الرئيسيةأعمدةبيت الحكمة: الطبالة والغياطة فنانون شعبيون منسيون

بيت الحكمة: الطبالة والغياطة فنانون شعبيون منسيون

أحمد القصوار
  • 1

في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، لم تكن حفلات الزواج او العقيقة والختان والخطوبة في اغلب الاحياء الشعبية والعصرية تقام من دون الحضور الدائم متعدد الاشكال لمجموعات “الطبالة والغياطة”. كانت مجموعات “الطبالة والغياطة” عبارة عن فنانين شعبيين لهم مقر/ محل بسيط في الغالب الاعم في الاحياء الشعبية وبين دكاكين أسواقها سواء الاسمنتية او بين  مدن الصفيح ( القصدير والزنك).

  • 2

تتكون كل مجموعة من 3 الى 4 افراد يوزعون بينهم الأدوار والآلات الموسيقية المستعملة حسب خبرة ودربة كل واحد والحاجة اليه. منهم من يحمل و”يضرب” الطبل، ومنهم من يستخدم فمه وجهازه الصوتي لترويض الى “الغيطة” المغربية العريقة، ومنهم من يستخدم يده للعزف و”ضرب” التعريجة او “الطارة”، وهناك من يحمل مقصا يقوم مقام الة موسيقية مغربية لا يفقه اسرارها الا عتاة الطرب الأصيل والمستوحي  لتاريخ الموسيقى في مختلف القبائل والزوايا المغربية. يكون “المقص” الحديدي الكبير مرفوقا بقضيب  حديدي صغير الحجم. يحمل صاحبنا المقص بيد و”يضربه”، بله يعزف عليه بالقضيب المحمول في اليد الأخرى.

  • 3

كان الطبالة والغياطة يلبسون جلابيب مغربية تقليدية تختلف الوانها وانواعها حسب الفصول والمناسبات، حيث تكون داكنة في الشتاء وبيضاء او صفراء في الصيف. كما تختلف المناسبات والوضعيات التي تطلب فيها خدماتهم لتنشيط الحفلات او مرافقة الوفود الى بيوت الخطبة او الزواج او غيرها.

فقد تقام داخل البيوت من دون ان يراهم أحد من غير اهل الدار وضيوفهم. وقد ينطلق موكبهم من امام مسجد خلف حصان يحمل الطفل “المختون” للذهاب في جولة بهيجة وادخاله الى منزل ذويه دخول الفاتحين، مرتديا جلبابه الأبيض وطربوشه الأحمر و “اكسسوارات” تخص المناسبة.

وقد تكون جوقة الطبالة والغياطة ومرافقاتها ومرافقيها واقفة على ظهر حافلة كبيرة او متوسطة ( هوندااا)، حيث يقطع الموكب المنكب على الغناء والعزف والرقص كيلومترات طويلة قاصدا منزل العروسة مثلا. تسمع أصوات الطبالة والغياطة وسط الطريق وفي ملتقيات الطرق وعند المرور امام المنازل والمحلات التجارية والاسواق.

  • 4

قد يتفق أصحاب الحفل على انطلاق الموكب قرب حي من الاحياء في نقطة تجمع محددة،  قاصدا منزلا من المنازل، وقاطعا مئات الأمتار او عشرات الأمتار فقط، حيث تدخل “الهدية” المحملة فوق عربات مختلفة الى منزل العروسة او الفتاة المخطوبة. وغالبا ما يكون موكب “الهدية” مثار فضول عمومي ومواكبة حثيثة من نساء وأطفال ” الحومة” وعابري السبيل.

تفتح نوافذ البيوت وتطل الرؤوس المتزاحمة ويخرح الأطفال والفتيات لمرافقة “الهدية” والسير اماها او خلفها او داخلها “دار دار زنقة زنقة”. منهم ومنهن من يشارك في الغناء والرقص، ومنهم ومنهن من يدخل مع الوفد الى المنزل المقصود وسط جوقة الراقصات والراقصين. حينها يبلغ إيقاع المعزوفة الختامية أوجه، ويتحول المشهد الى احتفال كبير قد يختلط فيه الحابل بالنابل بمشاركة جميع من حضر.

  • 5

كانت الاحياء الشعبية في مغرب السبعينيات والثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات، تتميز ببساطة الاحتفالات وطابعها التشاركي الذي تتداخل فيه العائلة والجيران والاقارب، وحتى بعض الفضوليات والفضوليين في الازقة والشوارع. وغالبا ما تتم من دون خروج عن النص، ما عدا في بعض الحفلات الليلية التي تنشطها مجموعات “الشيخات”. وتلك قصة أخرى.

كان الطبالة والغياطة مجموعات شعبية يلجأ اليها الجميع في مختلف الاحتفالات النهارية التي تخص تقديم “الهدية للعروس او “الدخلة” ( الدخول) الى منزل او “الخرجة” الى بيت الزوجية مثلا، حيث تنطلق من نقطة محددة، وتنتهي في احد غرف البت المقصود او بهوه او في سطح المنزل او العمارة.

  • 6

كانت مناسبات مواكب الطبالة والغياطة  تشكل فرصا سانحة تستغلها بعض الفتيات المراهقات او الباحثات عن الزواج للظهور بمظهر لائق ومصاحبة الموكب بالغناء والرقص وارتداء ما يلزم من “تكشيطة” و”قفطان” و”دفينة” او جلابة معتبرة. يتحول مشهد الاحتفال الذي يقوده الطبالة والغياطة الى فرجة شعبية عمومية؛ ولا سيما في اللحظات والأماكن التي يتوقف فيها الموكب لبضع دقائق. يرتفع إيقاع العزف والغناء والرقص قبل إتمام المعزوفة او الاغنية، ثم مواصلة المسير بمعزوفة أخرى، وهلمجرا.

  • 7

كان اغلب أعضاء مجموعات ”  الطبالة والغياطة” يعيشون هشاشة اجتماعية واضحة. يعيشون شبه عطالة في فصول الشتاء والخريف والربيع، ولا يشتغلون بشكل شبه يومي الا في فصل الصيف. فمنهم من يكسب قوت يومه حصرا مما يحصل عليه عينا او نقدا من الحفلات المنظمة، ومنهم من كان يمتهن حرفة او تجارة صغيرة، ما دام ان ” مهنة الفنان الشعبي” لا تسمن ولا تغني من جوع.

  • 8

كانت بعض المجموعات تشارك في فن “الحلقة” المغربي العريق في ساعات المدن التاريخية والأسواق الشعبية الأسبوعية او اليومية، وهذا ما يكاد يعزز من مدخولهم اليومي بفضل ما تجود به ايادي المتحلقين .

والحالة هذه، أصبحت بعض مجموعات الطبالة والغياطة مجموعات ” محترفة” في التنسيط الشعبي في الساحات والأسواق حصريا، و لم تكن تشارك في تلبية دعوات الحفلات الخاصة وتنشيط المناسبات العائلية. صارت مجموعات متنقلة بين المدن والأسواق، ووسعت من اشكال تنشيطها من خلال أداء تمثيليات شعبية والتزين بملابس و”اكسسوارات” خاصة.

كان ” نجم المجموعة” هو من يتولى دور المرأة  في “الحلقة”؛ بكل ما يتطلبه من لباس وحركات وايماءات. كانوا يقومون بأدوارهم الغنائية المسرحية امام جمهور لا يقبل دور المرأة الا في شاشة التلفزيون، ولا يستسيغ حضور التمثيل النسوي في الساحات والشارع العام.

كانت مجموعات الطبالة والغياطة مجموعات رجالية بشكل حصري وكلي بديهي لا يقبل التساؤل او الاستفسار.

  • 9

كان طالبو خدمات مجموعات الطبالة والغياطة غالبا ما يؤدون المبلغ المتفق عليه مباشرة بعد انتهاء الحفل، فضلا عن “قالب” او قالبين” من السكر او دجاجة او فروج و/ او بعض الحلويات والمأكولات المهيئة بالمناسبة، خصوصا اذا لم يسعفهم الوقت او الوضعية للبقاء مع الموكب والحاضرين للحفل لتناول وجبة الغذاء او العشاء او ” الترديدة”. في هذه الحالة، يظفر اصحابنا بدجاجة او دجاجتين “محمرتين” يتناولونها في مقر مجموعتهم او في منزل أحدهم.

