيما بعد، فقد لقيه قديماً في صحته وقوته، ومما حدثني به عنه أنه كان إماماً في صلاة الجنازة على الملك إدريس بن محمد المهدي السنوسي -ملك ليبيا السابق-، وأنّ له اطلاعاً تاماً بالفقه المالكي وأصوله، وتضطلعاً في العلوم الأزهرية”.
إذا كان أستاذنا عبد المنعم حجاب الدسوقي قد خلا من تعريفٍ يليق به وبإنجازاته فإنّ أعظم احتفاء به تلك السيرة العطرة التي ما زال يتحلى بها في بلدته حتى بعد وفاته، وإنّي على يقينٍ أنه سينبري من تلاميذه البررة ممن لهم مزيد اتصالٍ به مَن يُعنى بتدوين أخباره حتى يوضع في الإطار الفقهيّ الذي هو حقيقٌ به، وعسى أن أكون قد نوهتُ على أفضاله بهذه الكلم القصار.
د. علي زين العابدين الحسيني| مصر-القاهرة