عندما عَادَ من مِيلانو كانت ذَاكرتُه لا تزال تَختزن تلك المشاهد التي عَبَرتْ إلى وجدانه مباشرة وأرضتْ ذائقته الفَنِّية ونزعتْ بها نحو رِحاب الجمال وسحر الإبداع الانساني في أروع تجلياته، وحَقَّقتْ له درجة قُصوى من الاسْتِمتاع بِجَماليات يَعزُّ وُجُودَ مَثيلٍ لها في هذا الزَّمن الذي تلوّثَ بالغُبار والإسْمنتِ واعْتَرتْه مَثالب القُبح والسوداوية، لقد وقف مُتهيِّبا أمام لوحة العشاء الأخير الجِدَاريّة لليوناردُو دافنشِي بِدِير سانتا مَاريّا، يتأمل تعبيرات وجوه المسيح وحوارييه الاثني عشر، وجوه كان بعضها كان يحمل ملامح بريئة كَوَجْه يُوحنا، ووجوه البعض الأَخر كانت ترتسمُ عليها علامات الغدرِ كَوجه يهوذَا الإسخريوطي خائن يسوع، الذي باعه لبيلاطس البَنطي الحاكم الروماني، وكان سببا في صلبه(أو من يشبهه) بالقدس، وعندما غادر الدير كانت أصداءُ المَاضي تَحُفُّ خُطاه وروحه تحلّق في رحابه متماهية مع عِبقِه الذي كان يتنسَّمه في الهواء، فتسري في جسده رعشة انتشاء وشعور بالسعادة، ظلت ترافقه حتى وَجدَ نفسه أمام تمثال ليوناردو دافينشي الشامخ مُحاطا بتلاميذه الأربعة يتوسّط ساحة ديلا سكالا ، وجموع الزوار الحاضرين مأخوذين مثله بجمالية المنظر الذي يسافر بهم إلى الثُّلث الأخير من القرن التاسع عشر عندما أزاح ملك إيطاليا فِيتُوريو إيمانويل الثاني سِتار تدشين هذه التحفة الفنية، تكريما لدافينشي عبقريِّ عصر النهضة الذي جاء لِيطوي صفحة العصور الوسطى المُظلمة، ويفسح المجال لإحياء الفكر الكلاسيكيِّ للإغريق والرومان، وترسيخ مفاهيم جديدة مثل الانسانية والإصلاح الديني والواقعية في الفن، كل هذا مرّ بخاطره وهو يجلس على واحد من المقاعد الرُّخامية المنتشرة في محيط الصرح السَّامق الذي يَحتضن التمثال، تساءَل :” هل حقا عُمْرُ هذه التُّحفة قرن ونصف، وكيف تَأتَّى لها أنْ تصمد أمام عوادي الزمن وتقلّبات الطبيعة؟ ” تَذكَّر فجأة عملية تدمير تماثيل بوذا بوادي باميان بأفغانستان بمعاول ومتفجرات طالبان، ماذا كان يَحُلُّ بتمثال دافينشي لو كان الحل والعقد بيد المُلّا عمر؟ تَجاوز هذه الفكرة ، وقام من مكانه وأجنحة الأفكار المُتهاطلةِ على دماغه تُحلِّق به بين الأَزمنة المُتَواترة ومواطن الخيال الخلّاقِ، قادته قدماه إلى 1824 MARCHESI PASTICCERIA لتناول وجبةِ إفطار بصالون الشاي بالطابق العلوي، مستمتعا بعبق القرن الثامن عشر الميلادي . ومُتِلذّذا بوجبة تقليدية إيطالية أصيلة، بدا له العالم بشكل مختلف وأحس بأنه يتجاوز ثقل السنين واحباطات الأيام الماضية، اتصل بزوجته وأخبرها بأنه قادم في اليوم الموالي ، وأنه كان يتمنى حضورها معه، وردَّت عليه بأنّ ظروف عملها حَرمتْها من مُتْعة الوُجود صُحبته ولقاء ابْنهما المقيم بمدينة “كومو” صُحبة زوجته، أنهى المكالمة ثم غادر المكانَ.
دفعَ به خَطْوُه التَّائه نحو غاليري فِيتوريو إيمانويل الثاني، المُركّبُ التِّجِاريّ الضَّارب في عُمق التّاريخِ، حيث يحضر التَّرفُ المِعْمَارِيّ الذي يجمع بين الثقافة والفنّ والتسوّق، وفخَامة القَرن التّاسع عشر بِجماليّة مَبانيه وروعة معالمه الحضارية، فَكّرَ” أن حِكمة الحياة تقتضي أن نعيشَ لحظاتها بشكل يرضي ذَائقتنا ويُحَقّق لنا مُتعة الرُّوح والجَسد في آن واحد ما دمنا مُقبلين ذَات يوم نجهله على تَجربة الموت التي تَعْنِي الفناء المادِّي، ونهاية الحياة بما لها وعليها، وليس أمامنا سوى انتظار النُّشّور ” تَوقّف فَجْأَة عَن التَّفكير و هو يَجد الزّوار مُجتمعين حول فُسَيْفساء الثَّور يُمارسون طُقوس جَلْبِ الحَظّ، اِنْدفع نَحوهم بِجرأة لم يتعوّد عليها من قبل وهو يَرطُن باللغة الفرنسية :”اِسمحوا لعمكم عيسى بأن يجرب حظه ” ،أَفْسَحُوا له الطَّريق فَوضَع قدميه على خِصْيَتي الثَّور ودار حول نفسه ثلاثاً، و تمنّى الصِّحة والعافية وسِعة الرّزق لِنَفْسه ولأسْرته، ولَعَنَ المُلّا عمر وبن لادن والزّرقاوي والبَغدادي و بن بطوش، ثم أخلى المكان لغيره، كان وجهه يستقبل بَياض الأشِعّة المُتسربة من السقف الزجاجي فَيُطْبِق عينيه ويَتَحوّل لون البياض إلى اِحمرار طَيْفي ، وتَغمره موجة مُتصاعدة من الأحاسيس مُطوِّقة رُوحه بِفرح لذيذ يَتجاوز المَعقول، وتَراءى له العالم غريبا ،مثيرا وحافلا بأسرار كونية تـأخذه نَحو زمن راقصٍ ومتحَرِّك يَتأرجَح بين الماضي والحاضر، تذكّر فجأة أمّه التي رحلتْ ذات مساء شَاحبٍ، كانت دائما تُربِّتُ على كتِفه وتقول بصوت عذب:” ابتسمْ يا ولدي للدنيا تبتسمُ لك” ،كانتْ متفائلة حتى في لحظات مرضِها، وتُحاول أن تُشعرَ منْ حولها أنّ الحياة يجب أن تُعاش حتى أخر رمق ، عَبرَ الذكرى وتجاوزها، ثم غادر المكان.
اختار أن يقضي ليلته الأخيرة بميلانو بفندق صغير غير مصنّف وسط المدينة، أصرّ ابنه أن يدفع ثمن الإقامة به أيضا رغم تكلّفه بتذكرة الطائرة ومصاريف الرحلة التي امتدت أسبوعا، قال لاِبنه وهو يُعانقه مودِّعا :” يبدو أن رضى الوالدين قد استنزف ميزانيتك أيّها الابن البارّ” ضحكَ الاِبنُ ومعه زوجته وقال: ” رضى الله من رضى الوالدين، الله يَسْمَحْ لِينَا منكم أَسِّي عِيسى”.
كان الفندق قريبا من ساحة لويجي دي سافويا، وقد تَعمَّد اختياره، حتى يستطيع أن يستقل الباص الذي سينقله لمطار “ميلانو بيرغامو” في فجر اليوم الموالي ، للعودة إلى بلده.
في تلك الليلة حلمَ بأشياء جميلة ورأَى صُورا متداخِلة تربط بين الماضي والحاضرِ، رأى وَجْهَ وَالدِه وَضِيئا و هو يُخاطبه بِصوت تَشُوبه نبرةُ حنان : “أنت ولد بارٌّ، ولم يخبْ قط ظنِّي بكَ”، تلاشتْ صورة والده لِتحلَّ مَحلّها صُورةُ زوجته في فترة شبابهما مَدّتْ له يدها ثم اِنْطلقَا نحو الأفق كانت هناك الشمس بلون أرجواني تُعانق البحر ، وكانتْ هناك أيضا نَوارس بيضَاء تحلّقُ في اِتجاهات متباينةٍ، قالت له: أنه الحَبيب الأوّل والأخِر ولن تستقيمَ الحَياة دونَ وجُوده، تغيرت الصُّورة فجأة ووجد نفسه يَمتطي زورقا مطَّاطيا بِمحرك دِيزل وهو يخوض عُباب البحر.
استيقظ على صوت منبّه هاتفه الذكي معلنا بأن ساعة الرحيل قَد أزفت. تَوضّأ وصَلّى، ثم اِرتدى بدلته وحرص على وضع ربطَة عنق جديدة اَهدتها لهُ زوجة ابنه، ووقف ردحا من الوقت أمام المرآة لتسوية قُبعته الأُوربية على رأسه، ولم ينْس رش بعض العطر على ثيابه قبل أن يغادر غرفة الفندق وهو يَجرّ حقيبته.
كان غبش الليل يخيم على أجواء المدينة، وقد خالط بياض الفجر بقية ظلمته،
وكانت أضواء مصابيح النِّيون تبدو شاحبة وهي تختلط بالضَّباب المُنتشر، أحسَّ بهواء رطب يلفحُ وجهه وهو يتجه نحو موقف الباصات، وفيما هو يَسُتحثُ الخطى شعر بيد تُربت على كتفهِ التفتَ، وجد نفسه أمام كهلٍ بلحية كثَّضة ولباسٍ مُهملٍ، كانت ملامحه تشي بأنه ينتمي إلى المنطقة المغاربية، وهو في حالة سكر طافح، كان يَرطن بلغة إيطالية تُخالطها لغة عربية دارجة، طلب منه سيجارة فاعتذر له، وأخبره أنه لا يدخن، مضى الكهل إلى حال سبيله وهو يترنح، وتابع سيره، ليست المرة التي يصادف فيها مثل هذه الحالات فهي كثيرة ومتعددة، كثيرون هم الذين دخلوا بلاد “الطاليان” بعقود شرعية، وكثيرون أيضا الذين دَخلُوها راكبين موجَ البحر وعبابه، كلهم كانوا يلهثون خلف الحلم الإيطالي الذي تحول فجأة إلى كابوس بالنسبة للبعض، فصارت الشوارع والساحات وأبواب الكنائس مأوى لهم، يَعِيشون دون أوراقٍ ثبوتية بلا غاية أو هدف.
عندما ركب الباص كان لا يزال تحت وقع مشهد الكهل المتشرد، الذي يبدو أنه ترك خلفه أُسْرة تنَتظره واِختار الضِّياع في بلاد الفِرنجة، اِختلطت الأفكار برأسه، ومرّت بِخاطره قولة الكاتب الايطالي ألبرتو مورافيا:
“إن كل الناس دون استثناء يستحقون الشفقة إن لم يكن لشيء إلا لأنّهُم أحياء”.
“كلنا في حاجة للشفقة لأننا أحياء، فمن يُشفق عَلى منْ في هذا العالم التي تختلط فيه المفاهيم؟! ربما الأمْوات الذين نلجأ لأضرحتهم أحيانا للتفريج عن انفسنا وتفريغ الهموم الجاثمة على صدورنا” هكذا فكّر، ثم حَمْدلَ وحوْقلَ.
في الطّائرة أخد مكانه بجانب شابّ في عمر ابِنه، تبادل معه التحية ثم أنتظر اقلاع الطائرة ليَستسلم لسُلطان النّوم، عندما أفاقَ مِنْ غفوته اِنتبه إلى أنّ الوقت المُتبقِّي للوصول إلى مطار محمد الخامس هو في حدود السّاعة والنصف،
الوداع الطُّقوسي الذي عاشه هذا الفجر بميلانو ترك في نفسه شعورا مؤثرا لأن الكهل المدمن على الكحول الذي قابله هذا الصّباح ذَكَّره بشقيقه الذي كان يعيش بجزيرة صقلية، بدأ حياته مَيسورَ الحال يَكسب أموالًا طائلة لكنه سقط في المحظور وتعامل مع عصابات المافيا التي تنشط بالجزيرة ، وما لبث أن غرق بين براثين الإدمان، أدمن شرب الكحول واستهلاك الكوكايين، ثم انتهى به الأمر نزيلا بأحد المراكز المتكفلة بالمدمنين ، وفي ليلة باردة خرج يبحث عن نفسه ويحاول إعادة ترتيب أورقه، لكنه عبر إلى العالم الأخر ، واُكتشفتْ جثته جامدة على مقعد جرانيتي في صباح اليوم الموالي.
توارت هذه الذكرى وتلاشت وعيناه تحتضنان كتل السحاب المتسارعة عبر نافذةِ الطائرة سَابحةً في السماء اللَّازُو رْديّة اللون، يُمكنه الأن أن يهنأ بلحظة سكينة ولا يَهُم ما ستحمله الأيام القادمة من أحْداثٍ ووقائع، فَدوْرَةُ الزَّمن ثاَبِتَةٌ ولا شيء يُمكنه أن يُبدِّل في مَسَارِها لأن الحَياة مبنية على التِّكرار رغْم التَّفاصِيل البَلهاءِ التِّي تَبْقَى مُجَرّد تَحْصِيل حَاصل، مَادامتْ النَّتِيجةُ واحدة والسِّياق بِكُلّ دلالاته يَنْتَهِي إلى نُقطة نِهَاية لَا مَحِيد عَنْها.
محمد محضار
نص ماتع يشد القارئ منذ السطر الأول حتى الختم، حضور قوي للذات الساردة وتوظيف مميز لتقنيات السرد، ما راقني في النص هو الوصف الدقيق والتخييل الذاتي الذي يجعل المتلقي يعيش مع الشخصية الرئيسية في النص رحلة وسفرا في أجواء التاريخ الأروبي.