  • 10

كان هؤلاء الفنانين الشعبيين جزءا مندمجا في الثقافة الشعبية والنسيج الاجتماعي لمدننا واحيائها الشعبية. كانوا يتأقلمون مع ظروف كل اسرة وكل حفل باختلاف حجمه ومناسبته وفضاء اقامته وبرنامج موكبه. كما كانوا يتفاعلون بشكل إيجابي وعجيب مع كل النساء والأطفال والرجال الذين يشاركونهم الغناء والرقص، بله يلبون طلباتهم لأداء اغنية او معزوفة معينة او لازمة ايقاعية او وصلة ختامية حسب كل مناسبة او مقام.

كانوا يعزفون ويغنون جالسين او واقفين او ماشين او راكبين على منت حافلة او شاحنة او ” هوندا”  او عربة يقودها حصان او بغل. يجملون الاتهم الموسيقية ويتنقلون مع أصحاب الحفل أينما اتجهوا من دون قيد او شرط. منهم من كان يسافر معهم من مدينة الى أخرى قاطعين عشرات او مئات الكيلوميترات، خصوصا عند مرافقة العروسة الى بيت الزوجية.

  • 11

فضلا عن المبلغ المالي المتفق عليه او المتروك لكرم اهل الفحل، يحصل ان يستفيد أعضاء مجموعة الطبالة والغياطة من هدايا واكراميات الرجال والنساء الحاضرين، سواء في الشارع العام او داخل المنزل المختضن للحفل.

كما يمكن استحضار تقليد “التعلاق”، حيث يقوم بعض الرجال والنساء بوضع أوراق مالية من فئات مختلفة ( حسب القدرة المالية لصحاب/ ة  الاكرامية) في احدى جوانب الطاقية او “الرزة” او فتحة الجلابة او “القب”، او تسلم يدا بيد. وهذا ما كان يرفع من حماس المجموعة وايقاع عزفها وغنائها، ويدفعها الى تمديد المدة الزمنية للمعزوفة او التوقف المرحلي للموكب في احدى الازقة او داخل المنزل المعني او سطحه. في سطوح المنازل تكون المساحة كبيرة وتتيح إمكانيات  الحركة والمناورة والتنقل بين الضيوف والراقصين.

  • 12

وحتى وان اصبح لفظ ” التطبال” و” الطبالة”  يحمل دلالة قدحية في الاستخدامات والسجالات الإعلامية والسياسية  المغربية  في العصر الرقمي الحالي، فان “الطبال” و”الغياط” الحقيقيين آنذاك كانوا يؤدون وظائف اجتماعية وثقافية شعبية لا علاقة لها بالاستخدامات الحالية في السجالات الرائجة داخل وسائط التواصل الاجتماعي. يتم نعت بعض الإعلاميين والمثقفين ب “الطبالة والغياطة” بما يفيد انهم يقومون بأدوار دعائية ويوظفون أصواتهم واقلامهم لخدمة اجندات سياسية لأحزاب او شخصيات معينة او للترويج لسياسات ومواقف مختلف حولها.

  • 13

كانت مجموعات الطبالة والغياطة تتكون من مغاربة مندجين في محيطهم ومنبثقين من مجالهم الثقافي والاجتماعي.

كانوا فنانين عضويين منخرطين في تنشيط الافراح والحفلات وتلبية الحاجات الاحتفالية الفنية للأسر المغربية.

كانوا منسجمين ومتفاعلين إيجابا مع المعيش اليومي لمغاربة نهاية العشاريات الأخيرة للقرن العشرين.

وحتى وان صار لمصطلح “الطبالة والغياطة” دلالة مجازية سياسية سجالية سلبية، فان المجموعات الشعبية الرائدة التي نشطت معيشنا واحتفالنا في سنوات عشاريات نهاية القرن العشرين ستظل جزءا اصيلا من تراثنا اللامادي وتاريخنا الفني في مغرب القرن العشرين.

أحمد القصوار

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *