أولا: المالكية وقاعدة التحكيم الأخلاقي للواقع المتكرر
إن المنهج المنهج الذي اعتمده الفقهاء وخاصة الإمام مالك بن أنس الأصبحي في تخليص إشكالية أقصى مدة الحمل قد يتخطى كل الاعتبارات النظرية المؤسسة على الاحتمال والفرضية ،وذلك بانتقاله إلى تحكيم الواقع والتجربة مع اعتبار تكرارها ،وهو مأخوذ من البيئة المشتهرة به في منطقة دون أخرى ،وقد يضاف إليها استئناسا بعض الأحداث أو الوقائع المتفرقة عبر أماكن أخرى والتي قد تعتبر في حكم الناذر .
إذن فالظاهرة ثابتة ومتكررة وهي موجودة وقارة ،والحكم للوجود كما هي القاعدة الفقهية في التطابق بين النص والواقع أو الوجود عند أقل مدة الحمل، وحيث أن النص في أكثرها غير وارد فيكون الوجود مفسرا للنص المجمل ومبينا لأبعاده بسبب استقراره “ما فرطنا في الكتاب من شيء ” .
لكن الواقع والتجربة وتكرار حدوثها لا يمكن تحكيمها بمجرد دعوى الوقوع أو سماعها من بعيد ،وخاصة في باب النسب وضبطه ،وإنما سيبني الإمام مالك مذهبه فيه على قاعدتين رئيسيتين وهما :المجاورة بالمعاينة ،والصدق المترسخ بالمعاملة،كما تدل عليه رواية الدارقطني عن مالك أنه كان يقول:”هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة،كل بطن في أربع سنين”.
فهذه الواقعة تعطي للمرأة الأولوية في التصديق ثم بعدها الرجل،لأنها هي المستأمنة على النسب كما سبق وبينا، ومن ثم فإن أهم قاعدة في حفظه وحمايته هي :الصدق والأمانة،وهما من أخلاق الأنبياء في تبليغ رسالات الله تعالى وأعظم برهان وحجة احتج بها النبي صلى الله عليه وسلم كما بينا في كتاب “التجديد في دراسة علم التوحيد”وذلك حينما ألزم كفار قريش بدعوته وصدقه في معاملتهم بالتكرار والثبات فقالوا:” ما جربنا عليك كذبا”و “ما جربنا عليك إلا صدقا” .
فهذا المبدأ هو الذي يحدد لنا خصوصية النسب في الإسلام وقيمة المرأة فيه ،كما أن أداته في الإثبات تعد أرقى من كل الوسائل الطبية أو التحليلات المختبرية والآثارية، وكذلك الضوابط الظاهرية المؤسسة على مجرد المتابعة السطحية .
فليس المهم عندنا في هذه المسألة هو المدة؛ سواء اعتبرت أربع سنين أو خس أو ستين… إلخ، إذ الخطأ في تقدير هذه المدة ليس من اختصاص الفقهاء على مستوى تتبع الجزئيات وأحوال الحوامل والتمييز بين الأمراض والأعراض لكن للأطباء والدارسين دورهم بالتفحص والعناية الميدانية والتجريبية للموضوع،رغم أن الأحكام الطبية بدورها قد تعرف تأرجحا بسبب الطوارئ والاستثناءات الحادثة عبر الزمان والمكان؛والتي لا يمكن ضبطها كلية كما مر بنا سوى باللجوء إلى الحكم العادي.
غير أن الذي يختص به الفقيه هو هذا النفس الذي يتركه لموضوع النسب حتى لا يضيع بين افتراءات المدعين له بغير حق وبين المقيدين بالقطع لأقصى مدة الحمل بغير علم،خاصة حينما يغلب الجانب الأخلاقي والتربوي وبالدرجة الأولى العقدي على الجانب الطبي ،فتصبح الأحكام جاهزة والشبهات قائمة بدعوى العلمانية والموضوعية والتجربة غير المضبوطة .
من هنا كان لزاما أن تتعاضد فتوى الفقيه مع رأي الطبيب المختص في الحفاظ على صدق النسب حتى يكتمل الحكم،ويصبح الوجود محكما بجلاء في المسألة وخاصة في تحديد أقصى مدة الحمل ،إذ كما يقول بدران أبو العينين بدران:”تلك آراء الفقهاء في أقصى مدة الحمل ،وبعض أدلتهم إذا تأملناها نجد أنها من الضعف بمكان ،لأن أكثرها مبني على وقائع جزئية لا تقوى على إثبات تقدير صحيح مستقر لمدة أقصى الحمل ،كما أنها لا تسلم من الخطأ،فغاية ما تفيده أن حيض بعض النساء قد انقطع لمدة أربع سنوات ثم جاءت المرأة بعدها بولد،وهذه الإفادة لا تثبت قطعا أن المرأة كانت حاملا طول مدة انقطاع الحيض ،فإنه ليس من المستبعد بل من الجائز أن يكون قد امتد الطهر بالمرأة سنتين أو أكثر ثم بعد ذلك حملت وولدت لأقل من سنتين ،وذلك يحدث لكثير من النساء ،فإن زعموا أن وجود حركة في بطن المرأة لا يكون قاطعا في كون المرأة حاملا لجواز أن يكون ذلك ناشئا عن غير الولد”.
هذا الموقف الذي يشكك في المدة التي اعتمدت في بعض المذاهب ومن بينها المذهب المالكي قد يعتمد الافتراض والاحتمال واستعمال الظن لا غير ،خاصة وان أقصى مدة الحمل قد يلجأ إليها للضبط عند غياب الزوج إما بطلاق أو وفاة أو سفر وما إلى ذلك.
من ثم فإذا أقرت المرأة بأن زوجها لم يطأها منذ طلاقها أو وفاته أو غيابه في سفر أو غيره فذلك الإقرار يكون حجة بالنسبة إليها ،ولهذا فلا يمكن الادعاء بأن الحركة بالبطن لم تكن حملا بمجرد تحكيم العادي من الملاحظة ،خاصة وأن الحمل قد يبتدئ منذ الأشهر الأولى ويظهر في حدود الثلاثة أشهر فما فوق ؛كما قد يكتمل عند الستة أشهر وله أعراض ومظاهر تدركها المرأة ابتداء ،في حين قد يدركها عنها زوجها أو النساء المحيطات بها وذوات التجربة في الحمل والولادة ،وهذا مصدر للحكم قد يكون أكثر من حكم الطبيب وتحليلاته النظرية للظاهرة.
ثانيا: أقصى مدة الحمل بين الظواهر العرضية والاعتبارات الطبية
نعم! قد تحدث بعض الأعراض المتعلقة بالدورة الشهرية أو المحيض من حيث الحضور أو الغياب ،فهناك ما يعرف بعسر الطمث وكثرته وغيابه ،وهذا الأخير هو الذي يمكن أن يدلي به كممهد للبحث في المسألة لتبيين صدقها من عدمه ،لكنه غير كاف كما قلنا
إذ للحمل أعراض وضوابط علمية وتجريبية قد يدركها العامي قبل العالم والمريض قبل الطبيب ،ومن ثم فتكون واقعا لا مفر منه يحتاج إلى زيادة في دراسة الوجود وأسراره ،وهذا ما يعود للإقرار به بدران أبو العينين كاعتراف بالواقع ،ولكن بما كان في الماضي لاما يمكن أن يطرأ في الحاضر،بحيث يقول:
“وإن الناظر الفاحص يلحظ أن الأقوال في المسألة قد بنيت التقديرات فيها على مسائل واقعية ،ولكن الواقع الحاضر لا يؤكد قولا منها،فإن الغالب أن مدة الحمل هي التسعة أشهر وجرت العادة بذلك،وقلما أن نسمع أن امرأة ولدت لسنة أو لستة أشهر،ومن هنا لجأت وزارة العدل في مصر إلى أولاد غير شرعيين اعتمادا على ما قرره فقهاء الحنفية من تقدير أقصى مدة سنتين ،فقرر الطبيب أن أقصى مدة الحمل سنة شمسية 365يوما،وذلك يشمل جميع الحالات النادرة ولا شك أنه حكم لا يتجافى مع الشريعة الإسلامية كما هو مأخوذ من قواعدها وعلى وفق مبادئها المقررة ،التي منها أن معرفة حكم الوقائع على وجهها الصحيح يرجع فيه إلى قول أهل المعرفة والنظر ،والحق أن الأطباء الأخصائيين هم أهل البصر والمعرفة ،فيجب الرجوع إلى قولهم في ذلك” .
فهذه المدة نفسها قد تعتبر استثنائية نادرة بالنسبة إلى العادية،ومن ثم فليس بالضرورة أن تصبح قطعية ،خاصة وأنه إذا أمكن زيادة مدة ولو يسيرة على العادية في داخل السنة فإنه لا مانع عقلا أو وجودا أن يزيد الحمل على مدة ما فوق السنة بحسب قاعدة الاستثناء وبحسب الاعتراف بأن المدد الأخرى المقررة عند الفقهاء كانت واقعية فيما مضى فلماذا لا تكون كذلك في الحاضر والله تعالى يقول:”يزيد في الخلق ما يشاء” “وكل شيء عنده بمقدار” .
فتبقى المدة المتفق عليها حاضرا مرجعية في ضبط الحمل الذي يمكن اعتباره ما بعد الاستثنائي،أي استثناء الاستثناء نفسه حتى لا يضيع نسب الجنين وتعرض المرأة للطعن أو القذف، خاصة حينما تتحقق فيها المواصفات الأخلاقية التي اعتمدها الإمام مالك في إثبات الحمل لأربع سنوات ألا وهي قاعدتي:الصدق والأمانة.
إضافة إلى هذا فإن دعوى بدران أبو العينين بأن”الواقع الحاضر لا يؤيد قولا منها “تدخل في إطار الاستقراء الناقص ،إذ من يدري أن يكون قد وقع في بعض المناطق من العالم ولم يدر به ،كما أن الإسلام جاء رسالة للعالمين وليس مقصورا على منطقة دون أخرى ،ومن ثم فلا يستبعد أن تكون ظاهرة زيادة طول مدة الحمل على المعتاد موجودة في منطقة معينة كما وقع لبني عجلان وكما يقع بالنسبة إلى أوزان المواليد واختلافها ما بين منطقة وأخرى !
مع هذا الاعتراض فالوقوف عند مدة سنة يبقى أولى لأنها الأقرب إلى المعتاد و الأكثر احتمالا للتكرر المتقارب الحدوث، وهذا ما ذهب إليه المصريون وتبعهم تقليدا المغاربة في مدونة الأحوال الشخصية ماضيا .
بحيث يرى المشرع المصري في المذكرة الإيضاحية لقانون رقم 25لسنة1929 أنه “لما كان رأي الفقهاء في ثبوت النسب مبنيا على رأيهم في أقصى مدة الحمل ولم يبن أغلبهم رأيه في ذلك إلا على أخبار بعض النساء بأن الحمل مكث كذا سنين ،والبعض الآخر كأبي حنيفة بنى رأيه على أثر ورد عن السيدة عائشة يتضمن أن أقصى مدة الحمل سنتان وليس في أقصى مدة الحمل كتاب ولا سنة لم نر مانعا يرى أنه عند التشريع يعتبر أقصى مدة الحمل 365يوما ،حتى يشمل جميع الأحوال الناذرة “وتقول المادة الخامسة عشر من هذا القانون :”لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها ولا لولد المطلقة والمتوفى عنها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة “.
فهذا الحكم قد أخذت به المدونة المغربية سابقا مع وضع ضوابط عند انتهاء السنة كما في الفصل 76:”أقصى أمد الحمل سنة من تاريخ الطلاق أو الوفاة ،فإذا انقضت السنة وبقيت الريبة في الحمل رفع من يهمه الأمر إلى القاضي ليستعين ببعض الخبراء من الأطباء على التوصل إلى الحل الذي يفضي إلى الحكم بانتهاء العدة أو امتدادها إلى أجل يراه الأطباء ضروريا لمعرفة ما في البطن هل علة أم حمل؟”.
لكن ملاحظتنا تبقى حول هذا الإجراء مرتبطة بنوع السنة التي تقررت في اعتبار الحمل،وعند هذا كان من الممكن أن يشترك في الوعي بها كلا الطرفين وهما: الفقهاء والأطباء ،إذ الأولون يؤرخون بالأشهر القمرية كما أن الآخرين يدركون جيدا وجه العلاقة الحسابية بين الدورة الشهرية عند المرأة والدورة القمرية طبيا وعلميا، فكان من الأولى اعتبار السنة القمرية كما ذهب إلى ذلك محمد بن عبد الحكم المالكي بدل الأخذ بالسنة الشمسية التي تبدو بعيدة عن هذه المناسبة القمرية في تتبع حساب أشهر الحمل،وهذه مسألة مطروحة للنظر والتوافق إن روجعت بموضوعية وقصد سليم.
د.محمد بنيعيش
أستاذ العقيدة وفقه الأسرة
وجدة، المغرب