بدت القاعة كأنها خرجت من صفحات رواية كلاسيكية، حيث اصطفت سيدات يرتدين فساتين عالية الخصر إلى جانب عدد قليل من السادة بملابس رسمية مستوحاة من حقبة الوصاية البريطانية، يؤدون انحناءات مهذبة قبل أن ينخرطوا في رقصة دقيقة الإيقاع على أنغام البيانو والوتريات والفلوت. للحظات، يخيل للمتابع أنه على وشك رؤية شخصيات جين أوستن الشهيرة تنضم إلى المشهد، قبل أن يتضح أن الحدث يجري في قلب باريس سنة 2025، لا في إنجلترا القرن التاسع عشر.
نحو خمسين مشاركًا اجتمعوا نهاية الأسبوع الماضي في مركز مجتمعي بالعاصمة الفرنسية لحضور حفلة راقصة تنكرية مخصصة لتكريم الكاتبة الإنجليزية جين أوستن، وذلك قبيل الذكرى الـ250 لميلادها. وقد تولت تنظيم الحدث معلمة الرقص سيسيل لايي، المتخصصة في الرقصات الريفية الإنجليزية، عبر شركتها “تشستنَت”، التي تسعى إلى إعادة إحياء هذا التراث الفني.
وتقول إحدى المشاركات، فيرجيني أوسي، إن رقصات تلك المرحلة تمنحها شعورًا فريدًا بالسفر عبر الزمن، وكأنها تعيش مشاهد مأخوذة من روايات أوستن، مؤكدة أن هذا النوع من الرقص التاريخي لا يقتصر على الحركات فقط، بل يشمل الإحساس العام والسلوك والملابس.
ومع اقتراب ذكرى ميلاد أوستن، يتجدد الاهتمام بإرثها الأدبي الذي تجاوز حدود الكتب ليصبح ظاهرة ثقافية عالمية. فقد وجدت فئة من المعجبين، غالبيتهم من النساء، في الرقص التاريخي وسيلة للتعبير عن ارتباطهم بعالم الكاتبة الذي يجمع بين الرومانسية والدقة الاجتماعية.
وترى سيسيل لايي أن الرقص كان عنصرًا أساسيًا في حياة جين أوستن، بل مهارة اجتماعية لا غنى عنها في ذلك العصر، وهو ما انعكس بوضوح في رواياتها التي تضم مشاهد رقص طويلة تؤدي دورًا محوريًا في تطور الأحداث والعلاقات بين الشخصيات.
وبينما تعد حفلات الرقص المستوحاة من حقبة الوصاية تقليدًا راسخًا في إنجلترا، فإنها تشهد خلال السنوات الأخيرة رواجًا متزايدًا في فرنسا، خصوصًا خلال سنة الاحتفاء بالكاتبة. وتمنح هذه الفعاليات لعشاق أوستن فرصة الانغماس في عالمها، من خلال تقمص سلوكيات وأزياء الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية في أواخر القرن الثامن عشر.
ومع بدء الرقص، يتغير سلوك المشاركين تلقائيًا؛ وقفات أكثر أناقة، ابتسامات محسوبة، وإيماءات رقيقة تعكس روح تلك المرحلة، فيما يساهم ارتداء الأزياء التاريخية في تعميق الإحساس بالتجربة. بعض المشاركين يقتنون ملابسهم من مهرجانات مخصصة لجين أوستن في إنجلترا، فيما يفضل آخرون تصميمها وخياطتها يدويًا اعتمادًا على نماذج تاريخية أصلية.
وتحاكي هذه الحفلات أيضًا الطابع الصارم لفعاليات الوصاية، حيث كان الالتزام بالأعراف الاجتماعية جزءًا لا يتجزأ من الرقص، بما في ذلك تبديل الشركاء بانتظام، إذ كان تكرار الرقص مع الشخص نفسه يعد إشارة إلى نية الزواج. ورغم أن أوستن نفسها لم تتزوج، فإنها استطاعت أن تخلد تلك المرحلة بتفاصيلها الدقيقة في روايات أصبحت اليوم من كلاسيكيات الأدب العالمي.
وخلال العقود الأخيرة، تعزز حضور جين أوستن في الثقافة الشعبية عبر الاقتباسات السينمائية والتلفزيونية، بدءًا من مسلسل “كبرياء وتحامل” الشهير في تسعينيات القرن الماضي، وصولًا إلى أعمال معاصرة مثل “بريدجرتون”، ما ساهم في جذب أجيال جديدة إلى عالمها، سواء عبر الشاشة أو وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي فرنسا، ورغم أن الاهتمام بأوستن تأخر نسبيًا بسبب ترجمات مبكرة لم تنقل عمق أعمالها، فإن المشهد بدأ يتغير، مع بروز جمعيات وفعاليات مخصصة لها، وانتشار حفلات الوصاية في مدن مختلفة، حيث تحولت هذه اللقاءات إلى فضاءات للهروب من ضغوط الواقع والعودة إلى عالم أدبي يُنظر إليه بوصفه آمنًا ومريحًا.
وهكذا، وبعد مرور قرنين ونصف على ميلاد جين أوستن، لا يزال عالمها نابضًا بالحياة، يتجدد عبر الرقص، والأزياء، والخيال، مؤكدا أن إرثها الأدبي تجاوز الزمن ليظل حاضرًا في وجدان قرائها ومعجبيها حول العالم.
طنجة الأدبية

