تقديم:
تحتاج مقاربة المجموعة القصصية” حب لايحتاج إلى ترجمة” إلى اعتماد الرؤية المقارنة للإحاطة الشاملة بها.وهذا راجع بالأساس إلى تشابك العلاقات التركيبية والرؤيوية التي تحيل على بنى مرجعية متعددة الأبعاد. هذه الرؤية تحاول النظر إلى الوجود من خلال التمايز في بعده الكوني.
وسنحاول في ممارستنا المنهجية الكشف عن الأنساق الكبرى المؤسسة لعملية الإبداع عند فاتحة الطايب.وما تجدر الإشارة إليه هو أنه من الصعب فهم العملية الإبداعية لديها بدون استحضار الأنساق الفلسفية الكبرى التي شكلت حلقات الفكر الإنساني في سيرورته ، بالإضافة إلى الآليات المؤسسة لنظريات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار. وينكشف هذا بوضوح في طرحها للأنساق الفلسفية الكبرى : أرسطو- ابن رشد- غياتري سبيفاك..والتي تستحضر بشكل تفاعلي في مجموعتها القصصية. هذا الطابع الإشكالي لهذه المجموعة هو ما يجعلها مجموعة تطرح قضايا الوجود الكبرى و المتمحورة حول الوجود في تعدديته و علاقته بمسألة الاختلاف المؤرقة. ويتحدد من خلاله نمط الوعي المهيمن. إن قضية الوجود تتخذ بعدا متميزا في هذه الممارسة . هذا الوجود يتم عبر الاستضافة. وهذا يؤكد قولنا في البداية إنه من الضروري فهم النسق المؤسس للعملية الإبداعية التي تقررها التراكيب الدالة.فهنا نجد الممارسة النقدية للمبدعة تنكشف . فهي ناقدة ترجمية وتستقي مفاهيمها من الأرضية المعرفية التي تنطلق منها، إلا أن هذه المفاهيم تتخذ طابعا متميزا. فالاستضافة تتم عبر طرح علاقة الوجود بالاختلاف من خلال منظور فلسفي عميق.
وتعتبر قضايا الوجود الكبرى المثارة في المجموعة القصصية ذات بعد إنساني. وهي تتخذ أشكالا متعددة سوف نسعى لمقاربتها من خلال الاستضافتين ( الأولى والثانية). وكل استضافة تطرح قضايا وجود مختلفة. فالعتبة تؤسس لرؤية الهوية في بعدها المختلف و الإنساني، و ذلك من خلال علاقتها بالآخر . وتتبلور من خلال النصوص قضايا وجودية أخرى : الحب ، الكتابة ، المعرفة ، الوعي ، التاريخ . وكل القضايا الوجودية الكبرى تطرح انطلاقا من العلاقة بين الهوية و الغيرية والتي يؤطرها مفهوم الاختلاف. ويتخذ البعد النقدي للمبدعة السمة الأساسية المتحكمة في العملية الإبداعية.
إن المقاربة المنهجية التي نعتمدها تحاول الإحاطة- ضمن حدودها المعرفية – بشكل من الأشكال بالقضايا الفلسفية الكبرى التي تطرحها المجموعة القصصية ، بالإضافة إلى استجلاء الأنساق الكبرى المؤسسة للبناء الرؤيوي.
المحور الأول: الهوية و الوعي
1- الهوية و الغيرية :
تطرح فاتحة الطايب مفهوم الهوية في أبعاده المتعددة : الهوية في بعدها الأنطولوجي وفي علاقتها بذاتها والتأسيس لمفهوم الآخر. يتحدد البعد الأول للهوية في التدشين الأولي الذي نستعرضه من خلال العتبة، والمتجلي في “ثاماوايت/ الأطلس المتوسط”(1)باعتبارها ملحمة شعرية يتمظهر فيها الأنا بشكل جلي . فالهوية هنا تستحضر من خلال حوار الذات مع الذات . والوجود يمتد بارتباطه بالواقع، وينمحي في عزلة الذات وانفصالها عنه:
نظرت إلى المرآة فلم أتعرف نفسي
ولما كسرت جدار الصمت استرددت ملامحي(2)
وهنا تتشكل معالم الصورة. فالهوية نتاج واقعي يتحدد من خلال وعي معين ، وهو الذي يرسم بشكل واضح طبيعة العلاقة مع الآخر. وهنا نصبح أمام إشكالية متعددة الفروع : الهوية- الوعي- الغيرية. هذه المفاهيم تتخذ طابعا فلسفيا و لا يمكن حصرها في تصورات ضيقة. والنص الشعري الذي تمت ترجمته يكثف معنى الوجود. هذه الترجمة باعتبارها تأويلا هي ما حققت للاستضافة معناها الحقيقي.فالترجمة:” تتمثل في تقريب القارئ من الكاتب وتقريب الكاتب من القارئ مع ما يحمل ذلك من خطر على خدمة وخيانة سيدين. مما يعني ممارسة ما أحب تسميته الضيافة اللغوية .(3) إن الاستضافة تستدرج القارئ للاندماج داخل الهوية. فهو آخر لا يمتد إلا بتفاعله مع هوية غيرية.ومن هنا نجد أنفسنا أمام تصور فلسفي يؤطره ” الاندماج المتفاعل”. وهذا التصور يتبلور عبر العتبة.فهي تدشين لمدخل رؤيوي يؤسس لما بعده. فالذات تنتقل من مفهوم” الاندماج المتفاعل” ( الذي حاولت العتبة ترسيخه) إلى تأصيل هذا المفهوم من خلال بنائها لمفهوم الغيرية.وهنا نجد أن النص لا يسعى إلى انتزاع الاعتراف بالهوية الملتصق بالوجود الإنساني:”فرغبة الاعتراف و الانفعالات التي ترافقها – الغضب و الخجل و الاعتزاز – تشكل جزءا لايتجزأ من حياة أية شخصية إنسانية.”(4)وإنما يسعى النص إلى إقرار الهوية. الهوية هنا تعي ذاتها وعيا حقيقيا. وهو ما مكنها من تأطير علاقتها بذاتها وبالآخر و بالواقع. فالذات تنتقل من خصوصيتها إلى التفاعل مع الآخر.ففي تفاعلها مع الشاعر النرويجي أولاف هاوكه تؤسس لمفهوم جديد –هو في الواقع مفهوم فلسفي – هو مفهوم “الحقيقة”.فالفلسفات الإنسانية تناولت هذا المفهوم من زوايا مختلفة( بدءا من اليونان إلى يومنا هذا).فالحقيقة إشعاع يرتبط بالحلم، وهو يتبلور من تفاعل الهوية والغيرية.ونجد أنفسنا هنا أمام حمولة معرفية تستحضر الأنساق الفلسفية الكبرى عبر بناء تركيبي شعري وفي سيرورتها التاريخية. فالأصول الفلسفية الأولى كتبت بطريقة شعرية. وهذا هو ما حذا بنيتشه إلى اعتماد اللغة الشعرية في تأسيساته الفلسفية. إن فاتحة الطايب تطرحنا أمام الإشكالية الفلسفية التي مركزت تصورها حول القيم إلا أنها تتجاوزها لتضعنا أمام الرؤية الفلسفية الحديثة التي تسعى لتأطير الحلم الإنساني في أبعاده الوجودية، والفلسفية المتعددة والآفاق التي يتيحها للإنسان من أجل تحقيق كينونته.إن هذا الاندماج الكلي بين الذات والآخر هو ما يحقق للهوية وجودها واختلافها.فالاختلاف لاينفي التفاعل بل يؤكده.فالوجود ينصهر عبر الاختلاف.و نستنتج من هنا أن المبدعة تستحضر الأنساق الفلسفية الكبرى: نيتشه-هايدغر- فوكو – دولوز – ديريدا..وهذا التفاعل هو ما مكنها من طرح الهوية الندية للآخر:
“اولئك الذين رسخوا في نفوسنا أنهم هم الكبار..”(5)
هذا الطرح يستوعب الآخر في أبعاده الفكرية، الشيء الذي يؤدي إلى تحقيق سلطة المعرفة.هذه السلطة تنبع من الذات وتتحقق من خلال الوعي الجدلي، وتمكن من تأسيس رؤية ندية.فالحوارية الندية تفترض إعادة بناء المعرفة وفق منطق جدلي . وهذا ما حققته النصوص الأولى.فالتفاعل وإعادة تأويل نصوص الشاعر أولاف هاوكه تبين بوضوح رؤية العالم العقلانية للقاصة فاتحة الطايب ،والتي تنبني فيها العلاقة من جديد بين الذات والموضوع. إن هذا التراكم المعرفي والذي حققته الرؤى الفلسفية المتشابكة هو ما يجعل القارئ يملأ بياض النص. إن البناء التركيبي يتم بشكل مكثف وبكيفية شعرية. وهي بذلك تحقق رؤيتين: الأولى: إعادة بناء الطفولة الفلسفية التي صاغها الفلاسفة القدامى بطريقة شعرية. والثانية: استحضار الثقافة العربية الإسلامية التي تشكلت أصولها المعرفية عبر الشعر. وتمكن هذه الصياغة من تداخل حلم القارئ و المبدع مما يسمح بمسافة التأويل.وهنا نجد أنفسنا أمام رؤية القصة/الشعر.وهذا التركيب يختلف اختلافا جذريا عن الروايات العربية الحديثة كما تجلت عند: واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم.وهذا راجع بالأساس إلى أن الرؤية الشعرية هنا تنبني على الأنساق الفلسفية الكبرى.
إن امتلاء الأنا هو الذي يحقق آفاق الحلم. وهنا تنبني العلاقة بين الكاتبة والقارئ ( الذي تمنحه – بفعل التركيب- فسحة التأويل وإعادة بناء الحلم ) على أساس الانسجام الذاتي. وبمقاربة عقلية تعيد بناء الواقع وفق رؤية موضوعية.إن التصورات النظرية التي تؤسس لها المبدعة تتمحور حول العلاقة بين الذات والآخر ( الهوية والغيرية) في محاولة لإعادة بناء المعرفة. فالتقابل النظري بين المعرفة والحقيقة هو ما تسعى هذه النصوص لإبرازه.فالحقيقة لا تتحقق إلا بالمعرفة.ومن هنا يبرز البعد الفلسفي للمجموعة القصصية إذ أنها تستند إلى خلفيات نظرية في تأسيسها للتصورات.ولا تتوقف الرؤية عند هذا الحد بل تتجاوزه إلى تحديد اللحظة (التاريخ) والمكان. ففي ” باريس الفصول الأربعة” تتحدد العلاقة مع التاريخ والمكان بشكل مختلف.وتنفتح لعبة التأويل التي تمكن القارئ من إعادة بناء القصة. فهي تبدأ بالانسياب ، حيث تطغى في البداية الجمل الاسمية ( الجملة الأولى والثانية) التي تدشن لعملية البوح.فتنتقل بذلك من تصور عقلاني(أي مجال اشتغال النظرية) إلى تصور نفسي ( أي مجال اشتغال علم النفس) لكن من زوايا مختلفة. ويتم هذا برؤية متشعبة تحتم على القارئ أن يستعمل أدوات منهجية ومعرفية للإحاطة بالنصوص.ويستوجب عليه كذلك استحضار استنتاجات علم النفس في بنائها التصوري( فرويد-لاكان- يونغ).
في هذا النص تتموضع الذات في حيز معين:” باريس ” وفي زمن محدد: “نهاية الألفية الثانية” . وهذا التموضع يحدد العلاقة بالمدينة والتي تتم عبر الالتصاق بالأنوار.وتنتقل من الزمن العام:”نهاية الألفية الثانية” إلى الزمن الخاص:”أبريل- الربيع”. وهي من هنا تعيد بناء التركيب الرمزي.ف ” أنوار” باريس تحيل على معنيين: الأول: الضوء. والثاني: فلسفة الأنوار التي أثرت في الفلسفات الغربية الحديثة. هذا التقابل بين الضوء والمعرفة هو ما يجعلنا نؤكد أن العلاقة بالآخر تنبني على إعادة بناء المعرفة من خلال التفاعل.وهذه الممارسة تمكن من إثارة القارئ ليمارس التأويل: ” ..ولذلك يحاول التأويل أن يدرك ما فعله الآخر أو فكر فيه أو كتبه.”(6). ونجد أنفسنا هنا أمام تصورين معرفيين للذات . يتمثل الأول في البعد الهايدغري: الوجود ب وفي و مع (7).والثاني في البعد الخاص بالكاتبة والذي تؤسس من خلاله تصورها النظري. فهايدغر يطرح الكينونة بالذات والتي تتحدد من خلال حيز مكاني(في) وبالتفاعل مع الآخر( الكينونة مع).أما الكاتبة فاتحة الطايب فإنها تستحضر هذا الطرح لكنها تتجاوزه لتطرح مسألة الوعي ومسألة العلاقة بالطبيعة والتاريخ . فالطبيعة بطابعها الفيزيقي تفترض وعيا ناضجا من أجل فهمها والتحكم فيها.إن الذات توجد داخل المكان وفي علاقتها ببعدها الآخر( ذات أخرى) .ومن خلال هذا الوجود تتحدد طبيعتها.فالغربة تنتفي لأن المعرفة تذوب المسافة.هذا الوعي الحاد بالطبيعة والتاريخ و المكان هو الذي يعطي البعد المعرفي للرؤية الإبداعية.ويتجسد في تجلياته العامة عبر السمع والقراءة.وهنا نجد أنفسنا أمام رؤية فلسفية جديدة تستند إلى التأويل الثقافي المرتكز على ثنائية : الكلام والكتابة( أو ما يسميه عبد الله الغدامي:” اليد واللسان”).وهو الذي اعتمدته الثقافات الإنسانية عبر سيرورتها التاريخية.ومن هنا يتم التفاعل مع ما حققته الثقافة الغربية في أبعادها الإنسانية.وتسعى المبدعة إلى تجذير رؤية معينة ، تتجسد فيما يمكن تسميته ب ” الألفة “.أي ألفة المكان والتاريخ و الآخر.ومن خلال هذا الانصهار تتم علاقة ” الاندماج الكلي ” مع هذه العناصر الثلاثة ( المكان – التاريخ – الآخر ) .وهذا الاندماج لايتم إلا من خلال الاختلاف والتمايز.وتطرح قضايا الوجود الكبرى : الكلام ( الحكاية ) والذات وعلاقة المرأة بالرجل.ويتم استحضار البعد المؤطر للهوية وهو : الوطن:
-ثمازيرت…ثمازيرت …( الوطن – الوطن )
أريلي أم ثمازيرت نشا ( لا شيء يضاهي الوطن )” (8)
إن بعد الهوية في جانبه العقلاني يمكن من التفاعل والاندماج . وتستعيد الهوية كينونتها من خلال استحضار التراث ( الثقافة الأمازيغية ) في بعده الإنساني. وتسعى الهوية لفك التناقض بين الذات والآخر من خلال طرح قضية الزواج بالأجنبي في سياقها التاريخي ( زواج ابنة مقاوم بفرنسي ) وما تثيره من قضايا أنطولوجية مؤرقة.فالزواج هنا تتداخل فيه معطيات كثيرة: نفسية و إيديولوجية وعقدية.فالمقاوم سيقبل بهذا الزواج شريطة أن يسلم الزوج.إن مسألة التفاعل تطرح على مستوى معرفي أكثر ارتقاء. وهذا الطرح يبرر مسألة الاندماج والتكامل الذي لايتحقق إلا عبر الانسجام الرؤيوي، والتأسيس المعرفي للعلاقة بين الهوية والغيرية. والمعرفة بهذا المعنى شرط من شروط الوجود المؤسس للهوية المتجذرة.وتنتقل الكاتبة من تجسيد قضايا وجودية ذاتية إلى قضايا أعمق تتمثل في تحديد طبيعة العلاقة بين الذات والمعرفة بمعناها الواسع وذلك قصد بناء معرفة موضوعية.هذه الممارسة الإبداعية تستدعي من الهوية الانتقال من تحديد أبعاد فروعها الوجودية إلى التمثلات النظرية.فالوجود استشراف للمعرفة وتحقيق للعقل.وتحاول الهوية استيعاب رموز الثقافة الغربية ( المكتبة الوطنية- اللوفر ) .وهي من هنا تعترف بمنجزات هذه الحضارة.وتحاول تأسيس تصور نظري حولها .هذا التأسيس النظري لمعرفة جذرية لاينفي وجود شرخ داخل هذه الثقافة التي لاتخفي عنصريتها تجاه الآخر.ويتمثل هذا الشرخ لدى فئة معينة لم تتمكن من تحديد طبيعة العلاقة بين ما تسميه الهامش والمركز في بعدها التفاعلي. هذا الهامش الذي تحول – بفعل ثورته المعرفية – إلى مركز وشد انتباه الآخر الذي بدأ ينبهر بما حققه على مستواه المعرفي. وحاولت الكاتبة استحضار أنماط الوعي الهجين في الثقافة الغربية والمحتقر لأبناء الجالية وذلك من خلال حوار البطلة مع الفرنسية. وما تمتاز به الرؤية هنا هو عمقها النظري .فهي رؤية عقلانية تؤسس للعلاقة الندية بين الهوية والغيرية.إنها رؤية نقدية تعطي للذات بعدا متميزا في علاقتها بالآخر.إن وجود الذات ( الوجود ب) داخل حيز مكاني معين ( الوجود في ) وفي علاقة بالآخر ( الوجود مع ) يمنح إحساسا بالوعي. فالعلاقة بالآخر هي علاقة واقعية ويحكمها الوعي. وهي بذلك تستوعب هايدغر وتتجاوزه عندما تؤطر رؤيتها ضمن نسق معين .وهذه هي الرؤية الوجودية النقدية التي تؤسس لها الكاتبة.إن الزمن هو الذي يحدد طبيعة الرؤية داخل القصة. فالانتقال من ربيع باريس إلى صيفه( يوليوز ) يمنح الذات فسحة كبيرة لإبراز تصورها النظري. ففي إعادة بناء تصورها ترى أن الإشعاع الغربي – الذي سعى إلى تذويب الثقافات – أصبح يجد نفسه أمام قوة ثقافات المستعمرات السابقة . فمنابره الفكرية ( السوربون ) لم تستطع إدراك الطفرة المعرفية التي حققتها هذه الثقافات . فهو كان يرى بأن ثقافته هي أرقى الثقافات .وتقر الكاتبة بأن ثقافة المستعمرات أصبحت ثقافة مشعة وتنافس في بنائها النظري الثقافات الغربية. فالثقافة الهندية مابعد -الكولونيالية أصبحت تشكل سلطة معرفية. وهي تتجلى في الطرح النظري لغياتري سبيفاك ، والتي أعادت بناء الثقافة الغربية وفق تصور جديد. هذا التصور يعكس كيف أن الذات استوعبت ثقافة الآخر وجرته إلى التفاوض فأسست بذلك لعلاقة ندية. وقد فتحت النظرية الهندية مابعد -الكولونيالية آفاقا جيدة للفكر الإنساني بفضل المنابر الغربية ( الجامعة الأمريكية ) التي مكنتها من التميز. فالغرب في جانب من جوانبه يسعى لتحقيق معرفة متقدمة دون التساؤل عمن أبدعها .والممارسة الإبداعية هنا تعترف للغرب بمزاياه.وتحاول الكاتبة إثارة القضايا الهامشية التي تثيرها بعض القراءات العربية للإنتاج الثقافي الغربي ( حوار البطلة مع نهى حول الأشكال الفنية المسيجة لسقف المدرج ) . هذه المراوحة بين رؤية جذرية لرؤية العالم ( غياتري سبيفاك ) ورؤية نكوصية لا تاريخية( وجهة النظر الرجعية للفن) ،والتي لا تمثل بأي شكل الرؤية العقلانية للثقافة العربية الإسلامية ،هي التي مكنت من بناء تصور متماسك.وهنا تبرز بوضوح المعرفة الموضوعية التي تسعى الكاتبة لتأصيلها.وذلك من خلال طرح تصور معرفي آخر مرتبط بالتصور الذكوري للمرأة ، وهو تصور إقطاعي هجين لأستاذ كندي من أصل عربي يرى بأن غياتري سبيفاك تحمل “عقل رجل”.وهذا التصور تم انتقاده من طرف البطلة وصديقتها.هذا التأسيس النظري يطرحنا أمام رؤيتين للثقافة والتاريخ والهوية: رؤية موضوعية تجاوزية ورؤية رجعية تكريسية لفكر ذكوري.وتتفاعل الرؤية الإبداعية هنا مع الثقافات الإنسانية الأخرى ( البرازيل: السامبا ) .وهذا يعني أن الكتابة في هذا السياق تؤسس لهوية معرفية إنسانية تتفاعل مع الفكر الكوني.ويتجدد المفهوم الزمني وتتحدد أبعاده الامتدادية. فالزمن هذه المرة يتحدد في يناير ( الشتاء – الألفية الثالثة ) وتنبني العلاقة مع الآخر هنا على الاحتفاء( لبنى وفريدريك) . والزمن هو زمن باريسي في كل تجلياته وأبعاده. إن باريس مركز إشعاع حضاري تنير الذات وتمكنها من بناء الرؤية . وتطرح المسألة المعرفية بشكل أكثر وضوحا وتميزا: المعرفة العلمية والإيمانية، والتي من خلالها تتحدد الذات العارفة والتي ترغب في بناء رؤية عقلانية. وهي بذلك تعيد قراءة الزمن الباريسي : شتاء – ربيع – صيف – خريف.إنه الدورة الزمنية التي تجسد الهوية في أبعادها الزمنية، والتي من خلالها ينكشف التصور المعرفي المؤطر للذات . إن الهوية تتخذ هنا منحى متعددا ينفتح على الآخر ويلتحم بذاته في إطار ماهو محلي وتراثي وكوني.
2- المعرفة والقيم:
تحاول الكاتبة في نص ” حب لايحتاج إلى ترجمة” إعادة بناء الوعي لاكتناه مفاهيم: الطبيعة والذات والقيم.إن مفهوم ” الحب ” يتخذ هنا سمة إنسانية تتسم بسمة صوفية.ونصبح بذلك أمام استحضار المعرفة التراثية في بعدها الصوفي ( الحلاج- ابن عربي – النفري..).وهذا بالتأكيد يحدد لنا الطابع الفلسفي للرؤية. فهي استيعاب للموروث وتجاوز له من خلال إعادة بناء مفهوم التأويل ( تمثل الماضي و استشراف المستقبل ) .إن النص يتمحور حول شقين أساسيين: ” الحب” باعتباره قيمة إنسانية وتأويله من خلال الترجمة ( باعتبارها كلاما) لكن يتقرر في النهاية أنه ” لايحتاج إلى ترجمة”. وبهذا المعنى فالحب قيمة إنسانية لانحتاج لمن يقربها منا.إن الثنائية الفلسفية المطروحة هنا هي : الصمت في مقابل الصمت ( اللاكلام في مقابل اللاكلام ) وهي الفكرة الأساسية التي تحاول الكاتبة طرحها.
يستهل النص بمفهوم “الكلام ” والذي يعني بداية القول أو لنقل بشكل أوضح بداية السيرورة الإنسانية. من خلال الكلام يتم تأصيل الحدث.وهي تسعى إلى تأكيد ارتباط الهوية بالزمن وبالطبيعة. هذا التحديد الأولي هو ربط “الكلام ” ب ” القيم ” أي بمفهوم الحب في عمقه الإنساني.فالعلاقة بالطبيعة تحدد علاقتنا بالقيم . فالتصور المعرفي ( المرتبط بوعي الإنسان ) هو الذي يحدد طبيعة العلاقة بالأشياء.تتأطر الذات في مجال خاص بها مما يحتم نسج علاقة استلهامية مع الطبيعة. فهي تثيرها وتمكنها من خلق حلم يعبر عن آمالها . فالطبيعة تصبح الشكل الملازم للحلم، وبإغوائها للذات تدعوها لبناء وعيها لأنها تلامس وجودها في بعده الانفعالي. وهنا يرتبط الرؤيوي بالعقدي. وتتمكن الذات من تشكيل حلمها وفق تمثلات تسعى لتحقيقها.وتحاول تحديد مفهوم الحب وذلك من خلال استحضار التراث الكوني والتفاعل مع التراث الشرقي وخصوصا التراث الجورجي في بعده القيمي النابض(9).ف ” الحب ” مسألة وجودية تتحدد العلاقة فيها بين الذات والآخر بطريقة انفعالية ( البعد الانفعالي). ففي علاقة البطلة بابن صاحبة البيت كانت هناك صعوبة في التواصل لاختلاف اللغة. والرؤية التي يتم تمريرها هنا هي إعطاء الحس دورا مهما ليكون عنصرا موصلا للفهم.وهذا ما يجعلنا نقر بأن ما يميز هذه المجموعة القصصية هي أنها في كل نص تؤسس لرؤية فلسفية يجب استنباطها من خلال مفهوم التأويل.وهنا نلمس أن العلاقة التي يجسدها ” الحب ” هنا- باعتباره قيمة إنسانية – هي علاقة تلازمية. وتنبني على بناء تصوري ( يستند في العمق إلى التمثلات التخيلية ) ، فعلم الإشارات هو الذي يحدد طبيعة العلاقة بين البطلة وابن صاحبة البيت. وما أضفى على الرؤية بعدها التوتري هو عالم الموسيقى .فابن صاحبة البيت استطاع أن يمرر كل مشاعره من خلال قطعة موسيقية. إن مجموع التصورات المعرفية التي تمتلكها الذات هي التي حققت هذا التفاعل الذي جسده مفهوم الحب. فالمعرفة شرط من شروط تحقق القيم.
إن نص” قصة لم يروها أحد” هو الآخر شكل من أشكال تجليات العلاقة الجدلية بين المعرفة والقيم.فالقراءة باعتبارها آلية من آليات إنتاج المعرفة هي التي تؤصل قيم التآخي.و” صالون القراءة” التي تم تأسيسه هو الذي سيمكن نساء تتنوع ثقافتهن من تدشين فعل تأسيسي للقيم و إعادة إنتاج معرفة متطورة. هذا التنوع سيمكن من تحقيق غاية أساسية تكمن في إثراء المعرفة وتأصيل التفاعل الحضاري للثقافات الإنسانية ( غابرييل غارسيا ماركيز).ومن خلال هذا التفاعل الثقافي حاولن التأسيس لمفهوم جديد للقيم الإنسانية.وانتهين إلى أن القيم تؤطرها خلفيات متعددة وجب فهمها . وهذه العلاقة الإنسانية أدت إلى إنتاج معرفة متقدمة أسست لقيم التآخي بينهن .وانتقلت الكاتبة من مجال المعرفة النظري إلى المجال المراسي لتحدد طبيعة الذات في علاقتها بالواقع والقيم وذلك من خلال تأطير حكاية إحدى النساء.فالمرأة التي اعتبرت نفسها سعيدة وجدت من رسم لها صورة مغايرة لما تعتقده.وحاولت التحرر من هذا التصور المغاير الجديد لكنها بعد ذلك ستفاجأ برسم مماثل له. وهذه الحكاية – في عمقها – هي تجسيد لتصور فلسفي يحاول أن يعطي بعدا للعلاقة بين الذات ونفسها من جهة وبين الذات والآخر من جهة أخرى ،وأن الوعي هو الذي يحدد شروط هذه العلاقة.فالسعادة إحساس داخلي للذات وتتحدد وفق تصور لها ،لا وفق تصور الآخر.إن نظرة الذات للوجود والواقع هي التي تحدد طبيعة علاقتها بالقيم.والوعي باعتباره محصلة اجتماعية هو الذي يحدد طبيعة فهم الذات ( الهوية ) للقيم . وهذا يجعلنا نستنتج أن المعرفة (التي يؤطرها الوعي ) هي التي تحدد القيم التي تؤصل لها الذات .
وفي نص ” التجربة الكندية” تتم بلورة تصور جديد لمفهوم القيم. فالعلاقة بين الذات والذات( نقصد البعد الآخر لوجودها المتمثل في أبناء وطنها) تتحقق من خلال الانسجام.فوجود الذات في كندا منحها الإحساس بالاغتراب بمفهومه المطلق ، وفي اللقاء بأبناء وطنها انمحى هذا الإحساس.إن التشكل الهوياتي في هذا الفضاء ينتقل من المثقف ( الجامعي) إلى الإنسان العامل ( السائق) ،أي أننا أمام أنماط وعي مختلفة. وتتأسس العلاقة هنا في جميع جوانبها على الانسجام. إن الوعي هو الذي يحدد طبيعة هذه العلاقة. بالإضافة إلى أن البطلة التقت من خلال فيلم وثائقي بالهنود الحمر وبنت علاقة إنسانية معهم. واستحضرت البناء الأسطوري والتاريخي للحضارة الكندية،فأسست بذلك علاقة مع الثقافة ومع القيم. وقد انتهت إلى أنه يصعب عليها أن تعيش في بلد غير بلدها. وهي لاتطرح مفهوم ” الحياة” بالمعنى الساذج بل بالمعنى الفلسفي الدقيق والمتمثل في ” مشروع الحياة” الملتصق بالوطن في بعده الأنطولوجي. إن الكاتبة هنا تؤسس لمفهوم التآخي بمعناه الفلسفي العميق .وانتهت إلى أن المعرفة الموضوعية هي التي تؤسس للقيم باعتبارها حلما تسعى الذات لتحقيقه.
المحور الثاني: نقض الهوية وإعادة بنائها
يتمحور نص الاستضافة الثاني حول نقض الهوية وإعادة بنائها . فالتساؤل المؤرق للكينونة هو ما يستدعي طرحها في سيرورتها لرصد بنائها العام .ويتم هذا بطريقة فلسفية تستحضر فيها الذات مسار الوجود من خلال التفاعل مع الآخر. وهذا الاستحضار هو الذي يمكن من إعادة بناء الهوية .
1-انفتاح الهوية :
تنفتح الهوية بشكل جريء في نص ” كم استغرقت في النوم” على الآخر أولاف هاوكه.إنها تمرر رؤيتها عبر ترجمتها للنص النرويجي. والترجمة من هنا موقف كينونة يعيد صياغة الرؤية وفق التزامات الذات التي يؤطرها الواقع الاجتماعي.
إن هذا النص يطرحنا أمام ثنائيتين ضديتين:” الخمول “في مقابل ” النشاط” ، أو لنقل بشكل أوضح ” اللافعل” مقابل” الفعل”.فانفتاح الهوية يمكنها من تحديد مجالها وكشفه بشكل دقيق . إن تحول العالم الذي غفلت عنه العين بدأت تراه. البناء الرمزي هنا مثير لأنه يفتح إمكانية التأويل. العين بهذا المعنى هي ” العقل ” فهي تمارس فعلها من خلال النظر ، والذي يعني منطقيا ” بناء الرؤية” ( البناء التصوري للعالم) .فالهوية لا تمتد إلا عبر الانفتاح على العالم لتأسيس رؤية عقلانية. وهذا ما يفسر أننا إذا نظرنا إلى العالم في تحولاته نظرة موضوعية وتستند إلى خلفيات نظرية سوف نستشرف المستقبل ونعيد بناء أنفسنا بشكل عقلاني. وهذا يعني أن ” الفعل الوجودي” ( النشاط) هو الذي سيحقق ما نصبو إليه .فسبات الذات العميق هو الذي حجب رؤيتها.فهي غير متسلحة بأدوات معرفية تمكنها من فهم العالم . وعندما امتلكت هذه الأدوات استطاعت رؤية العالم بشكل أوضح.إن الوعي الواقعي للعالم هو الذي يمكن الذات من بناء هويتها . وتنتهي القاصة إلى أن المعرفة – بفعل الوعي الناضج- هي التي تمكن الذات من بناء هوية منفتحة.
2-نقض الهوية:
تحاول القاصة في نص” المفكر” نقض الهوية وإعادة بنائها. فهي تطرح هوية متعددة الأبعاد : هوية اجتماعية و روحية .وهي بذلك تحاول استحضار البناء الأنطولوجي للهويتين: ” الهويتان أساسيتان ولكل لحظاتها المختلفة.”(10)وهي في هذا النص تنقض الذات في تأسيسها لتصورها . ف” المفكر ” لم يرق إلى إنتاج فكر ، وإنما يوهم نفسه. ففي اللحظة التي يطرح فيها نفسه مقابل الآخر يطرحه بشكل غير موضوعي.إن هذه النرجسية والامتلاء-اللاموضوعي- بالكينونة هو ما حجب الرؤية عن الذات ، بل وجعلها تغتر وتعتبر نفسها محور العالم. وهذا النص يستحضر أصول الفكر الإنساني المؤسس للحضارة الإنسانية في بعدها العقلاني: الثقافة اليونانية( أرسطو) والثقافة العربية الإسلامية ( الرازي –ابن رشد) والثقافة الحديثة ( اينشتاين).
إن فاتحة الطايب ترصد من خلال هذا النص أشكال الفكر الهجين الذي يسعى إلى التوغل . فهي ترى أن اعتبار الذات محور العالم هو تصور لاعقلاني ولا يمكن من التفاعل .وتكشف لنا بذلك عن تجليات ” الحمق الثقافي”:
“..كانت عين المرآة تتابع مشهد القلم..
عنه يرفع”(11)
إن رفع ” القلم” عن ” المفكر” يرمز هنا إلى أنه علينا نقض تصورنا وإعادة بناء أفق الهوية وفق تصور فكري جديد يؤصل الكينونة ويحقققها.ومن هنا فإن الهوية لا تنبني إلا بانفتاحها على الآخر انطلاقا من نقضها لذاتها ، وذلك من أجل بناء رؤية نقدية موضوعية للذات في علاقتها بالآخر.إنها –في الواقع- تستشرف آفاق ثقافة عقلانية تعيد بناء الموروث في إطار التفاعل مع ما هو كوني.
3-التاريخ و الواقع:
تحاول القاصة في نص ” للدهر سخرية ومكر” تأطير الهوية من خلال سيرورتها وفي بعدها الآني. وتلامس الواقع في جوانبه المختلفة. وتضعنا أمام إشكاليتين جوهريتين : ” التاريخ ” و ” الواقع”. ومن خلال علاقتهما يتحدد مفهوم ” المكر” . فالهوية نتاج تاريخي مرتبط بواقع معين.هذا الواقع الآني انعدم فيه فعل الكينونة. وهي تعي جيدا أن “..طرح مسألة الذات والهوية يتم في مقابل آخر يتحدى بقوته وسيادته.”(12). إننا نعيش في الواقع زمن الهيمنة الغربية . وإذا استعرنا من فاتحة الطايب مصطلحها ،فنحن نعيش ” زمن الآخر” .فكيف نستطيع أن نتموضع ونفكر ونحدد هويتنا بشكل أفضل؟
تقابل القاصة بين التاريخ ( مسار بناء حضارة و هيمنة) والواقع مستحضرة شكل التشكل الوجودي .وندرك من هنا أن الذات تفهم جيدا مكر التاريخ ، فهي تبسط الواقع بمأساويته: الصراعات والتناقضات الداخلية والهيمنة الرأسمالية المتوحشة.إنها تكشف – وبشكل سردي شعري- ما يقع داخل المجتمعات العربية وما يحيكه الغرب لها. وهي ترى أن الإرادة هي التي تمكن الهوية من التحقق .وتسعى كذلك إلى استحضار المسار التاريخي للمجتمعات العربية الإسلامية وتجليات الامتداد المعرفي والسياسي ( زمن الحضارة العربية الإسلامية: المعرفة والهيمنة).وما يمكن استنباطه هنا هو أنها لا تقف موقفا عدميا ( في محاولة لاستعادة هذا التاريخ) ، بل إنها تستشرف المستقبل وتقر بأن الظروف ستنضج لتحقق الهوية في امتدادها المعرفي.فإرادة وعزم الهوية سيمكنانها من بلوغ ذلك .ويتبلور هذا الطرح من خلال البناء التركيبي الذي تعكسه تقنية استعمال الأفعال المضارعة في آخر النص: ” أعترف ” و ” أكتب”.مع العلم أن : ” الفعل العربي لا يفصح عن الزمان بصيغته وإنما يتحصل الزمان من بناء الجملة. فقد تشتمل على زيادات تعين الفعل على تقرير الزمان في حدود واضحة.”(13)هذا التركيب هو الذي منح القاصة الفسحة الكبيرة للتعبير عن المستقبل باعتباره أفقا. وما تجدر الإشارة إليه هو أنها في تأسيسها لمفهوم ‘ التاريخ ” و ” الواقع ” قد ربطت بين ” الكتابة ” و ” الاعتراف “.فعندما نكتب فإننا نعترف بامتداد الهوية في التاريخ وارتباطها بالواقع ويستتبع هذا منطقيا الإقرار بأن تشييداتها النظرية في هذا المجال تؤطر مفهوم ” المكر”.لتنتهي إلى أن أي سقوط لا بد أن يستتبعه نهوض.هذه الرؤية الايجابية هي التي تؤسس الأفق الممتد للهوية في بعدها الفاعل.
وتمنح التفاعل بعده الإنساني من خلال نص : ” عالم بالفراسة” المقتطف من رواية” ناموس الأبدية” للروائي الجورجي ، كما أنها تعيد بناء النص وتأويله وفق موقفها الترجمي.إنها تستحضر التشكل الهوياتي في صيغتيه : الاجتماعية والروحية:
“مثل آدم الشاب في الجنة ،قبل أن تخلق حواء “(14)
هذا الانفتاح هو الذي مكن من تحقيق أفق الهوية الذي يستند إلى التاريخ والذي يؤطره الواقع في أبعاده المختلفة.ونجد أيضا تجليات الانفتاح في نص ” الانتظار (نص مترجم عن الكاتب الجورجي)الذي يتم من خلاله تمرير رؤى متشابكة. فهي تمثلات إدراكية لحقائق وجودية .فعنف الذات ( العاصفة ) يمكنها من خلق توازن وفهم الواقع فهما جيدا .ويتم هذا من خلال وعي الذات وإدراكها.وفي محاولتها لإعادة بناء مفهوم “التاريخ ” و “الوعي “نجد أنها تمكنت من صياغة مفاهيم جديدة وإعادة بناء رؤى متماسكة.وينبغي تأكيد مسألة جوهرية وهي أن النصوص المترجمة محاولة لتمرير مجموعة من الرؤى المتنيرة بشكل سردي/شعري متميز.
