في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1973، غاب عن دنيانا أحد أعمدة الفكر والأدب العربي، الدكتور طه حسين، الذي حمل لقب عميد الأدب العربي عن جدارة. وبحلول الذكرى التاسعة والأربعين لرحيله، لا يزال اسمه حيًّا في ذاكرة الثقافة العربية والعالمية، رمزًا للتنوير والإصرار والإبداع الإنساني الذي لا تحدّه إعاقات ولا قيود.
وُلد طه حسين علي سلامة في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889، بقرية عزبة الكيلو التابعة لمركز مغاغة بمحافظة المنيا في صعيد مصر، في أسرة متوسطة الحال يعمل والدها موظفًا صغيرًا في شركة السكر. كان السابع بين ثلاثة عشر طفلًا، وأصيب في الثالثة من عمره بعدوى في العين أفقدته البصر نهائيًا، لكنه لم يفقد البصيرة ولا شغفه بالمعرفة. حفظ القرآن الكريم وهو في التاسعة، ليبدأ مبكرًا رحلةً استثنائية جعلت منه أحد أبرز المفكرين في التاريخ العربي الحديث.
بداية الطريق نحو النور
من الكُتّاب إلى الأزهر الشريف، كانت رحلة طه حسين الأولى نحو العلم. درس النحو والفقه والبلاغة وتأثر كثيرًا بالشيخ محمد عبده الذي ألهمه روح التجديد والنقد. لكنّ الأزهر لم يُشبع طموحه الفكري، فانتقل عام 1908 إلى الجامعة المصرية الحديثة، حيث كان من أوائل طلبتها. وفي عام 1914، حصل على أول دكتوراه في تاريخ الجامعة المصرية، عن أطروحته حول الشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري، ليصبح أول طالب ينال هذا اللقب الأكاديمي من جامعة القاهرة.
لم يكتفِ بهذا الإنجاز، فشدّ الرحال إلى فرنسا عام 1918، وهناك حصل على دكتوراه ثانية من جامعة السوربون عن أطروحته حول ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع الحديث. كما نال دبلومًا في الحضارة الرومانية عام 1919. في فرنسا التقى بامرأة ستغير مسار حياته بالكامل، هي سوزان بريسو، التي كانت تقرأ له الكتب لعدم توفرها بطريقة «برايل». تحولت سوزان من قارئة ومساعدة إلى زوجة ورفيقة درب وأم لأبنائه أمينة ومؤنس. كانت عينيه التي يرى بهما العالم، وصوته الذي يُبلّغ أفكاره، وحضنه الذي احتمى به من قسوة الحياة.
مفكر تجاوز حدود الإعاقة
رغم فقدانه البصر، لم يرضخ طه حسين لقيود الإعاقة، بل جعل منها دافعًا لتأكيد قدرته على تجاوز المستحيل. كان يقول دائمًا: «العقل في الإنسان هو البصر الحقيقي». ومن هذا الإيمان تشكلت فلسفته في الحياة والأدب، فكان ناقدًا لاذعًا ومفكرًا جريئًا لا يخشى المواجهة.
تنوّعت مؤلفاته بين الرواية والسيرة والنقد الأدبي والفكر الفلسفي. من أشهرها «الأيام»، سيرته الذاتية التي ألهمت ملايين القراء، وحولت مأساته إلى مصدر إلهام للأمل. وفي «دعاء الكروان»، تناول قضية التمرد على التقاليد الصارمة في صعيد مصر، بينما قدّم في «أديب» مزيجًا من السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي في معنى الإبداع والاغتراب.
كتب أيضًا «شجرة البؤس» التي فضحت معاناة المرأة الريفية، و**«جنة الحيوان»** التي استخدم فيها الرمزية للتعبير عن قضايا إنسانية، و**«أحلام شهرزاد»** التي أعاد فيها قراءة التراث من منظور معاصر، فضلًا عن «الحب الضائع» التي غاصت في أعماق النفس البشرية.
أما على مستوى الفكر النقدي، فقد أحدث كتابه «في الشعر الجاهلي»، الصادر عام 1926، زلزالًا في الأوساط الثقافية والدينية. شكّك طه حسين في صحة نسبة بعض الشعر الجاهلي، معتبرًا أن جزءًا كبيرًا منه صُنع في العصور الإسلامية المبكرة لخدمة أغراض سياسية وقبلية. وأشار إلى أن ورود أسماء مثل إبراهيم وإسماعيل في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، ما أثار غضب الأزهر وعلمائه، ودفع السلطات إلى التحقيق معه بتهمة “إهانة الإسلام”.
لكن القضاء برّأه، وإن فُصل من الجامعة مؤقتًا. أعاد لاحقًا نشر الكتاب بعنوان «في الأدب الجاهلي» بعد إدخال تعديلات لغوية وفكرية، دون أن يتراجع عن جوهر فكرته، مؤكدًا أن النقد العلمي لا يتعارض مع الإيمان بل يعززه.
من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للهوية
مرّ فكر طه حسين بمراحل متعددة، كما أوضح المفكر محمد عمارة في دراسته «طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام». ففي مرحلته الأولى (1908-1914)، تردد بين الهوية الإسلامية والعلمانية، متأثرًا بمفكري حزب الأمة كأحمد لطفي السيد. ثم جاءت المرحلة الثانية (1914-1932) لتشهد انبهاره بالثقافة الغربية ودعوته إلى العقلانية المطلقة، ما انعكس في كتبه «الإسلام وأصول الحكم» و«في الشعر الجاهلي».
لكن المرحلة الثالثة (1932-1952) شهدت تحوّلًا مهمًا، إذ خلت كتاباته من أي مساس بالمقدسات، وتوجه للدفاع عن الإسلام ضد التنصير، معتبرًا أن الإسلام دين ودولة ومنهج حياة. وفي كتابه الشهير «مستقبل الثقافة في مصر» (1938)، دعا إلى نهضة ثقافية حديثة تستلهم من الغرب العلم لا التبعية.
أما في مرحلته الأخيرة (1952-1960)، فقد أكد طه حسين على مركزية القرآن الكريم وحاكمية قيمه، معلنًا عودته الروحية إلى الإسلام. وفي عام 1955 أدى فريضة الحج لأول مرة، فكانت لحظة تحول عميقة كتب عنها لاحقًا في كتابيه «مرآة الإسلام» و**«الشيخان»**، اللذين يُعدان من أصدق مراجعاته الفكرية.
إصلاح التعليم… معركة التنوير الكبرى
بعد عودته من فرنسا عام 1919، بدأ طه حسين التدريس في الجامعة المصرية، فشغل منصب أستاذ للتاريخ، ثم للأدب العربي. تولى لاحقًا عمادة كلية الآداب، وكان من أشد المدافعين عن حرية الفكر والاستقلال الجامعي. وفي عام 1950، عُيّن وزيرًا للتربية والتعليم في حكومة الوفد، ورفع شعارًا صار جزءًا من تاريخ مصر الحديث: «التعليم كالماء والهواء».
بفضل جهوده، تحولت الكتاتيب إلى مدارس ابتدائية، وأنشئت كليات جديدة، وتوسعت فرص التعليم المجاني في مختلف أنحاء البلاد. كما ساهم في تأسيس عدد من الجامعات الإقليمية، مؤمنًا بأن التقدم لا يتحقق إلا عبر المعرفة. وكان يرى أن العدالة الاجتماعية تبدأ من المدرسة، وأن التعليم هو الجسر بين الفقر والكرامة.
في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، شغل طه حسين منصب رئيس الأكاديمية، وأسهم في مشروع «المعجم الكبير»، أحد أضخم المشاريع اللغوية في تاريخ العربية. كما ترأس تحرير عدد من الصحف والمجلات، وكتب أكثر من 1300 مقالة في الفكر والثقافة والسياسة، جعلت منه مرجعًا في قضايا النهضة العربية.
مؤلفات وجوائز
بلغت مؤلفات طه حسين نحو ستين كتابًا، منها ست روايات، تُرجمت معظمها إلى لغات أجنبية. ومن أبرزها:
-
الأيام
-
دعاء الكروان
-
المعذبون في الأرض
-
في الأدب الجاهلي
-
مستقبل الثقافة في مصر
-
على هامش السيرة
-
حديث الأربعاء
رُشّح لجائزة نوبل في الأدب أربع عشرة مرة، بدءًا من عام 1949، لكنه لم ينلها. غير أن تكريمه لم يتوقف؛ فقد منحه الرئيس جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية العليا، التي كانت تمنح عادة لرؤساء الدول، كما حاز جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1973، قبل وفاته بأسابيع.
رحيله… وجدل بعد الرحيل
توفي طه حسين في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1973، عن عمر ناهز الرابعة والثمانين، في يومٍ صادف عيد الفطر المبارك. رحل الجسد، لكن إرثه بقي حاضرًا في الوجدان الثقافي العربي، منارةً للعقلانية والتنوير.
وبعد نحو نصف قرن على رحيله، عاد اسمه ليتصدر الجدل مجددًا، حين انتشرت عام 2022 أنباء عن نية السلطات المصرية إزالة مقبرته ضمن مشاريع تطوير الطرق في القاهرة. أثارت الخطوة موجة غضب واسعة، خصوصًا بعد تداول صور للمقبرة مكتوب عليها «إزالة». لكن أسرته سارعت إلى نفي نقل رفاته خارج مصر، مؤكدة أن «العميد» سيبقى في تراب وطنه الذي أحبّه ودافع عنه بقلمه وفكره.
أصدرت محافظة القاهرة بيانًا رسميًا في سبتمبر من العام نفسه، أكدت فيه عدم صحة الأخبار المتداولة، لتغلق باب الجدل مؤقتًا، ويبقى المكان شاهدًا على مسيرة رجل غيّر وجه الثقافة العربية.
إرث لا يُمحى
طه حسين لم يكن مجرد كاتب أو أستاذ جامعي، بل مشروع نهضة فكرية متكامل. جمع بين الجرأة في الفكر والصدق في الالتزام الأخلاقي، وبين الانفتاح على العالم والتمسك بجذور الهوية العربية والإسلامية. فتح أبواب الأدب والنقد أمام الأجيال الجديدة، وأرسى قواعد النقد العلمي والأدبي في العالم العربي الحديث.
ورغم مرور عقود على رحيله، فإن أفكاره ما تزال تُدرّس في الجامعات وتُناقش في الندوات والمؤتمرات. لقد أعاد للأدب العربي هيبته الأكاديمية، وربط بين الثقافة والإصلاح الاجتماعي، فكان كما وصفه توفيق الحكيم: «رجلًا من طراز نادر، لم يُولد مثله في كل قرن إلا مرة».
في ذكرى رحيله التاسعة والأربعين، لا نملك إلا أن نستعيد صدى صوته حين قال: «إنما نحن قوم نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلًا، ونبذل في سبيلها ما نملك من فكر وعمل، لأننا نؤمن بأن الحياة ليست للكسالى ولا للجبناء».
لقد عاش طه حسين مؤمنًا بأن الكلمة قادرة على تحرير العقول، وأن الظلام الحقيقي ليس في العيون بل في القلوب. لذلك، سيظل عميد الأدب العربي حاضرًا في وجدان كل من آمن بأن النور يبدأ من فكرة.
طنجة الأدبية

