برحيل الفنان المغربي الكبير عبد القادر مطاع في الواحد والعشرين من أكتوبر سنة 2025، فقدت الساحة الفنية المغربية أحد أبرز أعمدتها، وأحد آخر حراس الذاكرة الذين صنعوا البدايات الأولى للدراما المغربية وملامحها الأصيلة. غاب عبد القادر مطاع عن عمر يناهز 85 عامًا، تاركًا وراءه مسيرة حافلة بالتميز، ومسارًا إنسانيًا يُروى للأجيال القادمة، لأنه كان أكثر من مجرد ممثل؛ كان رمزًا للصدق الفني، والنقاء الإنساني، والعصامية التي لا تعرف الانكسار.
طفولة قاسية صنعت إنسانًا استثنائيًا
وُلد عبد القادر مطاع سنة 1940 في حي درب السلطان بمدينة الدار البيضاء، وسط أسرة بسيطة لا تملك من الحياة سوى كفافها اليومي. فقد والده في سن مبكرة، فاضطر إلى مواجهة قسوة الحياة في طفولته، يساعد والدته التي كانت تعمل طباخة لدى أسرة فرنسية لتأمين لقمة العيش.
لم يُكمل مطاع سوى السنة الثانية الابتدائية، ليجد نفسه متنقلاً بين مهن متعبة ومتنوعة: من النجارة إلى إصلاح الدراجات، ومن العمل في مطحنة للملح إلى بيع الخضر ونسج الزرابي مع النساء. كانت تلك التجارب البسيطة هي التي صاغت شخصيته الصلبة، وأكسبته حسًّا بالناس وهمومهم، وهو الحسّ الذي سيظهر لاحقًا في أدائه التمثيلي الواقعي والعميق.
ورغم قسوة الأيام، لم ينس عبد القادر مطاع أن يحلم. فقد كان انخراطه في الكشافة والمخيمات الصيفية أول نافذة يطل منها على عالم الفن. هناك اكتشف موهبته الفطرية في تقمص الشخصيات، وبدأ يقدم سكيتشات وعروضًا بسيطة أمام أقرانه، دون أن يدرك أن تلك اللحظات ستكون البذرة الأولى لواحدة من أهم المسيرات الفنية في المغرب.
من الخشبة إلى الشاشة.. مولد فنان عصامي
بدأت مسيرته الفعلية عندما شارك في مسرحية «الصحافة المزورة» إلى جانب الفنان الراحل محمد الخلفي، وكانت تلك أول تجربة احترافية له أمام الجمهور. بعدها التحق بـفرقة المعمورة للمسرح في مطلع الستينيات، وهي المدرسة الفنية التي خرجت أجيالًا من الممثلين الذين صنعوا مجد المسرح المغربي.
تميّز عبد القادر مطاع على الخشبة بقدرته على الجمع بين الكوميديا والتراجيديا، بين الصدق في الأداء والعفوية في التعبير، ليُصبح خلال سنوات قليلة من أبرز نجوم المسرح المغربي. ومن الخشبة، انفتح على عوالم أخرى، فالتحق بـفرقة التمثيل التابعة لدار الإذاعة والتلفزة المغربية، حيث فتح له صوته الدافئ والمعبّر أبواب الشهرة عبر الميكروفون. كان صوته يحمل صدقًا يلامس القلب، لذلك لم يكن غريبًا أن يكون أول صوت يُسمع عند انطلاق إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية من باريس سنة 1980.
وشمة الخلود.. بصمة في السينما المغربية
عرف الجمهور الواسع عبد القادر مطاع في السينما من خلال فيلم «وشمة» (1970) للمخرج الكبير حميد بناني، الذي شكل محطة مفصلية في تاريخ السينما المغربية. في هذا الفيلم، ترك مطاع بصمة لا تُمحى بأدائه المتقن للشخصية، وبتجسيده العميق للمعاناة الإنسانية، ليُثبت أنه ليس ممثلًا فحسب، بل فنان يترجم الحياة بصدق على الشاشة.
توالت بعدها مشاركاته في أعمال سينمائية متميزة مثل «البراق» (1973)، «الشرقي أو الصمت العنيف» (1976)، «الباندية» (2003)، «لعب مع الذئاب» (2005)، و**«كلاب الدوار»** (2010)، وصولاً إلى فيلم «باب الشيطان» (2021)، الذي كان آخر ظهور له على الشاشة الكبيرة. ورغم اختلاف الأدوار وتنوعها، ظل مطاع يقدم كل شخصية كأنها جزء من حياته الخاصة، فيتقمصها بإحساس المبدع الصادق الذي يعيش الفن لا كمهنة، بل كقدر جميل.
الدراما التلفزيونية.. ذاكرة أجيال
لكن حضور عبد القادر مطاع الحقيقي في وجدان المغاربة ارتبط أساسًا بشخصية الطاهر بلفرياط في مسلسل «خمسة وخميس» (1987). تلك الشخصية التي أصبحت جزءًا من ذاكرة المشاهد المغربي، لما جسدته من قيم الطيبة والبساطة والإنسانية. ومنذ ذلك المسلسل، صار اسمه ملازمًا لصورة الأب الحنون، الحكيم، الذي يعكس جوهر الإنسان المغربي الأصيل.
قدّم مطاع عشرات الأعمال التلفزيونية التي حفرت مكانتها في الذاكرة الجماعية: من «ستة من ستين» (1988) و**«ذئاب في الدائرة»** (1997) و**«أولاد الناس»** (1999)، إلى «دواير الزمان» (2000) و**«دموع الرجال»** (2014). وفي كل هذه الأدوار، ظل محافظًا على هدوئه واتزانه، مخلصًا لفنه دون ضجيج أو ادعاء، حتى في السنوات الأخيرة التي أنهكه فيها المرض.
صوت الإذاعة وروح المسرح
لم يكن عبد القادر مطاع نجمًا تلفزيونيًا فحسب، بل كان أحد أعمدة الإذاعة المغربية، حيث أبدع في التمثيل الإذاعي، وأسهم في تكوين أجيال من الفنانين الشباب الذين تربوا على صوته وأدائه. وكان دائمًا يردد أن المسرح هو الأصل، وأن الإذاعة مدرسة الانضباط الصوتي والخيال الواسع، فيما التلفزيون والسينما هما تتويج لمسيرة الممثل الحقيقي.
رجل من زمن الوفاء
رغم النجومية التي حظي بها، عاش عبد القادر مطاع حياة متواضعة بعيدة عن الأضواء. لم يكن من أولئك الذين يسعون وراء الشهرة أو الصفقات الإعلانية، بل ظل وفيًا لجوهر الفن بوصفه رسالة. كان يرفض المجاملة في التمثيل، ويصرّ على أن يكون الإبداع نابعًا من الإيمان بقدسية الفن.
في أحد حواراته القديمة، قال:
«الفنان الحقيقي لا يقاس بعدد الأعمال التي شارك فيها، بل بقدر ما يتركه في الناس من أثر».
كلمات تختصر فلسفة حياته، وتجعلنا نفهم لماذا ظل محبوبًا حتى آخر أيامه، ولماذا بكاه كل من عرفه أو شاهد أعماله.
سنوات المرض والصبر النبيل
في السنوات الأخيرة من عمره، عانى الراحل عبد القادر مطاع من مشاكل صحية أفقدته البصر تدريجيًا، لكنه ظل صابرًا محتسبًا، يتحدث عن معاناته بابتسامة ورضا. كان يرى بعين القلب ما لم تعد تراه عيناه، وكم من مرة قال لزواره:
«البصر فقدته، لكن البصيرة لا تزال تنيرني».
كان صموده في وجه المرض درسًا في الإيمان والقوة الهادئة، تجسيدًا لإنسان عاش كبيرًا في فنه وإنسانيته.
رحيل لا يُعوض
في 21 أكتوبر 2025، أسدل الستار على حياة فنانٍ أحب الناس بصدق، فبادلوه الحب بالدموع والدعاء. توفي عبد القادر مطاع في مدينة الدار البيضاء بعد صراع طويل مع المرض، لتفقد الساحة الفنية المغربية أحد رموزها الذين جسّدوا روح الجيل المؤسس، الجيل الذي بنى الفن المغربي على قواعد الأصالة والالتزام.
نعاه الفنانون المغاربة بكلمات مؤثرة. كتب أحد زملائه:
«برحيلك يا عميد، نفقد جزءًا من ذاكرتنا، ومن زمن الفن الجميل الذي لن يتكرر».
أما الجمهور، فودّعه على مواقع التواصل الاجتماعي بالحبّ ذاته الذي حفظوه له في قلوبهم لعقود، مرددين أسماء شخصياته التي رافقت طفولتهم وشبابهم.
إرث لا يموت
رحل عبد القادر مطاع جسدًا، لكنه ترك وراءه إرثًا فنيًا وإنسانيًا خالدًا. ترك للأجيال دروسًا في الإصرار والصدق والعصامية، وترك ذاكرة عامرة بالأدوار التي تُضحك وتُبكي وتُفكر في آن واحد.
إنه الفنان الذي جمع بين البساطة والعمق، بين الابتسامة والألم، بين الصمت والكلمة الصادقة.
وإذا كانت الأجيال الجديدة تعرفه من الشاشة، فإن من عاصروه يعرفون أنه كان في الكواليس أبًا للجميع، يمد يده للمواهب الشابة، ويمنحها من تجربته دون تردد.
بين الفن والحياة.. دروس البقاء
قصة عبد القادر مطاع ليست مجرد سيرة فنان، بل سيرة إنسانٍ عاش بشرف وكرامة، وعلّمنا أن الفن الحقيقي ليس في التمثيل فقط، بل في الموقف والصدق والتواضع.
لقد مثّل بصموده في وجه المرض، وابتسامته الدائمة رغم الألم، دروسًا في البقاء الإنساني قبل البقاء الفني.
واليوم، حين نودعه، لا نقول وداعًا، بل نقول:
شكرًا لأنك جعلت الفن مرآة للروح المغربية، وشكرًا لأنك كنت دائمًا صوت الحق والصدق في زمنٍ يضيع فيه الصدق بسهولة.
رحمك الله، أيها الكبير، فقد كنتَ كبيرًا في حياتك، وستبقى كبيرًا في ذاكرتنا إلى الأبد.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
طنجة الأدبية

