في مجتمعنا المغربي، لا يختفي الوازع الأخلاقي دفعة واحدة، بل يتآكل بصمت ــ كما يمكن أن يتآكل الضرس بالتسوس ــ حتى تختلط الحدود بين المقبول والمرفوض، وبين ما كان يُستغرب بالأمس وما يُمارس اليوم بلا حرج. فالوازع، سواء كان أخلاقيًا أو اجتماعيًا أو مؤسساتيًا، ليس قيدًا يُكبل الحرية، بل صمام أمان يحمي المجتمع من الانزلاق نحو العبث. وعندما يغيب هذا الصمام، لا يظهر الغريب فقط، بل يطفو الأقذر إلى السطح، وقد يُقدَّم بوصفه أمرًا عاديا ، بمعنى يسهل التطبيع مع الغريب والشاذ.
عرف المغرب خلال العقد الأخير تحولات متسارعة مست مختلف مناحي الحياة، تحت تأثير العولمة والرقمنة، وتراجع الأدوار التقليدية للأسرة والمدرسة والفضاءات الجماعية. وفي خضم هذه التحولات، برز جيل Z المغربي، جيل نشأ في زمن الاتصال المفتوح، وامتلك أدوات الوعي الرقمي والفكر النقدي، فكان أكثر حساسية تجاه التناقضات التي يعيشها المجتمع، وأكثر إدراكًا لحالة التردي التي أصابت عددًا من مؤسسات الدولة، نتيجة تمييع العمل السياسي، وتآكل الثقة في آليات التمثيل والمساءلة.
هذا الجيل لا يمكن اختزاله في صور نمطية جاهزة، ولا اتهامه بغياب الوازع. على العكس، هو جيل واعٍ، يميز بين الاحتجاج المشروع والفوضى، ويتبرأ من السلوكيات المشاغبة التي لا تخدم مطالبه، بل تشوش عليها. إن مطالبه ليست نزوة عابرة، بل تعبير عن وعي جماعي بضرورة استعادة المعنى، وإعادة الاعتبار لقيم العدالة والكرامة وتكافؤ الفرص.
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي، في هذا السياق، دورًا مزدوجًا. فهي من جهة مساحة لكشف الاختلالات ومساءلة الخطاب الرسمي، ومن جهة أخرى مرآة تعكس كل ما هو صادم وغريب. غير أن الخطأ ليس في الأداة، بل في الفراغ القيمي والمؤسساتي الذي يسمح للتفاهة بأن تتصدر، وللانحراف بأن يتحول إلى عرض يومي. ومع ذلك، يظل الوعي الرقمي لجيل Z عامل تمييز، يجعله أكثر قدرة على الفرز بين التعبير المسؤول والاستعراض الفارغ.
لكن تحميل الشباب وحدهم مسؤولية هذا الوضع يُعد تبسيطًا مخلًا. فالأزمة أعمق، وتطال منظومة كاملة: أسرة مثقلة بالضغوط، مدرسة تُدرّس أكثر مما تُربي، إعلام يلهث خلف نسب المشاهدة، ومؤسسات فقدت جزءًا من فعاليتها وقدرتها على التأطير. في ظل هذا المشهد، لا يبدو الشباب سبب الأزمة، بل أحد أكثر المتضررين منها، وأحد أكثر الأطراف وعيًا بتفاصيلها.
وحين يأمن المسؤول العقاب، لا يسيء فقط إلى القانون، بل يُفرغه من معناه بالكامل. فالقانون لا يُنتهك دائمًا بدافع الجهل، بل غالبًا بدافع الاطمئنان إلى غياب المحاسبة. عندها يتحول المنصب من أمانة إلى امتياز، ومن وظيفة عمومية إلى مجال مفتوح للتصرف خارج كل وازع أخلاقي أو مؤسساتي. الخطر الحقيقي لا يكمن في الخطأ ذاته، بل في تكراره بلا خوف ولا تردد، لأن الإفلات من العقاب لا يخرق القاعدة فقط، بل يُنتج ثقافة عامة مفادها أن القانون قابل للتجاوز، وأن احترامه خيار لا التزام. وهكذا تنتقل العدوى بصمت: مسؤول يخرق، إدارة تصمت، ومجتمع يتعلم أن القاعدة تُطبّق على الضعفاء فقط، بينما الأقوياء تحميهم مواقعهم لا النصوص.
وليس غريبًا، في هذا السياق، أن يكون جيل Z المغربي أكثر وعيًا بخلل المؤسسات من غيره. فهو الجيل الذي يرى التناقض يوميًا بين الخطاب والممارسة، بين الدعوة إلى احترام القانون ومشاهد خرقه من أعلى الهرم. لذلك فإن مطالبه لا تنبع من نزعة تمرد، بل من إدراك عميق بأن استعادة الوازع لا يمكن أن تتم من القاعدة وحدها، ما دامت القمة خارج منطق المحاسبة. إنه وعي لا يبحث عن الفوضى، بل عن العدالة، ولا يطالب بالاستثناء، بل بتكافؤ الالتزام.
في نهاية المطاف، لا يكمن الخطر في جيل يسائل، بل في منظومة لا تجيب. فالوازع الأخلاقي لا يُزرع بالخطب، ولا يُستعاد بالتخويف، بل يُبنى حين يصبح القانون فوق الجميع، وحين تستعيد المؤسسات مصداقيتها بالفعل لا بالخطاب. الغريب والأقذر ليسا قدرًا محتومًا، بل نتيجة مباشرة للفراغ الذي نتركه حين نغض الطرف عن الخلل. أما الأمل، فيكمن في جيل ما زال يؤمن بأن السؤال حق، وأن المحاسبة شرط، وأن الوطن لا يُحمى بالصمت، بل بالوعي والمسؤولية المشتركة.

الدكتورة نزهة الماموني

