فاز أربعة باحثين مغاربة بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، من أصل عشرة فائزين توجوا بالجائزة في دورتها الجديدة، التي حملت اسم الباحث السوري الراحل قاسم وهب. ونال ثلاثة مغاربة هذه الجائزة المرموقة، في صنف الدراسات، وهي الجائزة التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي “ارتياد الآفاق”، الذي يوجد مقره في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وفي العاصمة البريطانية لندن، ويديره الشاعر نوري الجراح، ويرعاه الشاعر محمد أحمد السويدي.
في فرع الرحلة المحققة، كانت الجائزة، في دورتها التاسعة عشرة، من نصيب كل من الباحث اليمني د. محمد عبده مسعد عياش، محقق “حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر (سيرة الحبشة)” للحسن بن أحـمد بن صلاح اليوسفي الحيمي من القرن الثامن عشر، والباحث السوري إبراهيم الجبين، محقق “الرحلة الأوروبية” التي قام بها مابين 1911-1912 فخري البارودي.. من دمشق إلى روما، باریس، میونیخ، فیینا، بلغراد، بودابست، صوفیا، استانبول”،، والباحث الإماراتي سلطان العميمي، محقق “الرحلة الشابورية.. من ميناء عربستان إلى أبو ظبي” في 1936، لللشار الكويتي زين العابدين بن حسن باقر.
وفي فرع “الرحلة المعاصرة”، أو (سندباد الجديد)، حظيت بالجائزة الروائية المصرية منصورة عز الدين عن رحلتها “خطوات في شنغهاي.. في معنى المسافة بين القاهرة والصين”. أما في فرع “اليوميات”، فكانت الجائزة من نصيب الشاعر والباحث الاكاديمي اللبناني شربل داغر عن يوميته التي حملت عنوان “الخروج من العائلة”.
تشكلت لجنة التحكيم من الأساتذة النقاد والاكاديميين والأدباء الطائع الحداوي، خلدون الشمعة ، عبد الرحمن بسيسو، أحمد برقاوي وعواد علي أعضاء، والأستاذ مفيد نجم منسقا.
بينما بلغ عدد المخطوطات المشاركة هذا العام 56 مخطوطة، تمثل عشرة بلدان عربية، توزعت على (الرحلة المعاصرة)، و”المخطوطات المحققة”، و(أدب اليوميات)، و(الرحلة المترجمة)، و(الدراسات). وكالعادة نُزِعَتْ أسماءُ المشاركين من المخطوطات قبل تسليمها لأعضاء لجنة التحكيم لدواعي السريّة وسلامة الأداء. وجرت تصفية أولى تم بموجبها استبعاد الأعمال التي لم تستجب للشروط العلمية المنصوص عليها بالنسبة إلى التحقيق والدراسة، أو ما غاب عنها المستوى بالنسبة إلى الجائزة التي يمنحها المركز للأعمال المعاصرة. وفي التصفية الثانية بلغ عدد المخطوطات 22 مخطوطا.
الشاعر نوري الجراح مدير عام “المركز العربي للأدب الجغرافي” والمشرف على الجائزة استهل الحديث عن الحدث بالإشارة إلى أن من بين خصوصيات هذه الدورة واختلافها عن سائر الدورات السابقة كونها جرى التحضير لها في ظل ظروف عربية وعالمية غير مسبوقة ألزمت البشر بالخضوع القسري لتغييرات كبيرة في نمط العيش، وطرائق التواصل انتقل معها العمل من المكاتب إلى البيوت في ظل حالة من التباعد لم يسبق للبشر أن اختبروها في العصر الحديث.
يذكر أن الأعمال المتسابقة هذا العام تميزت بوفرة المخطوطات التي تنتمي إلى فرع الدراسات وتعدد مستوياتها وموضوعاتها ومناهجها، إلى جانب اتساع نطاق الأعمال التي تنتمي إلى الرحلة المعاصرة، وهو ما حض لجنة التحكيم على اختيار أكثر من عمل في هذين الفرعين للتنويه بقيمته ونشره على جانب الأعمال الفائزة ومن ضمن منشورات الجائزة.
وقد نوه الشاعر نوري الجراح بالقيمة الاستثنائية لأولى الدراسات التي حازت على الجائزة هذا العام تحت عنوان “الرحلةُ نَسَقُ أنساقٍ: مقاربات تاريخانية وإبستيمولوجية” للباحث المغربي بوسيف واسطي واعتبرها عملا بحثيا ضخما، وغير مسبوق. وكذلك بالترجمة الرائعة التي قدمها عبد الكريم جرادات لـ”هدايةُ السبيل وكفايةُ الدليل” التي وضعها في الفارسية مراد ميرزا “حسام السلطنة” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لكونها واحدة من أهم رحلات الحج التي وُضعت في العصر القاجاري ولها مسار طويل عابر لثلاث قارات. وأشار إلى فرادة أعمال التحقيق هذا العام، بدءاً بمخطوطة “حديقة النظر وبهجة الفكر في عجائب السفر” المشهورة بـ”سيرة الحبشة” للحسن بن أحـمد بن صلاح اليوسفي الحيمي، وحققها اليمني د. محمد عبده مسعد عياش، مروراً بالتحقيق القيم الذي قام به الكاتب الروائي والباحث ابراهيم الجبين المتمثل في “الرحلة الأوروبية” وهو عمل يستعيد الشخصية النهضوية السورية البارزة والزعيم الدمشقي فخري البارودي في رحلته من دمشق فباريس ثم ميونيخ وصوفيا واستانبول، وصولاً إلى “الرحلة الشابورية” وهو ثالث النصوص المحققة الفائزة وعبارة عن تحقيق لنص رحلي شعري وضعه الشاعر الكويتي زين العابدين بن حسن باقر يؤرخ فيه لرحلة قام بها من عربستان إلى أبو ظبي سنة 1936. ويكشف النص والدراسة عن وقائع وأحداث مهمة تنتمي إلى ما قبل قيام دولة الاتحاد. وإلى جانب هذه الأعمال هناك دراستان واحدة تتناول مصر في القرن التاسع عشر من خلال نصوص الرحالة المغاربة إلى مصر، والثانية تدرس الرحلة العربية المعاصرة من منظور ما بعد كولونيالي. وأخيراً وقائع رحلة إلى شانغهاي بقلم الروائية المصرية منصورة عز الدين، ويوميات الشاعر والأديب اللبناني شربل داغر التي يطوف بها على جملة واسعة من القضايا والتحولات التي عصفت بالحياة العربية عبر سيرة ذات مبدعة في نصف قرن.
تصدر الأعمال الفائزة عن “دار السويدي” في سلاسل “ارتياد الآفاق” وذلك بالتعاون مع “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت بالنسبة إلى “الرحلة المحققة” و”الرحلة المعاصرة- سندباد الجديد”، و”الدراسات” ، فضلا عن الاعمال المنوع بها في هذه الفروع ،. أما الرحلة المترجمة و”أدب اليوميات” فيصدران بالتعاون مع “دار المتوسط” في ميلانو. ومن المنتظر أن يقام حفل توزيع الجوائز في شهر ماي المقبل، وسترافق توزيع الجوائز ندوة حول أدب الرحلة والأعمال الفائزة يشارك فيها إلى جانب الفائزين وأعضاء لجنة التحكيم نخبة من الدارسين.
بدوره اعتبر الشاعر محمد أحمد السويدي راعي الجائزة و”المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق” “أن هذه الدورة كانت استثنائية بكل ما للكلمة من معنى كونها تأتي في سنة ألزمت الرحالة بيوتهم، وحالت بينهم وبين خوض الأسفار. لكنها، في الوقت نفسه، كانت سنة للمطالعة والبحث، علما أن “المركز العربي للادب الجغرافي” قدم في الوقت نفسه لقراء أدب الرحلة عددا من الأعمال التي يتزامن نشرها مع منشورات الجائزة لهذا العام، وذلك بمناسبة مرور 21 عاماً على تأسيس مشروع “ارتياد الآفاق” ويتطابق عددياً ويتزامن مع دخولنا العام 2021. وهكذا فإن الجائزة عبّرت هذا العام، كما في أعوامها السابقة، عن استمرارها في الكشف عن الجديد في باب اليوميات والرحلة المعاصرة، لتضيف الأقلام الفائزة إلى كوكبة الرحالة المعاصرين مغامرين جدداً، وإلى أدباء هذا اللون الأدبي الممتع أسماء جديدة.
ووجه السويدي التحية للفائزين وللمنوه بأعمالهم، وأشاد بجهود أعضاء لجنة التحكيم الذين أنجزوا عملاً رائعاً في ظل ظروف بالغة الصعوبة، جرى فيها التواصل عن بعد. ونوه بفكرة إطلاق اسم الأديب والباحث الراحل قاسم وهب على هذه الدورة لما كان للصديق العزيز، الذي غادر عالمنا في العام الماضي، من دور بارز في رفد الجائزة والمشروع منذ بدايته، بالأعمال القيمة في أدب الرحلة بحثاً وتحقيقاً، فضلاً عن مشاركته في نشاطات المركز وندواته الكبرى، خصوصاً تلك التي جرت استضافتها في المغرب والجزائر والكويت والسودان وقطر والبحرين وأبوظبي، واستضافت معها احتفالات الجائزة. ورأى السويدي أنه إذا كان خير ما نحيي به الكاتب هو إخراج جهده الأدبي والفكري إلى النور، فإن من المنتظر أن يظهر إلى جانب الأعمال الفائزة والأعمال المنوه بها والكتب التي أنجزها المركز هذا العام، تحقيق ودراسة تحت عنوان “الحرب السورية في الحرب العمومية 1926” لبطرس خويري، هي من بين أواخر إنجازات الراحل قاسم وهب.
هذا، وقد تبنى “المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق” وجائزته نشر أعمال موازية، لعبد النبي ذاكر وبوشعيب الساوري وعبد السلام الجعماطي من المغرب ، وشوقي برنوصي من تونس، وحسّان الحَديثي من العراق، والصدّيق حاج أحمد من السودان ونورهان علام مصر وآخرين. وعد المركز بنشر تقرير خاص يتعلق بها.
الشاعر نوري الجراح أكد بأن تطور الاهتمام بأدب الرحلة العربي درساً وتحقيقاً وإبداعا خلال السنوات العشرين المنصرمة لا يؤكد على أهمية الدور الذي لعبه، ويلعبه المركز وندوته العلمية وجائزته وحسب، وإنما يكشف عن حيوية الثقافة العربية، في استجابتها لفكرة البحث والتنقيب والإبداع والترجمة في هذا الحقل الخطير والممتع معا الذي يتنفس فيه بعمق هذا الكائن متعدد الأوجه الذي نسميه ب (أدب التعارف)، أو (أدب السفر)، أو (أدب الرحلة)، وهو أدب التواصل الحي بين الأمم، من باب الشغف بالآخر المختلف، والتوق إلى اكتشاف الذات من خلال مرايا الآخر. إنه الأدب الذي يعوز ثقافتنا العربية اليوم، كما يعوز الثقافات الأخرى، لبناء جسور الحوار والتفاهم الشراكة الإنسانية مع الآخر، بعيداً عن الأوهام المبنية على الصور النمطية الملفقة عبر قرون من الصراع بين الشرق والغرب وما سادها من جهل وتناكر وتلفيق غيب الحقائق وراء والأوهام، وكرس الدونية والاستعلاء بين الشرقي والغربي. أدب الرحلة يملك الجواب السحري: معرفة الآخر بالعين المجردة. وبالتالي فإن هذه الجائزة هي جسر بين المشرق والمغرب وبين العرب والعالم. وأظن أن اهم ما ينبغي أن ننهض له في المستقبل القريب بعد ما أنجزناه بالعربية من تحقيق لخزانة متكاملة من أدب الرحلة تمتد على مسافة 10 قرون، هو أن نشرع بنقل كنوز هذه الخزانة إلى اللغات الأخرى ليتعرف القارئ الغربي على عن قرب على طبيعة نظرة العربي إلى الآخر، ونظرته إلى نفسه من خلال سفره في دنيا الآخر.
طنجة الأدبية