4-الفكر والإيديولوجيا:
إن الكثافة الرؤيوية والتركيبية التي اتسمت بها المجموعة القصصية “” حب لايحتاج الى ترجمة” تجعلها مجموعة فلسفية بامتياز .ففاتحة الطايب تنتقل من إشكالية معرفية إلى إشكالية معرفية أخرى وذلك من خلال بناء تركيبي متماسك.وتطرح في نص: ” متحف الكائنات المنقرضة ” مفهومي : ” الفكر” و ” الإيديولوجيا”.ويتحدد” الفكر ” هنا باعتباره “خارجا” يتم استعراضه. ف ” المتحف” أداة لتقديم الأشياء الثمينة ( الهوية باعتبارها تشكلا معرفيا) وتجند له كل الطاقات من أجل تقديمه .وهذا يمنحه طابعا رسميا يتسم ببعد إيديولوجي .ومن هنا يبرز المفهوم العلمي ل “الايديولوجيا”باعتبارها مجموع الأجهزة المؤسساتية المهيمنة التي تسعى لتكريس رؤية معينة .وهي تستحضر مفهوم ألتوسير ل الايديولوجيا( خاصة مقاله: الايديولوجيا والأجهزة الايديولوجية للدولة) لكنها تتجاوزه بإعادة صياغة المفهوم وذلك انطلاقا من الهدم وإعادة البناء .إن ما يميز المحاولة الإبداعية هنا هي أنها تستحضر الأنساق الفلسفية الكبرى بشكل تضميني إلا أنها تتجاوزها وذلك من خلال تشكيل رؤى فلسفية جديدة.في هذا النص يتبين أن جميع الأجهزة الايديولوجية للدولة تحاول أن تمنح الحدث الفعل الاستثنائي باعتباره لحظة تاريخية. إن ما يمكن استنباطه من هنا هو أن الفكر يتم تمريره بشكل إيديولوجي. ومن هنا فإن ارتباط الفكر بالإيديولوجيا مكن من تكريس معرفة هجينة.وتحاول القاصة أن تتجاوز هذه الرؤية لأنها تحلم بفكر متنير يصوغ إيديولوجية موضوعية.ونستنتج من هنا أن القاصة تؤسس لفكر متقدم يعيد بناء الواقع وفق تصور علمي.بالإضافة إلى أن محاولتها الربط بين الفكر والإيديولوجيا هي أرقى محاولة لكشف امتداد الفكر.فهو لايتحقق إلا بتضافر وسائل متعددة( أجهزة- جرائد- مواقع ..)تمكنه من الامتداد.
استنتاجات عامة:
إن المجموعة القصصية ” حب لايحتاج إلى ترجمة” هي مجموعة قصصية فلسفية تطرح قضايا الوجود الكبرى بصيغة فلسفية ،ترتكز على التأمل واستعمال العقل المجرد ،ولكن بطريقة سردية/شعرية.وتتسم شبكتها التركيبية والرؤيوية بالتعقيد نظرا لطبيعتها الفلسفية ، مما يتطلب التسلح بأدوات معرفية متعددة.
تسعى فاتحة الطايب من خلال هذه المجموعة القصصية إلى طرح قضايا الوجود المهمة والمؤرقة: الهوية والغيرية – المعرفة والقيم.وتحاول نقض الهوية من أجل إعادة بنائها عبر الانفتاح.وتستند في ذلك إلى الأنساق الفلسفية الكبرى التي شكلت مسار الفكر في سيرورته الإنسانية .وقد أعادت صياغتها وفق تصور جديد ومتقدم، كما أنها أنتجت رؤية جديدة لمفهوم الهوية . واعتمد تشكيلها لهذه الرؤية على تصور موضوعي يحيط بالواقع بكل ملابساته ويستند إلى خلفيات نظرية تحقق له الامتداد والتجذر.
محمد يعقوب إسماعيل
الهوامش:
1-ثاماوايت :نوع شعري أمازيغي
2-فاتحة الطايب ، حب لايحتاج إلى ترجمة، تقديم: نور الدين صدوق الطبعة الاولى ،2018،دار الأمان ، ص 13
3-بول ريكور ، عن الترجمة ،ترجمة حسين خمري ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، منشورات الاختلاف ، الطبعة الاولى ،2008 ، ص46.
4-فرانسيس فوكوياما ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فريق ترجمة. الإشراف والمراجعة والتقديم :مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي،بيروت 1993 ، ص28
5- حب لايحتاج إلى ترجمة،ص15
6- ميجان الرويلي-سعد البازغي ، دليل الناقد الأدبي (إضاءة لأكثر من سبعين تيارا ومصطلحا نقديا معاصرا)، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، الطبعة الخامسة،2007 ، ص90.
7-مارتن هايدغر ،الكينونة والزمان، ترجمة وتقديم وتعليق:د فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديدة المتحدة الطبعة الثانية (آيار-مايو)،2013 .
8-حب لايحتاج إلى ترجمة ، ص20
9-هنا لابد من استحضار مسألة مهمة وهي أن فاتحة الطايب لها دراية واسعة بالتراث الجورجي.يمكن الرجوع إلى :
محاضرة فاتحة الطايب مادة صورة العرب والإسلام في الأدبيات الأوربية( الملحمة الجورجية: شوتا روستافيلي أنموذجا) لطلبة ماستر الأدب العام والنقد المقارن لسنة 2013 .
10-l’identité, séminaire dirigé par claude lévi- strauss quadrige/presses universitaire de France, 2 éd, 1987 juin, p303 .
11- حب لايحتاج إلى ترجمة، ص53
12-عبد السلام بنعبد العالي ، هايدجر ضد هيجل( التراث والاختلاف )، دار التنوير للطباعة والنشر،الطبعة الأولى، 1985، ص12.
13- إبراهيم السامرائي ، الفعل وأبنيته ، مؤسسة الرسالة ، الطبعة الثانية 1980 ، ص15.
14- حب لايحتاج الى ترجمة ، ص57