الرئيسيةإبداعرحلتي ..

رحلتي ..

صورة لفتاة تتأمل الغيوم من نافذة الطائرة في لحظة وداع هادئة.

كتبت أحلام مستغانمي ذات مرة ” ..لكلّ
كاتب مسقطاً لرأسه، و آخر لقلبه، و ثالثا لقلمه.”
و إن كان مسقط رأسي في مدينة انواكشوط في أحد أحياء الصفيح ذات حزيران فإن مسقط قلمي كان ولازال في الشبيبة الشمالية وتحديدا في ليلة شتوية وأنا مطلة على زقاق روما نزلت علي أول خاطرة …
وقتها أنهيت حداد القلم وبدأت الكتابة، و في كل شيئ أكتبه كنت استحضر وِجدا عصيا على التعبير
آه، كم خانتني الكلمات!
أنا لم أ عبر يوما كل شيئ كتبته كان محاولة للتعبير، كان إجابة لأسئلة لم تطرح، كان عتابا لأشخاص لم يوجدو حتى، كان رسائل لا وجهة لها، أو لوجهة مجهولة..
بعضها أيضا كان موجها لأبي..

لقد كتبت فيه كثيرا، تماما كما كتب كافكا لأبيه كما كتب علي عن المحروسة لبراكنة، كما كتبت أحلام عن بيروت وكما كتب المغتربون عن أوطانهم، ..
لكن كل مرة كنت أكتب عنه، أو له كنت أحتفظ بالكتابات لنفسي وذالك ببساطة لأنه كان فرنسيَّ الهوى ..

في مطار أم التونسي كان يتقدمني بخطوات وأستحضر آنذك أن كل طريق يتقدمها الرجال هي طريق للنسوة فيها أن يشعرن بالأمان، أتذكر، ولذكرى شجون، أني في آخر مرة ودعته ونحن في ردهة الانتظار ، حيث كان يحمل عني كل شيئ ويصورني خِلسة كما ليستبقي شيئا مني معه لم يكن يريدني أن أذهب ولم يكن يريدني أن أبقى ، ودعني وهو على حافة البكاء، لكنه لم يبكي، فهو ينتمي إلى جيل حيث الرجال يمكنهم أن يعبرو عن حزنهم بكل شيئ إلا البكاء، أتذكر حين ضمني إليه كما يضم جندي سلاح وقال لي بحنجرة نصف مبحوحة، وبصوت لم أكد أسمعه، “حد أمْشَ عن خيمت بوه يعود راجل” لازلت أحتاج إلى أن أقف على كل كلمة من هذه الكلمات، لبساطتها لم أفهمها ودعته دون أن أسئله عن الشرح، تفاديت إطالة لحظة الوداع..
مشيت إلى الطائرة أحمل حقيبة ظهر ثقيلة ثقل المسؤولية التي حملني إيها تماما كمن يُحمَّل وصايا نبوة .. وإلتفت فإذا به قد ولاني ظهره ذاهبا وشعرت وقتها أني أحتاج إلى مكان أجلس في وحدي ولحسن الحظ كنت أجلس في مقعد حيث لا يوجد أحد قربي ،
لم أبكي شعرت فقط بقُصة ماقبل البكاء
وقف علي ذالك العامل وقال بفرنسية أنيقة وبعد أن أعطاني صحن الفطور..
‏” Mademoiselle, voulez vous café ou lipton ,
قلت له ” منديل” وعلمت أنه لم يفهمني، وستبقيته للحظات لكي أتذكر اسم منديل بالفرنسية ” لكن هيهات خانتني العبارات، لقد فهم من لغة جسدي أني أريد منديلا فأخرجه من جيبه وأمدني إياه ، كأنما اشفق علي ,و بعد ساعة جائني بكومة من المناديل ابتسمت له ابتسامة متكلفة، وشكرته، نظرت إلى النافذة وتأملت الشهوق الذي أنا فيه، نعم هذا كان حلم بالنسبة إلي، كانت نافذة الطائرة نافذة إلى أحلام تخيلتها في تلبدات الغيوم ..
نحن أبناء أحياء الصفيح وأقصى أ حلامنا امتطاء شيئا عاليا..
في خلوتي تلك تأملت من أين أتيت وأين علي أن أذهب ، تأملت طول الطريق وقليل الزاد الذي أحمله ..
تأملت الماضي الذي كنت فيه وذكريات طفولتي ، فكرت في كل شيئ في كل الحظات الصعبة كل الا نكسارات وخيبات الأمل ، هي أمور يمكننا القول أنها كانت بسيطة لكنها شكلت فارقا في حياتي ، لا أذكر من القائل ” إننا نتحول إلى شيئ آخر ” بعد كل كلمة نسمعها، فأي كلمة سمعتها أنا وحولتني إلى ما أنا عليه الآن، هل كان كل ذالك محض صدفة ؟!
في تلك اللحظة تذكرت كم مرة في صغري لوحت لطائرة حينما كنت أراها في السماء..
في الطائرة يشعر المرء أنه في علوها قد تجاوز الكثير وحقق الكثير حتى وإن لم يكن قد حقق شيئابعد، حين كنت أتأمل الغيوم كانت أحيانا تُخيل إلي أنها تحتوي على وجوه مألوفة ، كانت رحلة موحشة ذالك لأني كنت أودها مع عائلتي وليس وحدي، هناك أدركت للحظة أن الطرق التي نسلكها لنصل إلى مبتغانا هي طرق موحشة ..

الكاتبة غايتنا سيدي امبارك
الكاتبة غايتنا سيدي امبارك

غايتنا سيدي امبارك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *