إن أصعب متاهات الكتابة أن تخط بيدك سيرتك الذاتية، دون نرجسية تلميع الذات، أو إعمال مقص الرقابة لإزالة بعض شوائب الحياة، رغم أن الانكسارات ملح الحياة وعادة هي كرز الحلوى ولو كانت مرة، فحُمرتها زينة الحكي.. لكن الأصعب أن ينساب قلمك في سرد سيرة الآخرين، بترجمة أحاسيسهم، أحلامهم، انهياراتهم ونجاحاتهم الخارقة.. هي لطيفة خليل لمن لا يعرفها !!
ازدادت تلك الطفلة الجميلة جدا، وفي عينيها بريق من الذكاء، ولمعان يوحي بأن حكاية عجيبة على وشك الانبعاث.. كانت المفارقة أن أسرة هاته الصبية الرائعة من مشربين مختلفين إلى درجة التناقض، بين عائلة الأعمام حيث تحسم اللحي الموقف وتعم السلفية والخمار والتشدد من جهة. ومن جهة أخرى عائلة الأخوال حيث الأم تغني في البيت بصوتها الرخيم، وتملأ الأدراج بأشرطة (كاسيط) وردة وأم كلثوم ونعيمة سميح.. كان على الطفلة لطيفة أن تختار موطئ قدمها وسط هذا النسيج الأسري المتشابك.. فبدون ضغط أو استمالة من أي القبيلتين، وجدت نفسها تحفظ “سيرة الحب” و “في يوم وليلة” و “عيون القلب”.. فرِقتها وحنوها قاداها إلى قبيلة الأخوال من حيث لا تدري.. ومن محكيات فترة طفولة لطيفة، أنها كانت تحادث جدها (من جهة الأب-باجدي)، وهو يهم للصلاة : “هل أغني لك أغنية يا جدي؟”، يجيبها ضاحكا وهو يمتحن ذكاءها: “إذا استظهرتي لي سورة من القرآن.. أسمع بعدها لأغنيتك”، تجهد الفتاة الصغيرة نفسها وتستظهر السورة، وبعد نهاية الاختبار بنجاح، تقول له لطيفة : “الآن أغني لك”، يتأبط الجد العجوز سجادته هاربا وبشكل مسرع : “نؤجل الأمر لوقت لاحق”.. فقد جمعت فاتنة الصوت الصغيرة بين الإبداع الطربي وإتقان المواويل وحتى وصلات الأمداح والإنشاد، فَلِمَشْرَبَي العائلة دور محوري في تشكيل ثقافتها الموسيقية.
تشاء الصدف ومكر الطبيعة وانكسارات الظروف، أن تصاب طفلتنا الفاتنة والمتقدة الذكاء بحمى شديدة في عمر الثماني سنوات، حيث لم تستطع لا الأسرة ولا المستشفى التشخيص المبكر لخطورة حالة صغيرتنا، ليكتشف الجميع خطورة الأمر بعد فوات الأوان، بأنها إصابة بليغة بحمى السحايا (المينانجيت)، عندها فقدت لطيفة كل إحساس بأطرافها.. فكانت هاته المأساة التقاءً مشحونا بالأحاسيس الجياشة للأخوال والأعمام.. ولا زالت تحس لطيفة لحدود الآن بلمسات جدها الحنونة على رأسها الملتهب بالحمى، وهمهمات دعواته بشفائها تتراقص في أذنيها.. بعد محاولات عديدة لإنقاذ طفلتنا، استعادت وعيها والقدرة على تحريك يديها.. لكن للأسف أصيبت بشلل في رجليها.. مما سبب مأساة إنسانية بكل المقاييس، لفتاة كانت محبوبة الجميع، ومصدر إجماع قبيلتي الأخوال والأعمام.. لكن هل ستستسلم ذات الصوت الملائكي لقدر الظروف الحالكة، لتستطيع السباحة ضد تيار الانهزام ؟!
في بداية تمدرس لطيفة بإعدادية المختار السوسي بمراكش، مرت أمام لجنة تجريب الصوت التي تخص الأنشطة المدرسية، دخلت وهي ترتعد وأسنانها تصطك من شدة الخوف.. تم رفض صوتها بدايةً.. لكنها عندما همت بالخروج تبعها الحارس العام، وقال لها : “رغم أنكِ ارتبكتِ، إلا أنني أحسست في خامة صوتك شيئا عذبا جدا، هل يمكنك إعادة التجربة ؟”. استجمعت لطيفة قوتها ورتبت أوثارها الصوتية فأبهرت لجنة التحكيم، وكان ذلك أول اعتراف رسمي بموهبتها في الغناء.. وقد تخللت حياة لطيفة عدة طرائف بالعلاقة مع غنائها، حيث أنه في إحدى حصص اللغة الفرنسية طلب منها الأستاذ نموذجا في درس حول الإشهار، فغنت مقلدة بمهارة عالية وصلةً إشهارية، فما كان من الأستاذ وكل تلاميذ الفصل إلا أن وقفوا مصفقين لروعة أدائها ودقة مخارجها الصوتية. من مغرباتها أيضا أنها كانت تغني لصديقاتها في فصل أستاذة التربية الإسلامية، في الأنفاس الأخيرة بعد نهاية الحصة، أغنية “قال جاني بعد يومين”، فقالت لها الأستاذة بنبرة تهديدية : “أصمتي يا حفيدة زرياب !!”، وكان فعلا لقبا رافقها بعد ذلك.. فهي فعلا حفيدة زرياب..
حاولَتْ لطيفة جاهدة التغلب على إعاقتها، والانطلاق بشق طريقها الفني، لكن الإحباطات النفسية أحيانا تكون عميقة، خصوصا حين يريد الصوت التحليق عاليا ولا يجد قدمين سليمتين لحمله إلى القمم، وقد أقدمت الرائعة لطيفة على محاولة للانتحار في سن السادسة عشر، ونجت منها بأعجوبة، بعد أن رفض أهلها السماح لها بالغناء، وكان تدخل خالها عازف العود حاسما في إقناعهم بالسماح لها بالغناء.. وقد كان هذا السقوط اللحظي مقدمة لانطلاقة جديدة، وبداية التأثر بنبرات فيروز وأصالة ونجاة الصغيرة.. فلا يمكن لمن نجت من الموت عدة مرات إلا أن تكتسب مناعة حب الحياة والتمسك بها لآخر رمق. في سن السابعة عشر، وبالضبط في سنة 1994 ستشارك في برنامج أنغام بالقناة الأولى إلى جانب المطربتين جناة وأسماء المنور وكانت مرتبة لطيفتنا مشرفة جدا وضاهت نجمات المرحلة الحالية.. لكن للصدف مشيئتها في مسارات غابة الفن.. كان صوت لطيفة في القمة لكن تقدير إعاقتها كان عائق ترتيبها القسري.. ملت لطيفة من إجراء العمليات لاستعادة القدرة على المشي، فقررت إقناع نفسها بالتعايش مع إعاقتها، والبحث عن أرض صلبة لتقف عليها، خصوصا وقد بدأت تتراكم في دواخلها قوة جبارة تريد الانفجار موهبةً وإبداعاً، فأين الطريق؟!
كانت تعتقد لطيفة أن باب الشهرة والمجد الغنائي يمر فقط عبر صندوق العجب (التلفاز)، لتفتح عينيها الجميلتين على عالم المدن الكبرى وسهرات الليل، لتغادر مدينة مراكش صوب الرباط في سنة 1995، فلرنين العاصمة ربما وقع آخر يمكن أن يغير مسار حياتها للأفضل.. بدأت تقدم بعض السهرات بثمن زهيد، وكان أول مبلغ توصلت به عن طريق صوتها (غْرامة) ب 700 درهم.. تصوروا ماذا فعلت تلك الفتاة المتعطشة للحياة، تلك القنبلة الموقوتة الآيلة للانفجار زهورا وأنغاما..؟ لقد اشترت بالمبلغ حذاء جميلا من شدة حسرتها على فقدان قدرة المشي على رجليها.. كان ذلك نوعا من المواساة والتعويض بأن تظهر قدماها في كامل زينتهما رغم انتفاء وظيفتهما بالمشي.. كانت سعيدة جدا بهذا الإنجاز الأول.. لم يدم المقام طويلا بمدينة الرباط.. حيث لم يكتمل الحول لتتوجه لمدينة الدار البيضاء.. المدينة الغول.. المدينة التي لا تنام.. مدينة الفن والإبداع.. مدينة الألف ليلة وليلة..
اكتشفت لطيفة بالدار البيضاء عالما خرافيا، لم تكن تعتقد بوجوده حتى في أحلامها.. حاولت الغناء في بعض العلب الليلية المعروفة بصالات غنائها، لكنهم كانوا أحيانا يمنعونها حتى من ولوج باب هاته المحلات بدعوى الإعاقة كمانع للدخول.. كم بكتْ حرقة على هاته الإهانة.. فكم أنت قاس يا وطني.. وستتاح للطيفة فرصة قبول صوتها في أحد أهم الفنادق، فكانت بدايتها في هذا المحل المعروف بقلب المدينة، وكانت الأجرة الأولى 150 درهم لليوم، وهي إذاك مبلغ كبير جدا بالنسبة لفتاة قادمة من الهوامش الى مدينة الأضواء.. ولنتخيل سوية ليلة حصولها على أجرتها الشهرية 4500 درهم.. لم تنم لطيفة تلك الليلة.. حيث لم تعرف فتاتنا ذات ال 18 ربيعا حتى ماذا تفعل بذلك المبلغ !! بدأت لطيفة تتذكر الوجوه التي كانت تصادفها على مجلات الفنانين التي كانت مولوعة بها، ورسمت صورة جميلة للطيفة في مخيلتها، وقالت غدا سأجعل من نفسي نجمة النجمات.. شدت من عزمها وكسرت كل رغبات الاكتناز وقررت الانتقام من مفهوم المال بتبديده وتعويض السنوات العجاف حيث كانت لا تستبدل حذاءها إلا بعد أن تتمزق جوانبه… اقتنت لطيفة زوجين من العدسات اللاصقة (Lentilles) باللون الأزرق السماوي الذي كان يستهويها، صبغت بعض خصلات شعرها بلون أشقر جذاب.. توجهت لشارع محمد الخامس لتفك عقدتها للمرة الثانية باقتناء حذاء أنيق من زمن سندريلا، وكانت البقية عطورا وفستانا،.. لكن الأكيد والمؤكد أنها انتقمت من المال ولم ترحم بقاءه في جيبها.. وكانت لطيفة لا تستوعب إن كانت تنتقم من المال أم من نفسها ؟!
انفتح أمام لطيفة مصباح علاء الدين، وأصبحت تقصد العلب الليلية التي كان أصحابها يمنعونها من دخولها بداعي الإعاقة للغناء فيها، خصوصا بعد أن أصبح اسمها لامعا في عوالم غناء الليل، فسبحان مغير الأحوال، أصبحت موضع ترحيب واستضافة بعد رفضهم لها عن ميز وجهالة.. إنهم قوم متقلبون برفض المبدإ وقبوله بدواعي الشهرة.. داع صيت موهبتها الغنائية في هاته الأوساط.. لكنها كانت بدون تأطير ولا بوصلة في اختياراتها.. كانت وفية ببعث مبلغ 2000 درهم كل أسبوع لأمها.. لكن العامل المحدد في نمط عيش لطيفة أن لا يبيت أي درهم في جيبها لليوم الموالي، كان حبا وانغماسا في الحياة لدرجة الجنون وانتقاما من سنوات عجاف من العوز.. ستعرف سنة 2003 مشاركة لطيفة في مهرجان الأغنية المغربية، لتفوز بجائزة المهرجان بأدائها الرائع، لتكون منحة الجائزة 30.000 درهم، وهو ما شكل ثروة هائلة لا تضاهى بالنسبة لها، وكاعتراف بموهبتها بشكل رسمي في مستوى أعلى، ليُفتح الوسط الفني على مصراعيه أمامها.. فهل ستظل الدار البيضاء حاضنة لهذا الصوت الملائكي ؟!
كانت تظن لطيفة أن الأمر بهاته السهولة، لكنها اكتشفت أن جزء كبيرا من أصحاب أستوديوهات التسجيل والمنتجين وكتاب الكلمات والملحنين، يستهويهم جمال جسم النساء وإثارتهن أكثر من خامة الأصوات والموهبة الغنائية. فتتالت الانكسارات تلو الانكسارات، وبدأت تقف لطيفة على هول غابة الفن.. وتوحش عوالمها.. فقررت الانغماس في عوالم غناء الليل لتستطيع أن تعيش، بدأ تتالي الأيام وتشابهها.. غناء وتقدير وانغماس في الحياة.. وعدم التفكير في أية ضمانة للمستقبل.. بل حتى أبسط شروط الحماية الاجتماعية منعدم.. وفي معرض الحكي عن الأمان المستقبلي أن ملهى ليليا وفر لها الضمان الاجتماعي في البداية لاستمالتها، لكنها اكتشفت بعد ذلك أن المحل لا يؤدي لها واجب الضمان الاجتماعي، لتنفجر لطيفة في وجه أصحابه أمام لؤمهم وجشعهم.. لتقرر لطيفة مغادرة المغرب في اتجاه دبي.. حيث اشتهرت في صالات الغناء هناك.. لقد فتنوا بصوتها.. وبعد ان اكتسحت أوساط الغناء هناك، بدأت أسطوانة مشروخة تروج بين أصحاب المحلات هناك بأن الزبائن يتأثرون لغنائها، ومنهم من يبكي رثاء لحالها، وهذا بالنسبة لمستثمري الأموال أمر غير مقبول، لأن هاته الأوساط حسبهم ليست فقط للغناء بل مورد ربح بنشر الفرح الزائف وليس الحزن على حسب تعبيرهم.. لتنتهي مغامرة لطيفة بالإمارات بعد ثلاثة أشهر فقط، لتتوجه إلى البحرين لتقضي بها مدة سنة في الغناء بفندق مملوك لمغربية هناك احتضنت صوتها.. لكن لطيفة كانت وفية لنهج تبدير كل ما تتحصل عليه من أموال، والتي تصل أحيانا إلى مبلغ 45.000 درهم شهريا هناك.. وقد كان إعجاب الناس بها منقطع النظير، حيث أن حسد بعض النساء سبب لها عدة مشاكل.. وكلنا يعرف اختلاط عدة عينات من البشر السيئين في هاته الأوساط.. إلى درجة أن إحدى رائدات الفندق فتشت ملابسها يوما للبحث فيها إن كانت تحمل تميمة تجعل الناس يعجبون بها.. ومرة أخرى مزقت إحداهن فستانها غيرة من احتضان الناس لموهبتها، وكل ذلك وقع رغم أنها مكسورة الجناح ولا تستطيع المشي على قدميها.. هل ستستمر مغامرة لطيفة بفنادق الخليج ؟!
بعد حوالي سنة بالبحرين، ومن شدة بكاءها واستعطافها لصديقتها صاحبة الفندق، ستطلب لطيفة العودة للمغرب، بعد انهيار أحلام الشهرة واستوديوهات الغناء والمنتجين والملحنين، لتعود لأجواء غناء الليل بالصالات والفنادق بالدار البيضاء، لتقف على واقع مرير لعالم الفن الذي لم يسمح لموهبة استثنائية في الغناء باحتضانٍ موسيقي يليق بها، في غياب أي توجيه أو تأطير، خصوصا أن رجال الأعمال يمولون كرة القدم وأنشطة ترفيهية أخرى(Sponsoring)، لكن حين يتعلق الأمر بالفن والإبداع فهم فقط مستهلكون لحظيون للمتعة، لأن الفنون بالنسبة لهم غير مذرة للربح.. ستكتشف لطيفة بعد ذلك أنها لم تذخر لانعراجات الزمن ما يحمي ظهرها في السنوات العجاف المستقبلية، وأن أزمة كورونا عرت زيف محيط صداقاتها المصلحية، رغم أنها تعترف أنها وقعت في حب مهاجر مغربي بإسبانيا، وأغرم بها عدة أصدقاء مغاربة وأجانب.. لكن لم تتح لأية من تلك العلاقات أن تكتمل.. وتحكي لطيفة أنه ليست كل علاقاتها السابقة سيئة، فذات ليلة وقعت في أزمة خانة وأوصدت كل الأبواب أمامها، وفي ذات الوقت، والزمن كان حاسما كانت صديقتها “غيثة” تقطع المسافات وتجتاز أضواء المرور بكل ألوانها وتحرق الأزقة وتعبر الممرات الممنوعة بشوارع البيضاء لتصل لصديقتها لطيفة بأسرع وقت ممكن وتخلصها من مأزقها.. كان ذلك نوعا من الصداقة الأسطورية التي أصبحت ناذرة الآن في زمن كورونا.. حيث لا منقذ لأمواج من الفنانين تحت حافة الفقر.
وبدأت تتراقص عدة أسئلة في مخيال تلك الطفلة -والتي لازالت طفلة للآن-، حيث أعاقت الحمى رجليها لكنها لم تعق قدرتها على التفكير والإبداع : هل من الضروري أن تبيع لطيفة جسدها لتبرز مفاتن صوتها ؟ لماذا لا يتم تأطير المواهب الغنائية فنيا ؟ أين أدوار وزارة الثقافة في حماية الفنانين وضمان حقوقهم ؟ هل من الضروري أن تدفع لطيفة سمسرة أو رشوة لاقتحام عالم الفن رغم قدراتها وموهبتها الفنية ؟ لطيفة لا تحتاج من يشفق عليها، إنها تحتاج من يقدر موهبتها ومهاراتها الصوتية حق قدرها.. هل في هرم الدولة من يتذوق الفن ويحمي المبدعات/المبدعين..؟
منعم وحتي