” النيل في خطر” عنوان أحد أهم الكتب التي صدرت منذ أربعين عاما، وحذرت مبكرا من مشاريع الاستعمار لتقزيم مصر بالتحكم في شريان حياتها: النيل. ومما يضاعف من أهمية الكتاب أن مؤلفه هو كامل زهيري (1927-2008) الذي كان نقيبا للصحفيين من عام 1979 حتى 1981 بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد مباشرة في 1979. وهنا يذكر التاريخ له بحروف من نور أن زهيري رفض طلب أنور السادات شطب الصحفيين المعارضين للمعاهدة، بل وقام زهيري باستصدار قرارا من الجمعية العمومية للنقابة برفض التطبيع مع إسرائيل! حينذاك قال السادات عبارته الشهيرة: ” الواد كامل واللي معاه لازم يمشوا”. لكن زهيري لم يكن يتمتع بيقظة الضمير فحسب، بل وبيقظة العقل اللامع، فأصدر عام 1980 أي بعد توقيع المعاهدة بعام واحد كتابه ” النيل في خطر” الذي استعرض فيه تاريخ المخططات الاستعمارية لتعطيش مصر، وأعادت الأهالي طباعة الكتاب، ثم طبعته مكتبة الأسرة طبعة ثالثة عام 1988، ثم طبعة رابعة، وكتب زهيري للطبعة الأخيرة مقدمة مهمة جاء فيها أن السادات حسبما نشرت صحيفة أكتوبر المصرية طلب من المختصين في 27 نوفمبر 1979 دراسة علمية لتوصيل مياه النيل إلى القدس لتكون: ” في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى”! وقال السادات بالنص : ” سنجعل هذه المياه مساهمة من المسلمين تخليدا لمبادرة السلام”. ويرجع زهيري إلى مذكرات تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية في 1903 حول توطين اليهود في سيناء ومد مياه النيل إليهم. ويستشهد زهيري بنص خطاب السادات الى ملك المغرب الذي نشرته الصحف المصرية في 18 أغسطس 1980، وفيه يقول السادات: ” وكحافز للجانب الاسرائيلي عرضت عليه إمداد إسرائيل بجزء من حصة مصر في مياه النيل”! ربما لذلك كتب هنري كيسنجر في مذكراته ” سنوات القلاقل” يقول إن : ” السادات فاجأنا بضخامة التنازلات لمصلحة عدوه، ولا أدري كيف ولماذا فعل السادات ذلك؟”.
في الفصل الأول المعنون” أصول مشروع تحويل مياه النيل إلى سيناء” يقول زهيري إنه اعتمد في كتابه على وثيقتين ينقلهما للمرة الأولى إلى العربية وهما مشروع الامتياز الذي أعده هرتزل 1903 لعرضه على الحكومة المصرية واللورد كرومر المعتمد البريطاني، والوثيقة الثانية هي نص تقرير البعثة التي أرسلتها الحكومة البريطانية وزارت سيناء في مارس وفبراير 1903، مما يكشف عن أطماع الصهيونية في سيناء ومياه النيل من زمن بعيد. ويقول إن جريدة معاريف الاسرائيلية نشرت في 27 سبتمبر 1978 ما نصه : ” هناك اقتراح إسرائيلي بأن تقوم مصر ببيع مياه النيل لإسرائيل، والفكرة إسرائيلية كلها وتعود إلى المهندس اليشع كلي”. وكان اليشع كلي ذلك قد نشر مقالا في 1974 قال فيه إن نقل مياه النيل : ” يمكن أن تتم بواسطة أنابيب تحت قناة السويس بجانب الاسماعيلية”. ويضم الكتاب علاوة على كشف الأطماع الصهيونية في النيل وثائق مهمة منها المراسلات المتبادلة بين السادات وملك المغرب ومناحم بيجن بشأن النيل والتسوية السياسية. يشتمل الكتاب في نهايته على عدة مقالات في اتجاه فضح الأطماع الصهيونية بقلم د. نعمات فؤاد، والكاتب الكبير حلمي مراد، والمفكر المعروف فتحي رضوان وغيرهم. وأعتقد أن أهمية الكتاب أنه فضح مبكرا الأصابع الإسرائيلية التي ترتدي الآن قفازا أثيوبيا سعيا إلى ” الأمن المائي”، والهيمنة على مصادر الطاقة، والتحكم في شعوب المنطقة بوضع اليد على مفتاح النيل الذي يقول عنه كامل زهيري إن الماء فيه ارتبط بالدماء، وأنه – أي النيل – جزء لا ينفصل من وجدان الشعب المصري، في ملاحمه وأغنياته وطقوسه وميلاده وموته، وانه سيبقى صوتا يصدح في وجه الجميع: ” أنا النيل مقبرة للغزاة “. قال نجيب محفوظ ذات يوم : ” في البدء جاءت مصر، ثم جاء التاريخ”، والمؤكد أنه حين جاءت مصر كان النيل معها، لم يفارقها ولن يفارقها.
د. أحمد الخميسي . قاص وكاتب صحفي مصري