الرئيسيةإبداعحكاية عمر في معرض

حكاية عمر في معرض

فريدة عدنان

كانت الألوان الزاهية للعقيق كحديقة ملونة تغمر البهو الفسيح، وخيوط متراصة وإبر مختلفة الأحجام تطل من صندوق خشبي عتيق يوحي بحكايات ألف ليلة وليلة.

كان صوت الباعة المتجولين يكسر هدوء المكان بين الفينة والأخرى، فيحجب خرير المياه المتدفقة من نافورة وسط فناء الدار.

جلست “السلطانة” – كما كان يناديها أهل الحي – في سكينة ووقار وسط خيوط متشابكة تنسج منها دروب أحلام فائتة. كانت تجول بذاكرتها في التجاعيد المرسومة على وجهها النحيف، باحثة عن ذلك الحلم المخبأ تحت ركام الزمن.

كان حلمها الأول أن تجلس على مقاعد الدراسة وتعتلي منابر النجاح، بل كان حلمها أكبر: أن يقترن اسمها بأرقى كليات العالم.

“لكن ليس كل ما يبتغيه المرء يدركه.”

تمتمت السلطانة بهذه الكلمات، وعيناها ترقبان زوج الكناري المسجون في شرفة البيت المقابل.

ثم توجهت ببصرها إلى قطعة القماش المسجاة فوق ركبتيها، وبدأت يداها المرتعشتان تمزجان أنواع العقيق، تتحرك الإبرة بين أصابعها بخفة فتاة في ريعان الشباب، حتى بدت أسارير وجهها أكثر انبساطًا.

لم تكن تلك القطعة مجرد ثوب؛ بل لوحة فنية من عمق الوجدان. شكلت فيها رسومات أندلسية عريقة، وكانت الإبرة بين يديها كقلم فنان يثبت حبات العقيق الملونة لتتكون أقواس وقناطر وزخارف هندسية تحاكي ما رأته في مدينتها من فخامة قصور الأندلس. ولهذا الإتقان ناداها أهل الحي بـ “السلطانة”؛ ليس لثراء، بل لذكاء وحرفة تملكتها.

لم تكن السلطانة تحيك على القماش فحسب، بل كانت تروي قصة صبرها وتضحياتها في كل غرزة. كانت تزرع العقيق والزمرد في القماش لتبني بأحجار الأحلام مدنًا لم تستطع قدماها أن تطآها.

ولم تكن وحدها في رحلتها.

كانت ابنتها فاطمة، ذلك النور الخفي الذي يسبق خطاها، ما إن تلتفت حتى تراها تقف كجندي يحرس أحلامها بصمت. كانت فاطمة تدرك جيدًا ما مرت به أمها؛ فقد أطفأت السلطانة شمعة شبابها وهي تحاول إشعال فتيل الأمل من جديد، بعدما رحل زوجها وتركها سجينة للزمن، كزوج الكناري المعلّق بين السماء والأرض.

تنهدت السلطانة ثم رفعت نظرها عن الإبرة:

— “هل ملأتِ قنينة ماء الزهر؟”

ردت فاطمة بابتسامتها المعهودة:

— “نعم يا سلطانتي، فقد مرّت أربعون يومًا على التقطير، وحان وقت وضعه في المرشة. لقد أصبحتُ تلميذة نجيبة، بفضلكِ.”

فجأةً، اخترق رنين الهاتف هدوء الدار. أسرعت فاطمة نحو السماعة، وأجابت، ثم عادت بوجه يشع بفرحة مكتومة:

— “إنها الجامعة. يريدون حضوري صباحًا للتسجيل في دورات تدريبية. هل تأتين معي؟ أعلم أنك تحبين مرافقتي.”

لمعت عينا السلطانة ببريق فرح:

— “أحب ذلك يا فاطمة… أحب ذلك جدًا.”

في صباح اليوم التالي، وقبل شروق الشمس، قامت السلطانة مذعورة:

— “فاطمة! فاطمة!”

— “ماذا هناك يا أمي؟”

— “أين اللوحات التي كانت هنا؟ لا أجد أيًا منها! ربما سُرقنا!”

ابتسمت فاطمة مطمئنة:

— “لا تخافي يا سلطانتي. لقد وضعتها في الغرفة الثانية. اليوم ستأتي أم السعد لتنظيف البيت، ولم أرد أن تتلف أي منها.”

تنفست السلطانة الصعداء ثم قالت:

— “حسنًا يا قرة عيني. هيا، جهزي لي ثوبي الأزرق كي لا نتأخر عن موعد الجامعة.”

وصلت السلطانة متمسكة بذراع ابنتها، والمكان بدا مهجورًا على غير العادة. نظرت السلطانة نحو فاطمة باستغراب، فابتسمت الأخيرة وقالت بهدوء:

— “الحياة داخل الجامعة يا سلطانتي، لا خارجها.”

توجهتا نحو القاعة الكبرى، وما إن فتحت فاطمة الباب حتى تجمدت السلطانة في مكانها.

كانت القاعة مضاءة بالكامل، وجدرانها مزدانة بكل اللوحات التي نسجتها السلطانة بيديها—اللوحات نفسها التي وضعتها فاطمة في الغرفة الثانية صباحًا.

الزوار يلتقطون الصور ويتأملون تفاصيلها بدهشة، وكل لوحة تبدو كأنها تحكي قصة عمرها الطويل وصبرها المستمر.

ارتجفت يد السلطانة وهي تلمس إحدى اللوحات، ثم نظرت إلى ابنتها بدهشة:

— “فاطمة… كيف وصلت كل هذه اللوحات إلى هنا؟”

ابتسمت فاطمة والدمعة تلمع في عينيها:

— “أمي… نقلتها من البهو مباشرة إلى الجامعة. أردت أن يراها العالم كما رأيتها أنا: ليست أحجارا ملونة فقط، بل رحلة امرأة صنعت الجمال من صبرها.”

ارتفعت دموع السلطانة على وجنتيها، دموع فرح واعتراف بسنين طويلة ظنت فيها أن أحلامها ضاعت.

أمسكت فاطمة بيدها وهمست:

— “يا سلطانتي… هذه ليست مجرد لوحات، بل عمرك كله… وقد آن لها أن تُرى.”

رفعت السلطانة رأسها نحو اللوحات، ثم نحو ابنتها، وأدركت أخيرًا الحقيقة:

لقد كانت حكاية عمرها تنتظر… أن تُعلَّق في معرض يليق بها.

 

فريدة عدنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *