الرئيسيةإبداعقصة: الجاسوس  

قصة: الجاسوس  

رجلان يتحدثان سرا أمام مطعم في إسطنبول ليلاً في أجواء تجسسية

حصل على إجازة في علم النفس الاجتماعي من إحدى جامعات بغداد، قبل أزمنة الحرب والدمار. ما بين وقت وآخر يحتاج الأمن المغربي أفرادا للالتحاق بالجهاز. وقد نجح عبد الواحد، وهذا اسمه الحركي، وليس الشخصي. تم قبوله برتبة ضابط في الاستخبارات المغربية، كأنه خلق ليكون الرجل ذاته. اختير لمهمة خارج البلاد، لكي يترأس المكتب السري للمغرب في إسطنبول. وكان المكتب يدار بغطاء شركة تصدير واستراد.

ذات مساء، وهو يغادر الشارع الرئيسي لمكتبه، وبالصدفة، التقى زميلا عراقيا من أيام الدراسة في بغداد. اسمه منير، وهو أيضا اسم حركي.

مع مرور الوقت، شرعا يفقدان اسميهما الحقيقيين، إذ نادرا جدا ما يسمع الواحد منهما باسمه. تعانقا، وبعد التحايا قصد الاثنان مطعم حان “أجلار كباب” في شارع جوك شودرا. دخلاه… مشط منير المكان بنظرة شاملة، وعبد الواحد كذلك. جلسا يتحدثان بصوت منخفض، مد الظلام ستائره على المكان فلم يكن يبدد من حلكته إلا تلك الشموع الضعيفة التي ترسل أشعتها الذهبية في دائرة ضيقة مما حولها فوق الموائد…

طالت الجلسة بينهما إلى أن أسدل الليل ظلامه. لم يكن منير جاسوسا عاديا، بل كان يعمل لصالح الاستخبارات العراقية والروسية في آن. هل كان عبد الواحد على أهبة… جلسة واحدة مع منير كانت كافية لأن يلعب عبد الواحد دورا للروس في المغرب. تلك هي النفس البشرية… هنالك في باطنها الشفيف شيء ينزع نحو الشر. وربما كان في النفوس الإنسانية قسم شيطاني مضطلع على ما لا تدركه الحواس هو الذي يوجه ميولنا ويرسم لنا طريق الحياة والشرور. كانت وسيلة اتصال عبد الواحد بالروس المتفق عليها جد خفية، وهي عبارة عن وحدة مركزية للحاسوب مصغرة بتقنية ”النانو” زرعت في جسمه برغبته، وبإشراف مهندس في الإلكترونيات من أصل روسي يدعى زاخاروف. وهذه تقنية جد متطورة من الجيل الثالث ومتعددة الاستعمالات، منها تمرير تقارير استخبارية مغربية وتصوريها لترى على شاشة الحاسوب المركزي في موسكو، وتنفيذ الاغتيالات بالإشعاع الأيوني القاتل.

يوم الأربعاء الأخير انتهت مهمة إسطنبول بعد تسعين يوما قضاها عبد الواحد هناك. ركب عبد الواحد خط الرحلة 552 على الخطوط المغربية. نزل بالمطار، وهو في غاية من الحذر والتوجس. في مكتب المديرية العامة بالرباط طلب منه المسؤولون صياغة تقرير عن نتائج مهمته في إسطنبول، خاصة عن أنشطة مكتب الموساد هناك. بسط الأوراق، مسك القلم، وبدأ يفكر. كان أول ما خطر بباله هو كيف يمكن لمجتمع أن يتطور وعدد الجند فيه يفوق عدد الفلاحين والعمال… ما معنى حضارة لا تؤمن أن أمنا غذائيا يساوي نموا ديموغرافيا، مع أن أمنا غذائيا يوازي متوالية حسابية، ونموا ديموغرافيا يوازي متوالية هندسية … همهم قائلا: يا له من غباء … غباء هؤلاء الساسة.

ثم كيف أكتب؟ فأنا لا أعرف كيف أكتب عن الجهلة. أو أن أحكي ما وقع بين طوم وجيري. أشعل سيجارة من نوع “كَنْتْ”، وانساق خلف كل ما حدث هنالك… صاغ تقريره في نهاية المطاف قبل أن يسلمه، وعاد إلى مدينته في إجازة قصيرة .

في مدينته سيبدأ الفصل الأخير .

كان أوله أنه مفكر وليس عميل استخبارات فحسب. لديه من الأفكار والنظريات ما هو كفيل بقلب الدنيا… استولت على لبه فكرة المفكر التي ليست على مقاسه. ولا تناسبه على الإطلاق، استمرأها، لاكها، حتى ترسخت في لاوعيه.

مع مرور الوقت صارت فكرة متسلطة غير هينة، وقد لبسته تماما. لعبد الواحد صديق صحافي عفوي للغاية، إن قال كلمة ثبت معناها آجلا أم عاجلا… كان عبد الواحد يفضله كجليس لنقاء بديهيته وتواضعه. أخذه معه إلى مقهاه المفضل، وشرعا في الحديث إلى بعضهما. ودون مقدمة، قال له الصحافي:

–     تبدو كجاسوس روسي.

ترنح عبد الواحد، سقط من يده فنجان القهوة. ليس في وسعه أن يستفهم أي تحليل حقيقي. لا شيء يسمح بتخيل أن في استطاعته إسكات ما يمور بداخله، ثم ما لبثت أن عاودته هذه الصورة. صورة إلقاء القبض عليه أمام عينيه مجسمة. بعد أسبوع علم الصحافي أن عبد الواحد قد جن، وثبتت إصابته بشيزوفرينيا حادة مع رعاش دائم.

نزار القريشي كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *