الرئيسيةإبداعهند والعند قصة امرأة دمّرت حياتها بعندها

هند والعند قصة امرأة دمّرت حياتها بعندها

امرأة تجلس وحيدة قرب نافذة في ليلة ماطرة تتأمل انعكاسها بحزن
العناد طبعٍ يلازم بعض الناس، هو مرضُ الكبرياء حين يتخفّى في هيئة القوّة، فيُقنع صاحبه أن الثبات على الخطأ بطولة، وأن الرجوع إلى الصواب ضعف.
وقد رأيتُ في مسار الحياة وجوهًا كثيرةً انهزمت لأنّها أصرّت على أن تُصارع ظلّها.

وهندٌ — بطلة هذه القصة — لم تكن سوى مرآةٍ لامرأةٍ أرادت أن تُثبت لنفسها أنّها لا تُهزم، فهزمت كلّ شيءٍ جميلٍ حولها.

إنها حكاية كلّ من ظنّ أن العناد كرامة، فاكتشف متأخرًا أن الكرامة الحقيقية كانت في كلمةٍ صغيرةٍ لم يقلها: سامحني.

إلى كلّ نفسٍ تُغريها العزّة الكاذبة عن الصدق الصعب،
وإلى كلّ قلبٍ ظنّ أن التراجع هزيمة، فعاش منتصرًا على الآخرين… مهزومًا في ذاته.

القصة

كانت هندُ امرأةً يكسوها الكبرياءُ كما يكسو الجليدُ قممَ الجبال؛ باردًا، صامتًا، لكنه يُخفي تحتَه جمرًا من العناد يلتهب كل شيء جميل حولها . لم تكن تعرف التراجع، ولا تقبل الاعتذار، ولا ترى في رأيها خطأً مهما اتسع الخلاف أو انكشفت الحقائق.
كانت إذا خاصمت، خاصمت بكل ما تملك من قسوة، وإذا أحبّت، أحبّت بكبرياءٍ واستعلاء.

ولدت هند في بيتٍ اعتاد التحدي والعناد، فشبّت على ظنٍّ بأن الصمتَ ضعف، والتراجعَ هزيمة، واللينَ انكسار. فكانت كلماتها حادّةً كالنصال، ومواقفها ثابتةً كالصخر، حتى إنّ من حولها خافوا أن يقتربوا من نارها خوفًا من لهيبها، ومن صلابة أفكارها..

تزوّجت هندٌ من رجلٍ أحبّها أكثر مما أحبّ الحياة، فاحتمل طباعَها حينًا، وظنّ أن الأيام ستروّض كبرياءها كما يروّض الزمانُ الموجَ الجامح. لكنه ما لبث أن أدرك أن عنادَها ليس موقفًا عابرًا، وإنما هو مذهبُها في الحياة.
كانت هند ترى زوجها ضعيفًا لأنه يُسامحها، وتراه مائلَ الكفّة لأنه يلين لها. وحين كانت تخطئ، لم تقل يوما عذرًا، بل كانت ترفع رأسها وتقول في نفسها: هو من أخطأ أولاً.

تساقطت الأيام كما تتساقط أوراقُ الخريف، وكل ورقةٍ كانت تسحب من قلبها دفئًا، ومن قلبه صبرًا. حتى جاء اليوم الذي أغلق فيه الباب وراءه، وقال بهدوءٍ كالموت:
“العنادُ يا هند لا يبني بيتًا، وإنما يهدم وطنًا من الودّ.”

لم تردّ، اكتفت بابتسامةٍ مشوبةٍ بالغرور وقالت في نفسها:
” سيعود… فالرجال جميعًا يعودون.”

لكنّه لم يعد.

مضت الشهور، ثم الأعوام، وتبدّد صوتُ خطاه في ذاكرة البيت الذي صار صامتًا كالمقابر. فلم يبقَ حولها إلا الجدرانُ التي كانت يومًا شاهدةً على صخب الحياة، فصارت اليوم شاهدةً على وحدتها.

كانت كلما سمعت ضحكةً من بعيد، شعرت بأن الدنيا تمضي قدما من دونها، وكلما رأت وجهًا محبًّا في الطريق، تذكّرت وجهه يوم غادرها دون وداع.
حاولت أن تواسي نفسها بأن كبرياءها عزّة، وأن عنادها قوّة، لكن كل ليلة تمر بها كانت تسحب من قلبها تلك الأكاذيبَ الواحدة تلو الأخرى، حتى لم يبقَ فيها إلا الندم.

وفي مساءٍ باردٍ من أيام الشتاءٍ المتأخرة، جلست قرب النافذة تحدّق في المطر، فتراءى لها وجهُه في الزجاج، هادئًا كما كان، صادقًا كما لم تكن معه. مدّت يدها نحو الظلّ، فلم تلمس إلا البرودة. عندها أدركت — بعد فوات الأوان — أن كبرياءها الذي اعتقدت أنه حفظ لها صورتَها أمام الناس، قد سرق منها حقيقتَها أمام نفسها.

وماتت هند كما عاشت: صامتةً، متعاليةً، وحيدة. لكنّ المدينة كلّها سمعت في تلك الليلة صوتًا خافتًا يشبه البكاء… كأنّ العناد نفسه كان يبكيها.

فما أشدَّ قسوةَ العنادِ حين يتخذُ من القلبِ وطنًا له، فيزرعُ في تربةِ الحبّ شوكًا، ويسقيه من ماءِ الغرور حتى يُثمرَ ندمًا! لقد كانت هند مثالًا للنفوس التي تُقيم حولها أسوارًا من الكبرياء، وتظنّها حصونًا منيعةً، فإذا بها قبورٌ تُدفنُ فيها المشاعرُ حيّةً.

إنّ المرأة التي ظنّت أن العزّة في تصلّبها وعنتدها، فقدت أعزّ ما تملك: دفءَ اليد التي امتدّت يومًا لتصالحها، وصوتَ القلب الذي ناداها فلم تجب. وما العنادُ في جوهره إلا جهلٌ متخفٍّ في ثوبِ الكرامة، فإذا سقط القناع، بان وجهُ الخسارة في وضح النهار.

وهكذا تمضي الأيامُ لتُخبرنا أنّ الكلمةَ التي تُقال في وقتها — عذرًا، سامحني — قد تُنقذ عمرًا بأكمله، وأنّ الذين يكسِرون قلوبهم قليلًا من أجل الحب،
أعقلُ ممّن يكسِرون الحبَّ كلَّه من أجل قلوبهم.

هشام فرجي
هشام فرجي
هشام فرجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *