خضع المغرب للحماية عام 1912، حيث اقتسمته عدة دول، فالشمال والجنوب استحوذت عليهما إسبانيا، في حين استولت فرنسا على الوسط، أما طنجة فقد كانت منطقة دولية.
فشمال المغرب الذي يضم الريف وجبالة، وبعد معارك شرسة خاضها المواطنون لمقاومة الاحتلال الإسباني، خضع للسيادة الإسبانية، وأصبحت مدينة تطوان عاصمة الجهة، يقيم فيها خليفة السلطان المغربي مع المقيم العام الإسباني، يشتركان في تدبير الشأن العام.
كان للمقاومة المغربية في الشمال تأثير في الحياة السياسية الإسبانية، التي عرفت انتفاضات عسكرية خطيرة، ابتداء من 1923، حتى استقرت عام 1936 في يد الجنرال فرانكو الذي قاد الحركة القومية، ما أدى إلى حرب أهلية مدمرة خاضها ضده خصومه الجمهوريين “الروخو” المسنودين من الروس. أُكْرِهَ المغاربة الشماليون على المشاركة في الحرب، جنودا ضمن اللفيف الأجنبي المؤازر للجنرال “فرانكو”، الذي كان يحظى أيضا بدعم الإيطاليين والألمان. حتى انتهت الحرب بانتصاره عام 1939.
كان فرانكو في حاجة إلى المقاتلين المغاربة الذي اشتهروا بالشجاعة والجرأة والقدرة العالية على التحمل، ويضمنون انتصاراته في حروبه. ولكسب عطفهم، حرص فرانكو على تنظيم حملة دعائية لسياسته، تقربه من المسلمين، وتكسب عطفهم وتعاطفهم، فكان يبدى دعمه للإسلام ولمناسكه، ولمؤسساته من زوايا ومساجد، ولا يفوت أعوانه وممثلوه فرصة دينية دون دعوة الأهالي إلى التجنيد والمشاركة في الحرب ضد “أعداء الإسلام”. هذه الحرب التي خلفت عدة مآس في الشمال المغربي، آلاف اليتامى والأرامل، والكثير من المعطوبين الذين كان يطلق عليهم لقب “المانكو”، كـ”أحمد المانكو”، شقيق السي بن طاهر العوفي الذي كان يعيش في دوار إحجيون بقبلية آيت أوليشك.
ولأجل ذلك، ووعيا منه بأهمية شعيرة الحج في حياة المسلمين، عمل فرانكو عام 1937، على تنظيم رحلات حج إلى الديار المقدسة، أشرك فيها أعيان المنطقة الخليفية بشمال المغرب وجنوبه، ووفر لها كل شروط النجاح. نظمت ثلاث رحلات متتالية إلى مكة، لتتوقف هذه الرحلات عام 1939، بعد انتصاره على خصومه الجمهوريين اليساريين.
كان الحج الإسباني يقدم الجنرال فرانكو كشخصية صديقة للإسلام والمسلمين، وأنه يستحق الشكر على فضله الكبير على المسلمين، ويستحق الدعم والمساندة في حربه ضد الشيوعيين الكفار. لذلك يرى كثير من المؤرخين الإسبان بأن الجنيرال فرانكو قد تعامل مع سكان مستعمرته بنوع من الابتزاز، أي دماؤهم وأرواحهم مقابل منحهم وسائل النقل لأداء فريضة الحج.
تم توفير باخرة كبيرة فخمة، طولها 125 متراً، تبلغ حمولة الباخرة أزيد من 12 ألف طن، وتبلغ سرعتها 17 ميلا في الساعة، وتحتوي على مصلى رئيس، ومصليات ثانوية، ومصحة، وغرفة عزل صحي، وقاعة، ومطعم، ويشتغل فيها عمال مغاربة. تضم في صالونها لوحة مهيبة لفرانكو عليها إهداء بتوقيعه “إلى إخواننا المسلمين المغاربة”.
وكان ثمن التذكرة ذهابا وإيابا بأسعار رخيصة، كالتالي:
الدرجة الأولى 1600 بسيطة؛
الدرجة الثانية العادية 1400 بسيطة؛
الدرجة الثالثة الممتازة 900 بسيطة؛
الدرجة الثالثة العادية 800 بسيطة.
قامت الباخرة بثلاث رحلات: الأولى سنة 1937، ترأس وفد الحجاج قاضي القضاة الرهوني؛ والثانية سنة 1938؛ والثالثة الأخيرة عام 1939، ترأس وفد الحجاج الشيخ مربيه ربه.
انطلقت الرحلات من سبته، في حفل كبير يترأسه المقيم العام ونائب الشؤون الوطنية، وجميع الوزراء والحكام بالعاصمة تطوان. يتعطل العمل في المؤسسات العمومية والخصوصية، في سبتة، وتحشد السلطات مجموعات من المواطنين الإسبان لتحية الحجاج. وتنطلق في البحر مخفورة بسفن حربية إيطالية لحمايتها، وضمان أمنها، ذهابا وإيابا، ما أسهم في نجاحها.

الرحلة الأخيرة
نظمت عام 1357ه (1938م) حيث حج عدد من الفقهاء والعلماء والأعيان من الريفين الشرقي والغربي والأقاليم الصحراوية المغربية.
وكان من بين الحجاج القاضي السي محمد بن الطاهر العوفي الوليشكي، الذي نشر ابنه الأستاذ عبد الحق العوفي في كتابه آل العوفي ترجمته، وأشار إلى هذا الحج، وعرض بعض الوثائق التي تضيء جوانب هامة من رحلة الحج المذكورة. هذه الرحلة نفسها كانت موضوع الكتاب الذي ألفه ماء العينين بن عتيق تحت عنوان الرحلة المعينية، وحققه الأستاذ محمد الظريف، ونال به جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي برسم سنة 2004، والتي ستفيدنا في إلقاء مزيد من الضوء على الرحلة ومجرياتها.
التحق الحجاج بالباخرة التي كانت راسية في ميناء سبتة يوم 16 ذي القعدة 1357ه، بعد كلمة ترحيب ووداع ألقاها في الحجاج المقيم العام الإسباني في تطوان، هنأ الحجاج بالركوب إلى الحج، ونوه بعل الجنرال فرانكو، وأكد لهم أنه يستحق الشكر على توفيره الباخرة لإعانتهم على دينهم، ونصحهم بأن ينشروا الخبر بين المسلمين في الحجاز.
وتم تعيين الشيخ مربيه ربه رئيسا لوفد الحجيج، أما الإمامة فتولاها محمد التجكاني فقيه الجامع الكبير في تطوان، وأسندت وظيفة القضاء في الباخرة لعبد السلام ابن أحمد القموري المعروف بأزطوط، كان قاضيا بالعرائش، مع عدلين، هما علي الريفي الكاتب في مراقبة القصر، وعبد السلام العلوي التطواني، بينما نصب القائد محمد بن عمرو أوشن السعيدي حاكما للوفد.
انطلقت الباخرة من سبتة يوم الأحد 17 ذي القعدة 1357 (8 يناير 1939) وعلى متنها أزيد من ألف حاج.
في صبيحة يوم الأربعاء 20 ذي القعدة، رست الباخرة بمرسى طرابلس الليبي، حيث ستقضي ثلاثة أيام. فأظهر أهل طرابلس الفرح بالحجاج، وتلقوهم بالسفن والزوارق ليركب من أحب الهبوط إلى المدينة بالمجان، ولم يأخذوا أجرة على ذلك إكراما للحجاج وترحيبا بهم.
وفي الساعات الأولى من يوم الأربعاء 27 ذي القعدة، حلت الباخرة بمدينة السويس المصرية، وفي الصباح، قام الأمير المولى الحسن بن المولى المهدي الخليفة السلطاني بمنطقة الحماية الإسبانية، رفقة وفد هام يضم عددا من الطلبة والمقيمين بمصر بزيارة الحجاج والاطمئنان عليهم والترحيب بهم.
يوم الجمعة 29 ذي القعدة وصلوا إلى ميناء جدة، ومنها توجهوا إلى مكة المكرمة، وبعد أداء مناسك الحج زاروا المدينة المنورة.
ويوم 29 ذي الحجة، التحقوا بالباخرة لترجعهم إلى المغرب. فحلوا يوم الأحد 13 محرم 1358 بمدينة مليلية، ورست في مينائها لأجل نزول حجاج الريف الشرقي. وكان وصولها بمثابة عيد، لما أظهره سكان المدينة من الابتهاج، ومظاهر الفرح بالعودة الآمنة للحجاج، فغص الميناء بالمستقبلين من أقارب الحجاج، وزين بالرايات، والفرق الغنائية الفولكلوية، وتم استقبال السفينة من طرف أعيان المدينة العسكرية والمدنية، واستعراض عسكري، وحفل كبير بحضور رجال السلطة المغاربة والإسبان.
أقبل الحجاج الريفيون على الشيخ مربيه ربه رئيس بعثة الحج، فودعوه وودعوا رفاقهم الحجاج الآخرين، وغادروا الباخرة ليلتحقوا بأهلهم الذين كانوا في انتظارهم بالميناء.
بعد ذلك، واصلت الباخرة سيرها متجهة نحو سبتة، ووصلوها يوم الأحد 15 محرم عام 1357.
رسالة الحاج العوفي
نشر الأستاذ عبد الحق العوفي في كتابه “آل العوفي” رسالة كتبها الحاج السي محمد بن الطاهر إلى أخيه السي عبد السلام، على ظهر الباخرة، حين وصولها إلى طرابلس، يحدثه فيها عن أحواله، ويصف فيها الباخرة التي أبهرت الحجاج بتجهيزاتها وفخامتها. تعد الرسالة وثيقة ثمينة، لما تتضمنه من معلومات عن الباخرة والرحلة، وشروط الراحة فيها، ولما يقطر به الخطاب من عبارات أنيقة وأدب رفيع، وأخلاق سامية للحاج السي محمد العوفي، ومدى التقدير الذي تحظى به قرابة الأخوة، والاحترام المتبادل بين الإخوة، والمحبة العظيمة الرابطة بينهما، وبين سائر أفراد العائلة. وفي ما يلي نص الرسالة:
الحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد الفاتح لما أغلق.
دامت سعادة أخينا الأرضى الأعز الأحضى الفقيه الأجل العلامة المبجل المحترم، سيدي عبد السلام، نجل والدنا البار سيدي محمد العوفي أمنكم الله ورعاكم، وسلام تام على (فخامتكم) ورحمة الله، وبعد.
فليكن في شريف علم سيادتكم أننا بخير وعافية ونعمة شاملة، لله الحمد في البدء والافتتاح، ولا يخصنا إلا مسامرتكم والأهل والاجتماع بسيادتكم، وسيكون ذلك عن قريب إن شاء الله، ونخبركم عن حالنا، وحال جميع الحجاج، (..) فالكل بخير وعافية، فقد بلغنا ما كنا تمنيناه، وضفرنا بما نحبه ونرضاه، ولقد وجدنا الباخرة الجميلة التي لم يسبق لها نضير في جميع الأزمان والأوقات، محتوية على محلات رائعة، وفرش مرتفعة، ومأكول غاية، ومشروب نهاية، وخدمتهم هايلة ومساجد شتى، وكل ما يخطر ببال الإنسان فهو موجود فيها، حتى يحسب الإنسان أنه في مدينة كبيرة، وخدامها يقابلوننا بخدمة مقابلة الملوك، ولقد سارت وقلعت بنا سير رشد واهتداء من مدينة سبتة ليلة الأحد عند الساعة الثانية وعشر دقائق بعد أن ودعنا سعادة المقيم العام، ونائب الأمور الوطنية، وجميع الوزراء والحكام، وذلك ما حل عند الساعة الثامنة ليلة المذكورة، وأشرفنا على مدينة مليلية في اليوم المذكور عند الساعة الحادية عشر وخمسة عشر دقائق، ووصلنا قبالة وهران ليلة الاثنين عند الساعة السابعة، وللجزائر عند الساعة الرابعة ونصف ليلة الثلاثاء، ولتونس عند الساعة العاشرة ونصف نهار يوم المذكور، ونزلنا بمدينة اطرابلس في صبيحة يوم الأربعاء عند الساعة 6 ونصف، وترسي وتقيم الباخرة فيها نحو ثلاثة أيام.
وسلامنا يشمل أهلنا من والدنا المحترم، وإخواننا السيد محمد والسيد عبد الرحمان، وصهرنا محمد علال، وأخيه قدور السيد علال، (..) وجميع الأحبة، طالبا من شيم أخلاقكم صالح الأدعية، ودمتم بخير وعافية، والسلام. وفي صبيحة يوم الأربعاء 20 قعدة عام 1357 موافق سنة 1939. كما نسلم على الجميع (..) محمد صالح، والفقيه السيد سليمان، والسلام.
كما تصلكم أيضا صورة الباخرة الجميلة، وصورتنا كذلك لا بأس أن ينظرها كل الأهل، كما يسلم عليكم صهرنا الحاج السي محمد سلاما.
أخوكم محمد الصغير لطف الله به
الزبير مهداد