تمرّ اليوم ذكرى رحيل الفنانة القديرة شادية، تلك النجمة التي لا تزال مكانتها محفوظة في وجدان جمهورها رغم غيابها منذ سنوات. اسمها وحده كفيل بأن يعيد إلى الذاكرة زمنًا فنيًا راقيًا، تألقت خلاله على الشاشة الكبيرة والصغيرة وقدمت أعمالًا صارت أيقونات في تاريخ السينما العربية. امتلكت شادية حضورًا لا يشبه أحدًا، صوتًا يمكن التعرف عليه من أول نغمة، وابتسامة رقيقة ظلت جزءًا من ذاكرة ملايين المحبين.
البداية من عابدين… طفولة شكلت ملامح فنانة مختلفة
وُلدت شادية باسم فاطمة أحمد كمال في 8 فبراير 1931 في حي الحلمية الجديدة التابع لعابدين. نشأت في كنف أسرة هادئة كان والدها يعمل مهندسًا زراعيًا ومشرفًا على الأراضي الملكية. لم تكن العائلة تتوقع أن الفتاة الصغيرة، التي كانت تدندن الأغاني في البيت، ستغدو يومًا إحدى أشهر نجمات الفن في مصر والعالم العربي.
منذ سنواتها الأولى ظهرت موهبتها في الغناء والأداء، وبدأت تحلم بالوقوف أمام الكاميرا. كانت تتمتع ببراءة خاصة وطاقة مرحة جعلتها محبوبة لدى من حولها، وهي صفات استمرت معها طوال حياتها الفنية.
من بوابة استوديو مصر إلى النجومية
دخلت شادية عالم التمثيل عندما تقدمت لاختبار المخرج أحمد بدرخان، الذي كان يبحث عن وجوه جديدة ليدعم بها مشاريع استوديو مصر. أعجب بدرخان بسرعة حضورها وتلقائيتها وصوتها اللافت، فأسند إليها أدوارًا صغيرة كانت بمثابة المدخل الحقيقي لعالم الفن.
بعد مشاركتها في فيلم “أزهار وأشواك”، بدأت الأنظار تتجه إليها تدريجيًا، قبل أن تنال فرصتها الذهبية في فيلم “العقل في إجازة” أمام الفنان الكبير محمد فوزي، وتحت إدارة المخرج حلمي رفلة. شكل الفيلم نقطة انطلاقة صاروخية، فحقق نجاحًا ضخمًا رسّخ اسم شادية كوجه جديد مبشر.
تكرر التعاون بينها وبين محمد فوزي في أعمال عدة مثل بنات حواء وصاحبة الملاليم والزوجة السابعة، وكان كل عمل يضيف لها مساحة جديدة من التألق ويزيد تعلق الجمهور بها.
موهبة متعددة الجوانب… بين الغناء والسينما والكوميديا
لم تُصنّف شادية كنجمة سينما فحسب، بل جمعت بين التمثيل والغناء في انسجامٍ عزّ أن يجتمع في فنان واحد. صوتها المميز كان حاضرًا في غالبية أفلامها، وأصبحت أغانيها جزءًا من تراث الموسيقى العربية.
تميّزت بقدرتها على التنقل بخفة بين الأنماط الفنية المختلفة:
-
فقدّمت أدوارًا رومانسية رقيقة
-
وبرعت في الأعمال الاجتماعية
-
وأبهرت الجمهور في التراجيديا
-
وظهرت بقوة في الكوميديا الغنائية
-
ونجحت في الأدوار المركبة التي تحتاج إلى حسّ تمثيلي عميق
كل هذا منحها مكانة خاصة، فكانت نجمة قريبة من الجمهور، قادرة على تجسيد المرأة المصرية بكل حالاتها وتناقضاتها.
“ريا وسكينة”… علامة فارقة في المسرح
في عام 1983، فاجأت شادية الوسط الفني والجمهور بقرارها تقديم عمل مسرحي لأول مرة في حياتها، وهو المسرحية الشهيرة “ريا وسكينة” التي حققت نجاحًا ساحقًا. وقفت على الخشبة إلى جانب نجوم كبار مثل عبد المنعم مدبولي وسهير البابلي وأحمد بدير، وقدمت أداءً كوميديًا لافتًا أضاف بعدًا جديدًا لشخصيتها الفنية.
حتى اليوم، لا تزال المسرحية تُعرض وتحقق نسب مشاهدة مرتفعة، إذ أصبحت أحد أهم أعمال المسرح المصري الحديث.
حادثة غريبة… وقطعة شوكولاتة كانت قد تغيّر المصير
من المواقف التي تداولتها الصحافة حول حياة شادية، حادثة تعرضها للاختناق بعد تناول قطعة شوكولاتة خلال إحدى فترات العمل الفني. تطلب الأمر تدخلًا سريعًا من الموجودين لإنقاذها، لتنتهي الأزمة بسلام. بقيت الواقعة عالقة في ذاكرة المقربين منها باعتبارها لحظة تذكّر بأن النجمة التي أضحكت الملايين كانت تخفي هشاشة إنسانية خلف ابتسامتها الهادئة.
قرار الاعتزال… احترام للنفس وللفن
بعد الانتهاء من فيلم “لا تسألني من أنا” عام 1984، اتخذت شادية أحد أكثر القرارات جرأة في عالم الفن: الانسحاب من الأضواء نهائيًا. جاء القرار وهي في قمة عطائها، ما أثار دهشة الجمهور والوسط الفني. لكن شادية كانت واضحة مع نفسها؛ فقد رأت أنها قدمت ما يكفي وأن اللحظة المناسبة للرحيل قد حانت.
احترم الجمهور قرارها وازداد حبًا لها، لأنها أثبتت أنها لم تكن تبحث عن الشهرة بقدر ما كانت تبحث عن السلام الداخلي.
سنوات الهدوء… ثم الرحيل
عاشت شادية بعد الاعتزال حياة بسيطة بعيدة عن الإعلام. وبعد رحلة صحية صعبة، رحلت في 28 نوفمبر 2017، تاركة خلفها إرثًا من الأعمال التي يصعب أن تتكرر.
بقيت أغانيها، مثل يا حبيبتي يا مصر، تُردد في المناسبات الوطنية، وبقيت أفلامها تتصدر الشاشة في كل مناسبة. ورغم رحيلها، ما زال الجمهور يشعر بأن شادية موجودة في كل مشهد جميل من تاريخ السينما المصرية.
طنجة الأدبية






