كنا في أيام العطلة الصيفية البعيدة، أيام الطفولة، نذهب إلى مسجد صغير في حينا، لنحفظ ماتيسّر من سور القرآن الكريم مقابل أجرة أسبوعية رمزية، كانت تمنح للفقيه الجليل في كل يوم الأربعاء، فالرحمة لمن علمنا.
و كان في حينه مسجدا قديما؛ مكون من بيتين كبيرين متقابلين، يجمعهما سور يحميهما.
واحد من هاذين البيتين كان مخصصا للصلاة يتولى فيه السيد الفقيه الإمامة، والثاني الذي في الجانب المقابل مخصص لتلقين عدد لا بأس به من التلاميذ كتاب الله.
وبينما نحن نتعب حنجرتنا، ذات يوم، بشكل جماعي، منكبون على ألواحنا، لانرفع عنها رؤوسنا.
فجأة، انصرف عنا السيد الفقيه في تراخ فتوارى لحظة خلف محل شبه مظلم غير بعيد عنا، يجعل فيه السيد الفقيه أغراضه الخاصة، والتي هي في جزء منها عبارة عن بعض الأغطية و المفروشات فضلا عن كتب دينية بالإضافة إلى بعض الأدوات المنزلية بما فيها قارورة غاز وغير هذا.
وعاد إلينا سريعا، مبسوط الجبين، وهو يحمل براد شاي في يده ذات لون أبيض، وأثناء ذلك صار صوت السيد الفقيه ينادي:
– من منكم يريد شرب الشاي فليتقدم نحوي !
وفور سماعنا لنداء السيد الفقيه لذلك، حتى نهض الجميع إليه وتكابوا عليه، مندفعين متزاحمين قدامه في استجابة عفوية لندائه، لقد وجدناها فرصة للتخلص قليلا من عناء الجد، وجعلنا ندنو من حوله، ونحن نتطلع إلى ما في يده، مرددين أمامه دفعة واحدة وبشكل يقرع السمع:
– ” أنا..أنا”، الكل يريد أن يشد إليه انتباه السيد الفقيه.
وهكذا استطاع طفل ممتلئ الجسم من الالتحاق به قبل الآخرين، متخطيا الرقاب في شوق ولهفة، وعندها وضع السيد الفقيه يده النحيلة على كتفه واشترط عليه قبل أن يذيقه جرعة الشاي المرتقبة، أن يرفع رأسه مائلا إلى الخلف ويُبقي فمه مفتوحا ملأ شدقيه، وهذا ما كان.
وابتدأ العرض بأخذ الطفل مكانه أمام السيد الفقيه الذي كان يمسك بمقبض البراد الأبيض، رافعا إياه قليلا، استعدادا لعملية صب الشاي.
وتنفيذا لشرط السيد الفقيه، رفع الطفل رأسه، وهو يستعد لاستقبال المشروب اللذيذ الذي سلب قلبه وعقله.
و بقية قرنائه الآخرون يتفرجون بعيون مندهشة على هذا المشهد المسلي والمضحك، وينتظرون في شوق ولهفة من منهم سيأذن له السيد الفقيه ويجيز له المرور نحوه قبل الآخرين.
وفي فترة الانتظار هاته لاذ خلالها الأطفال المنتظرين بصمتهم قليلا، وكفت أفواههم الفاغرة عن الإلحاح.
فصب الساقي جرعة من الشاي الذي كان ما يزال يحافظ على حرارته، في فم الطفل فصرخ منها هذا الأخير بأعلى صوته وبكى، فانطلق مسرعا إلى الخارج وهو يسعل ويبصق، لقد ألمه شاي الفقيه الذي أذاقه العذاب الأليم، تاركا وراءه موجة من الضحكات الصبيانية، المتحررة من رقابة السيد الفقيه، والمشوبة بانفعالي الخوف والشفقة على ما حدث لزميلهم، متخيِّلين أنفسهم مكانه.
عبد الكريم بن شيكار

