الرئيسيةأخبارالكتابة التاريخية للطفل في قصة ثريا في سماء المجد

الكتابة التاريخية للطفل في قصة ثريا في سماء المجد

قصة «ثريا في سماء المجد»

عندما نكتب للأطفال عن التاريخ، نحتاج إلى أكثر من مجرد سرد أحداث الماضي. نحن نبني جسرًا من المشاعر والأفكار يربط قلوب الصغار بتراب الوطن وذكرياته. ومن بين الأعمال القصصية التي حملت هذا النفس السردي-التربوي بعمق، تبرز قصة ثريا في سماء المجد للكاتب عبد الحميد أبوزرة، التي تقدم للطفل سيرة الشابة المغربية الاستثنائية ثريا الشاوي، تلك التي تحوّلت من حلم فردي صغير إلى رمز تاريخي كبير.

لم تكن ثريا مجرد اسم يُذكر في كتب التاريخ، بل كانت فتاة من لحم ودم، تحمل جرأة غير معتادة في زمانها، وموهبة لافتة، وحلمًا يبدو بعيدًا عن متناول فتاة مغربية في خمسينيات القرن الماضي: أن تقود طائرة وتحلق في السماء. ورغم القيود الاجتماعية الصارمة، ونظرة المجتمع التقليدية آنذاك، استطاعت أن تشق طريقها بثبات، لتصبح أول فتاة مغربية تحصل على رخصة الطيران، وأيقونة وطنية ولّدت الإعجاب والخوف في آن واحد—الإعجاب بحلمها.. والخوف من تأثيرها على جيل جديد من النساء يحلمن، ويؤمنّ بقدرتهن على الإنجاز.

غير أن رحلة ثريا القصيرة انتهت بمأساة اغتيالها، وهي في عمر الزهور، بعد أن صارت رمزًا لمرحلة دقيقة من تاريخ المغرب، حيث كانت الأحلام الوطنية والثقافية ترتفع في السماء مثل طائرة، تهدد المستعمر وترعب عملاءه.

كيف نُقدّم كل هذا لطفل لم يتعرف بعد على وجوه الحياة؟

إن الكاتب هنا يواجه تحديًا مركّبًا: كيف يعرض للطفل طموحًا استثنائيًا، ونضالًا وطنيا، وحدثًا مأساويًا، من دون أن يجرح براءته أو يخفّف من أهمية الحدث التاريخي؟
وقد استطاع أبوزرة أن يوازن بين الحسّ الطفولي وبنية السيرة، فقدم ثريا في هيئة صديقة قريبة من عالم الطفل، قبل أن تكون بطلة بعيدة.
نراها طفلة تحلم، وفتاة تجتهد، وشابة تواجه الصعاب بإصرار. نعيش معها خطوات الإنجاز الأولى، لحظات ضعفها، ودموع الإحباط عند أول فشل، وفرحة النجاح حين واجهت السماء للمرة الأولى.

هكذا يتعلّق الطفل بإنسانيتها قبل بطولتها، وبحلمها قبل مجدها.

تحويل المأساة إلى معنى تربوي

التعامل مع حدث الاغتيال شكّل التحدي الأكبر في الكتابة للأطفال. ومع ذلك، برع الكاتب في تقديمه لا كفعل عنيف، بل كتحول رمزي.
لم يُركّز على مشهد الموت، بل على قيمة الشهادة. لم يجعل النهاية مأساوية، بل أضفى عليها لمسة نورانية:
ثريا لم تغادر العالم، بل عادت إلى السماء التي أحبتها، لتصبح نجمة ترشد الأجيال.

هذا التحويل الرمزي يحوّل الموت إلى درس في الأمل، والتاريخ إلى فضاء للتأمل، ويعلّم الطفل أن بعض الأحلام تُطارد حتى بعد أن يغادر أصحابها الحياة.

البعد النسوي: رسالة بلا شعارات

من أجمل عناصر القصة بُعدها النسوي الهادئ.
فثريا ليست بطلة لأنها “امرأة”، بل لأنها إنسان يرفض أن تُعرقل أحلامه. إن وجودها في هذا السياق التاريخي يقدّم للطفلة والطفل معًا نموذجًا ملهِمًا:
أن الإرادة لا جنس لها، وأن السماء تتسع للجميع.

لقد استطاع الكاتب أن يُقدّم هذه الرسالة من غير مباشرة أو خطابية، بل عبر أفعال البطلة، وأحلامها، وجرأتها.

لغة تُشبه الريشة… وصور تفتح السماء

تميّز السرد بلغة شاعرية رقيقة، تحمل بساطة تناسب سن القارئ، وعمقًا يلامس القيم التي تسعى التربية الحديثة لترسيخها. فالسماء في النص ليست مجرد فضاء للطيران، بل رمز للحرية وتجاوز الحدود.
والطائرة ليست وسيلة نقل، بل حلم يتحدى الجاذبية والقيود.
أما البيت المغربي التقليدي، فظلّ رمزًا للأصالة والجذور، الذي يعود إليه الطفل-القارئ بعد كل رحلة معرفية، ليشعر بالأمان والانتماء.

حتى لحظة الاغتيال صيغت بصور شاعرية، حيث تتحول الفتاة المحلّقة في السماء إلى نجمة مضيئة، يتعلم منها الأطفال معنى البقاء عبر الأثر.

القصة بذرة… والتاريخ تربة خصبة

في النهاية، ليست “ثريا في سماء المجد” مجرد قصة تاريخية، بل هي بذرة تُزرع في عقل الطفل وقلبه، لتنمو لاحقًا في شكل قيم ومواقف وسلوكيات. إنها درس في بناء الحلم، واحترام الشجاعة، والإيمان بالوطن.
كما أنها عمل يعيد الاعتبار لدور القصة في تدريس التاريخ، ليس بوصفه أحداثًا مضت، بل باعتباره خبرة إنسانية تُشكّل المستقبل.

لقد نجح الكاتب في تحويل سيرة فتاة مغربية استثنائية إلى مرآة يرى فيها الطفل صورته، وإلى جناحين صغيرين يفتح بهما باب الحلم. وهكذا تتجاوز القصة حدود الورق، لتصبح جزءًا من مشروع تربوي أعمق، يعيد صياغة علاقة الناشئة بتاريخهم الوطني، ويمنحهم الجرأة لقول:
نحن أيضًا قادرون على التحليق.

 

عبد السلام العزري – ناقد أدبي
عبد السلام العزري – ناقد أدبي

 

عبد السلام العزري

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *