شكّل القرن التاسع عشر نقطة تحول مفصلية في العلاقة بين الشريعة الإسلامية والسلطة السياسية، كما أعاد طرح موقع الفقه بوصفه نظامًا تأويليًا وتطبيقيًا ظل لقرون المرجع الأساس للقضاء. فقد أدّى ظهور الدولة الحديثة إلى تبنّي نمط جديد من التشريع يقوم على القوانين المكتوبة والإجراءات المعيارية، وفرض أنساقًا قانونية لم تكن مألوفة في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي دفع الفكر الإسلامي، قديمه وحديثه، إلى الانشغال بسؤال جوهري حول ما إذا كانت الشريعة قد انقطعت عن مسار الحياة القانونية مع نشوء الدولة الحديثة، أم أنها استطاعت الحفاظ على حضورها عبر آليات التكيف والاجتهاد.
يناقش كتاب «استمرارية الشريعة: تطور الفقه الجنائي في القرن التاسع عشر» للباحث برايان رايت، المتخصص في تاريخ الفقه الإسلامي وتحولاته القانونية الحديثة، والمترجم إلى العربية بقلم الدكتور محمود عبد العزيز أحمد، هذا الإشكال من منظور تحليلي نقدي. ويعيد المؤلف فحص الفرضية الشائعة في الأدبيات القانونية المعاصرة التي ترى أن الشريعة همّشت في العصر الحديث واقتصر دورها على مسائل الأحوال الشخصية، ليخلص، من خلال دراسة معمقة لتجارب الهند ومصر والدولة العثمانية، إلى أن الفقه ظل عنصرًا فاعلًا في تشكيل القوانين الجنائية الحديثة، وإن كان ذلك عبر مسارات معقدة من التأويل والتقنين.
وتحظى فرضية «انقطاع الشريعة» بحضور واسع في أعمال عدد من الباحثين، وفي مقدمتهم وائل حلاق الذي يرى أن الدولة الحديثة استبدلت بالنظام الفقهي سلطة قانونية مركزية لا تسمح باستمرار الشريعة. غير أن الكتاب يقدم قراءة مغايرة، إذ يؤكد أن التحول لم يكن قطيعة حاسمة أو مسارًا خطيًا، بل شبكة من التفاعلات التي حافظت خلالها الشريعة على مكانة مرجعية، سواء على مستوى الأخلاق القانونية أو في صياغة التقنينات الأولى. ولا ينفي المؤلف التأثير الغربي، لكنه يبرز في المقابل دور الفقهاء والمؤسسات العلمية في نقل الشريعة من نسقها التقليدي إلى فضاء تشريعي جديد.
وتقوم هذه المقاربة على فهم تاريخ الشريعة باعتبارها نظامًا تأويليًا قابلًا للتجدد، لا منظومة مغلقة من الأحكام، وهو ما يدفع إلى إعادة النظر في مفهوم «المرجعية الشرعية» بما يسمح باستيعاب التحولات السياسية والاجتماعية التي رافقت نشوء الدولة الحديثة. وفي هذا السياق، يولي الكتاب اهتمامًا خاصًا لمباحث الجنايات والقتل، باعتبارها المجال الأكثر حساسية في اختبار علاقة الفقه بالسلطة الحديثة، حيث تتجلى بوضوح التوترات بين آليات الضبط القانونية الجديدة والتقاليد الفقهية الراسخة.
ويشير المؤلف إلى أن التركيز على هذا المجال لم يكن اختيارًا عشوائيًا، بل لأنه الموضع الذي تتقاطع فيه سلطة الدولة مع أعراف فقهية تشكلت عبر قرون، ولأنه شكّل أحد أهم ميادين اختبار قدرة الفقه على التكيف مع الوقائع المستجدة. فقد عالج الفقه التقليدي مسائل الجنايات من خلال تقسيمات دقيقة مثل العمد وشبه العمد والخطأ، ومفاهيم القصد والمسؤولية والولاية، ومع الانتقال إلى مرحلة التقنين، خضعت هذه المفاهيم لإعادة تأويل وصياغة دون أن يتم تجاوزها أو إلغاؤها.
وتكشف دراسة الجنايات، بحسب الكتاب، كيف بقيت المفاهيم الفقهية حاضرة في القوانين التي وُضعت خلال القرن التاسع عشر، رغم التحولات الواسعة في بنية الدولة وأجهزتها، مما يمنح القارئ صورة واضحة عن مسار الاستمرارية الذي يسعى المؤلف إلى توثيقه. كما تفند الدراسة الاعتقاد السائد بأن الفقهاء كانوا مناهضين بالكامل لعمليات التقنين والإصلاح القانوني، إذ يبرز الكتاب نماذج من الهند المستعمرة حيث صدرت فتاوى تجيز اللجوء إلى المحاكم البريطانية إذا كان الحكم محققًا للعدل، استنادًا إلى تراث فقهي سياسي يقر قبول أحكام قضاة ولاهم سلطان جائر.
وفي الدولة العثمانية، لم يكن صدور قانون العقوبات عام 1858 استجابة لإملاءات خارجية فحسب، بل جاء نتيجة دوافع إصلاحية داخلية، وقد رحّب به عدد من العلماء ضمن إطار «السياسة الشرعية» التي تخوّل الحاكم اتخاذ ما يراه محققًا للمصلحة العامة. أما في مصر، فقد اتخذت إصلاحات محمد علي طابعًا يهدف إلى تقوية الدولة وحماية السلطة، مع الإبقاء على مفهوم السياسة الشرعية كمدخل لربط هذه القوانين بالإطار الفقهي العام.
ويرصد الكتاب كذلك نشوء نخبة قانونية جديدة تمتلك تكوينًا مزدوجًا يجمع بين التعليم الشرعي والمعرفة القانونية الحديثة، وهو ما أتاح إعادة صياغة القوانين الجنائية بطريقة تراعي مقاصد الشريعة ومتطلبات الدولة. ومن أبرز الأمثلة محمد قدري باشا في مصر، الذي أسهم في وضع قانون العقوبات مع مراعاة المذهب الحنفي، ونذير أحمد في الهند الذي ترجم قانون العقوبات إلى الأردية بمنهج يستند إلى الفقه والسياسة الشرعية معًا. ورغم تراجع دور بعض المؤسسات التقليدية أمام صعود مؤسسات الدولة، ظل الفقه حاضرًا عبر تأثير هذه النخب.
ويبرز من خلال هذا المسار كيف أعيد تشكيل مفاهيم الجريمة في إطار قانوني مكتوب لم يلغِ جذورها الفقهية، بل أعاد ترتيبها، فتحول تقسيم القتل إلى ثنائية العمد وغير العمد، وانتقل التركيز من العلاقة بين الجاني والمجني عليه إلى علاقة الجاني بالمجتمع، مع تنامي دور الدولة بوصفها الجهة المخولة بممارسة العقاب، دون أن يختفي التأثير الفقهي، سواء في القانون الهندي المتأثر بالحنفية أو في القانونين المصري والعثماني المستلهمين لبعض عناصر الفقه المالكي.
ويرى المؤلف أن ما تلا القرن التاسع عشر شهد نشوء خطاب جديد يتعامل مع الشريعة باعتبارها منظومة مغلقة من الأحكام، وينظر إلى القوانين الحديثة كغزو ثقافي يجب رفضه، وهو ما مثّل قطيعة مع النموذج السابق الذي دمج بين الفقه والسياسة والقانون. وقد أدى هذا التصور إلى تجميد الدور التأويلي للفقه وتحميل القرن التاسع عشر مسؤولية الانقطاع، رغم كونه مرحلة تفاعل لا إقصاء.
ويخلص الكتاب إلى أن الشريعة لم تغادر المجال القانوني، بل أعادت إنتاج نفسها عبر مسارات التأويل والتقنين والمؤسسة، مقدمًا إسهامًا مهمًا في حقل دراسة العلاقة بين الشريعة والحداثة. كما يدعو إلى استعادة هذا التاريخ بوصفه خطوة أساسية لتجديد الفقه المعاصر وتجاوز الثنائية المصطنعة بين «القانون الوضعي» و«الفقه التقليدي»، ولفتح أفق جديد لإعادة التفكير في تشكّل القانون في العالم الإسلامي بعيدًا عن سرديات الانقطاع أو الهيمنة.
طنجة الأدبية

