يعد العنوان الرسالة الأولى التي يمكن للكاتب توجيهها للقارئ، من أجل تمكينه من سبر أغوار النص. جاء عنوان الرواية: ” زنجايوب” للكاتب المغربي إبراهيم أكراف، محيرا من حيث المقصدية التي أراد الكاتب تمثيلها داخل العمل الروائي. لكن دعوته القارئ في الفصل الذي عنونه بـ: “ما قبل السرد” إلى التسلح بزاد التأويل، فتح الباب أمامنا على مصراعيه حتى نتجول دواخله من أجل اكتشاف الوظيفة التي أرادها الكاتب للعنوان أهي التسمية فقط أم هناك دلالة خفية، أم هناك علاقة بين مركبات العنوان وأحداث النص قد نختزلها في التكثيف لمجريات السرد العميق للأحداث؟
عندما صرح الكاتب في ذات الفصل “ما قبل السرد” قائلا: “أنا مسؤول عن شخصيات روايتي، استدعيتها من قفر تخترقه جبال “باني” الراسيات الشامخات، وجدتها عارية كيوم ولدتها أمها، فجئنا بها لنقمطها بالمجاز المرسل والعقلي، وندثرها بالاستعارات والكنايات…” جعل وجع حيرتنا يزيد حتى تمخض عنه سؤال آخر يرجى منه السداد في بلوغ الحقيقة، أيمكننا اعتبار العنوان لغزا أراد به الكاتب إبراهيم أكراف إيصال فائدة غير معلومة لدى القارئ، أم أنه عنوان لازم الفائدة ستبوح به أحداث النص، و الخبر وراءها معلوم لدى القارئ أينما كان موقعه سواء داخل النص أو خارجه؟.
وحتى نفك شيفرات كل ذلك الغموض الذي يحيط بالعنوان، سنقوم بتفكيكه وتحليله أولا حتى ننطلق في رحلة القراءة بأمان. يمكننا القول إن عنوان الرواية: ” زنجايوب” جاء مركبا مزجيا من اسمين هما: زنج وأيوب، وقد جاء في لسان العرب أن:
- الزنج: هي شدة العطش، وزنجت الإبل زنجا: عطشت مرة بعد مرة، فضاقت بطونها. و تزنج على فلان: تطاول.[1]
- أيوب: هو اسم علم يحيل في الموروث الديني على الصبر، صبر سيدنا أيوب بعد ابتلائه بأن سلط الشيطان عليه جنوده وأتباعه ليحرقوا كل ما يملك.
إذن، الزنج جاء بمعنى العطش، العطش لماذا؟ للسلطة أم للمال أم لغير ذلك؟ ونرى أنه جاء أيضا بمعنى التطاول، أيقصد هنا التطاول على الزملاء أم على المستضعفين من الناس مثلا؟
وأيوب أجاء للدلالة على الصبر أم إنه مجرد اسم علم محايد اختاره الكاتب لشخصية من شخصياته الروائية، أم إنه اسم علم حقيقي والمقصود به ما جاء قبله؟
بعد طرحنا لهذه الدلالات المحتملة للعنوان، تسلحنا كما قال الكاتب بزاد التأويل حتى نقف عند مقصدية الكاتب من كل هذا التموج الذي اختاره لمساره السردي. فدخولنا للفصل الثاني من رواية ” زنجايوب” المعنون بـ:“إسافن 1997 غبائية”، جعلنا نكتشف أن القراءة لن تكون سهلة وكأن حنكة عين الفرس حاضرة، قوية هي اللغة الموظفة، جامحة في تلوين الأحداث وصياغة سيرورتها. أرضية السرد بيئتها صعبة التضاريس رمزية وحقيقة، وعرة الممرات عليك أن تمسك بجميع المؤشرات حتى لا تضيع وسط كل ذلك الجمال الأدبي المفعم بروح الجنوب المغربي الصحراوي الأصيل.
مدخل الفصل الثاني يجعلنا نعتقد أن رواية ” زنجايوب” هي رواية انثروبولوجية على اعتبار أن هذه الأخيرة يتم تعريفها بوصفها دراسة للإنسان في أبعاده المختلفة: الثقافية والاجتماعية عبر التاريخ. وبتقدمنا في أحداث الرواية نكتشف أنها تعبر عن أزمات الإنسان الروحية والأخلاقية والسلوكية، من خلال ما تصوره مجموعة من الشخصيات الروائية أبرزها الشخصية الرئيسة “صاصا”، تلك الشخصية التي تجرنا في كل مرة إلى مدرسة أدبية من أجل تصنيفها، فالكاتب قدمها ممسوخة والغرض من ذلك الإحالة على دلالات رمزية عميقة أراد بها التعبير عن وقائع متعلقة بتلك الشخصية داخل محيطها وهي كونها شخصية منبوذة، غير مرحب بها بناء على تصرفاتها وبوادر تحولها إلى مسخ بشع كلما أتاحت لها الفرصة ذلك استجابة لصراعاتها النفسية، والاجتماعية من أجل الظهور، وإثبات الوجود وتحقيق السيادة فيما بعد.
ولذلك ففي مدار الأحداث المتعلقة بشخصية “صاصا”، نجد أنفسنا أمام رواية عبثية وكأن الأحداث فيها أصيبت بلعنة “كافكا”، علينا أن نشد بالنواجد على نمط سير الأحداث حتى لا نضيع حقيقتها. لأن الكاتب إبراهيم أكراف كان في كل مرة يهرب وراء الاستعارة حتى لا يبوح فعلا بما يريده من حقائق حول تلك الشخصية الغامضة، والمتحولة إلى مسخ تارة، والتي ينعتها بالحمار تارة أخرى. لكن هذه المرة ليس الحمار الذي عهدناه شخصية رئيسة في أشهر الروايات، لكن بالمعنى القدحي في الموروث الثقافي الشعبي المغربي، الحمار الغبي، ذو الأذنين الطويلتين، الحمار البشع… فكان الحمار بذلك عند الكاتب إبراهيم أكراف مختلفا عن الحمار في كتابات الكاتب حسن أوريد، أو توفيق الحكيم، أو أبوليس وغيرهم. فقد زاوج الكاتب في الأوصاف التي قدمها للحمار بوصفه شخصية بين الواقعية والرمزية حتى يمرر مجموعة من الرسائل التي تحيل على الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تمتلكها شخصية “صاصا” في الرواية.
فبعدما سلمنا بأن الرواية انثروبولوجية من حيث النوع، جعلنا تنامي الأحداث وعمل الشخصيات وأوصافها نهدم ما توصلنا إليه، ونعيد تصنيف الرواية ضمن أدب الفانتازيا خاصة الفانتازيا الحضرية (Fantasy Urban) لما تحمله رواية ” زنجايوب” من خصائص تمثله بشكل بارز، وذلك عبر الهروب من الواقع عبر اعتماد شخصيات متحولة، وأخرى حقيقية تجسد صراع الخير والشر في الزمن المعاصر.
رفض الواقع والهروب من الإفصاح عن الحقيقة جعل الكاتب إبراهيم أكراف يعتمد على تقنيات أدب الفانتازيا عبر توظيف شخصيات مختلفة عما هو موجود في العالم الحقيقي، والتركيز على تأثيث عوالم النص وبنائه بشكل يمزج بين توظيف شخصيات حقيقية وأخرى خيالية في أزمنة وأمكنة حقيقية. لكن سرعان ما بعثر الكاتب كل تلك القناعات عند عودته لأرض الواقع وإقحامه لشخصيات حقيقية تطبع الموروث الثقافي في مدينة “طاطا” ونواحيها في الجنوب المغربي. فقد نفض الغبار عن كنز معرفي وثقافي مغربي، وحلق بنا بين ثنايا وصال، ووصل بين ربوع المملكة حين توسم بشخصية بارزة وهي “عائشة مسعود” كشخصية مساعدة حيث طلب منها سكان “طاطا” المشورة في شخصية ذلك المسخ الملقب بـ:“صاصا” والكائن الغريب الذي ليس منهم الذي ابتلي به أهل المكان الذين ماعرفوا مثله من قبل.
تفوق الكاتب إبراهيم أكراف في فك الحصار على مدينة من المدن المغربية التي لطالما نعتها الكاتب بالمدينة المنسية في الجنوب المغربي وهي مدينة “طاطا”. فقد جاء اختياره لمدينة “طاطا” التعويذة السحرية التي أضفت على العمل الروائي جمالية أدبية غير مسبوقة جعلته عملا يَنِزُّ بالأصالة، والفرادة ولا يمكن من خلال ذلك أن يشبه بأي عمل مسبوق حتى وإن كان هناك التقاء معه في بعض الأساليب الخاصة بالكتابة الأدبية.
وجدنا من خلال ثنايا السرد أنفسنا أمام “ابن بطوطة طاطا” الذي أخذنا في رحلة شيقة بين مجموعة من القرى الجنوبية، ووصف لنا معالم تضاريسها. كانت بداية الرحلة بقرية “إسافن” التي شهدت هجوم المخلوق الممسوخ الذي أرق على سكان القرية راحة بالهم وصفو سمرهم، فاحتاروا في أمره بين صعق، ومستعيذ من الشيطان الرجيم. في تلك القرية كان ظهور “صاصا” كما كان يسميه البعض وهو رديف لشخصية “احسينة” المذكورة في الرواية، فهما وجهان لعملة واحدة تمثل الطغيان والاستبداد وحب السلطة.
تتبعنا لشخصية “احسينة” في خط متواز مع شخصية “صاصا” المسخ يظهر لنا بشكل جلي المقصد الأساس الذي جاءت به دلالة عنوان الرواية ” زنجايوب”، فتلك الشخصيات تمثل للتعطش للسلطة، والتطاول على المستضعفين من الناس. وهنا يأتي فك رمزية تصنيف الرواية، فالكاتب وإن حاول التواري وراء استعماله لشخصيات متحولة، أو للمسخ أو الحمار، في كل مرة لكي تعطينا ملامح الرواية الانثروبولوجية أو الفانتازية، فهي لا تحيد عن كونها رواية تتعمد ذلك حتى توجه سياط النقد اللاذع لسلوكيات وقيم أشخاص لا تخلو حياتنا اليومية من وجودهم والتعاطي معهم.
فالكاتب واع أشد الوعي بما يقول، ولمن يقول فراوية ” زنجايوب” ستكشف في الأخير أنها مقتطف من سيرة ذاتية للكاتب إبراهيم أكراف فجل الأحداث والشخصيات والفضاءات هي لصيقة بذات الكاتب ومحيطه. فتحول شخصية “احسينة” إلى مدير في مؤسسة تعليمية يجعلنا نفطن إلى كون رواية ” زنجايوب” هي رواية واقعية نقدية تمثل للواقع الذي يعيشه أهل “طاطا” البسطاء من تهميش واضطهاد، وتناقض في التوجهات، ويعبر عن إحباط شديد لدى الكاتب أمام المنظومة التعليمية الفاشلة.
ابتسام بلفضة
[1] ابن منظور الإفريقي: لسان العرب، دار صادر، بيروت، المجلد الثاني، مادة زنج، ص 290-291.

