غالبا ما يتم التعريف بالشعر أو محاولة الإحاطة به ، من خلال تقديم وتوصيف تعدده اللغوي والتداولي ؛ استنادا على اصطلاحات منهجية حديثة كالشعرية ، والسنن ، والشرطية الإبداعية..وفي المقابل ، يغلب ظني ، أن هذه الإجراءات المنهجية المتلونة على تعددها المرجعي ، عرفت في تراثنا العربي البلاغي و النقدي القديم ، وإن بشكل مجزئ من قبيل النظم ومفهوم الطبقة والجودة…هذا فضلا عن مفهوم الصناعة كشحذ وتهذيب للعملية الإبداعية . وهو ما يقتضي الإحاطة بخانة هذا المفهوم ، لمعرفة تجلياته قديما والبتر الذي يوظف به الآن أمام استلاب نظري يصل إلى حد العماء .
الصناعة في اللغة هي كل علم أو فن يمارسه الإنسان حتى يمهر فيه، ويصبح حرفة له. وهي في الاصطلاح ترتبط بفن القول الذي لا يخرج مخرج الارتجال؛ بل مخرج التروي والإمعان في النظر قصد السبك والصقل. والحديث عن الصناعة بمعناها الاصطلاحي يحيلنا للحديث عن الشعر، باعتبار هذا الأخير كثيرا ما يعرف بكونه صناعة ترقى، لتصبح إبداعا وخلقا.
و حين يتم الربط بين الشعر والصناعة، فلا نقصد أنه صناعة كباقي الصناعات، بل هو صناعة متميزة ومنفردة، لأن الصانع / الشاعر يعتمد خلالها على مشاعره ومتخيله وتجربته… وتلك أدوات صناعته أو قل خلقه. وقد يرقى الشاعر إلى مستوى الصانع إذا حصل الوعي الدقيق بالممكنات والمجاهل الشعرية ؛ أو قد ينحدر في ظلال الأوهام التي لا تنتج إلا الكتابة السطحية والرديئة .
وقد اختلف التصور العربي لمفهوم الصناعة المرتبط بالشعر، باختلاف العصور والسياقات؛ ففي العصر الجاهلي اعتبر الشعر ديوانا للعرب، فهو تصوير لحياتهم ولواقعهم. فكانت بذلك صناعته مرتبطة بتقاليد وعادات لا يمكن الخروج عنها. أما العصور التالية، فقد اختلفت هذه الصناعة فيها ، كما كانت عليه من قبل ، تبعا للتحولات ودور الشعر الطلائعي ضمن ذلك.
إن هذا المعنى المعطى للصناعة، يختلف عن التصنيع المرادف للزخرفة و الزينة والتكلف.. ولم يكن الشعراء يعيشون بعيدا عن هذا الجو من التصنيع والزخرف. و بالتالي، نخلص إلى أن الشعر قبل أن يكون وسيلة للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر هو صنعة يلتزم خلالها الشاعر بمجموعة من القوانين والأحكام التي فرضها عليه عصره. لذا كان التنافس والتعارض روحا داخلية ، تدفع الشعر ليرتاد آفاقا أوسع.
يتضح من خلال ما سبق ، أن مفهوم الصناعة المرتبط بالشعر، تطور مع تطور الزمن والشعر نفسه. فبعدما كانت صناعة الشعر تقوم على الوصف وترديد الصور نفسها، أصبحت تدريجيا تعني التعبير عن شيء ما، ضمن حلم أوسع وهو ما يقتضي توازي الإبداع والحرية. كما أن الصناعة مرادفة في معناها الإبداعي ، لتهذيب المقروء ضمن لغة صقيلة لا تقول نفسها الباردة فقط؛ بل تصريف تجربة إنسانية . هنا يمكن أن تتحول اللغة إلى وعاء حاضن للأسئلة الحارقة .
فهل يمكن الحديث الآن فيما نقرأه من شعر معاصر عن صناعة وصقل، أي أن الشاعر على علم بأدواته ، لإحاطة أشمل وتعبير أبلغ ومتخيل أعمق ؟ . دون إسقاط المسؤولية عن المتلقي الذي يأتي للقصيدة خالي الوفاض ، أو يأتي في أحسن الأحوال مزودا بمعاول خطابات أخرى ، فيبحث عن وهم التطابق .
الآن نحن أمام نص متشابه، منسوخ دون طاقة أو إضافة. ويغلب ظني ، أن الخصوصية تأتي أساسا من الاشتغال على النص كأداة سابحة في الشعر عموديا وأفقيا ، أي التموضع في زاوية ما بين المرحلة وفقرات تاريخ الكتابة . فحين تمر هذه الأخيرة لمسا على التاريخ والاجتماع البشري على منعطفاته ، لا يمكن أن تكون إلا رصدا خلاقا ، وبكامل العدة الخلفية .
الشعر اليوم في منطقة من الوجدان والتخييل مهددة بالزحف بأشكاله المختلفة . لذا ، من الضروري الدفاع عن مساحته المهندسة دون سذاجة داخل الأنساق ؛ وتحديد بصمته ككينونة في علائقه بالخطابات الأخرى . ولم لا، تبنيه كمشاريع تنخرط في المرحلة، وتعلن قيادتها الخاصة ولو بالوهم الذي يخلخل النمط، ويبث رعشات التمدد في الأوصال المحنطة.
الأمر في تقديري ، لايقتضي تصريف الشعر عبر المؤسسة كقراءات وتوقيعات ، بل الاشتغال عليه، كخطاب ذي وظيفة وشرط وجود . فلا مفر ، إذن ، من الإقرار بخصوصية صوته وامتداداته في مسالك المجتمع والحياة . الشعر بهذا المعنى لصيق بطين الحياة كافتراض وطريقة لها هندستها الخاصة؛ وليس كنغمة في واد، تقتضي المسامرة والانصراف بعد ذلك للشؤون التي تحرس شأنها على السطح دون عمق وجدان ورحابة أفق.