الرئيسيةأخباررحيل بيونة… الجزائر تودّع صوتها الضاحك وذاكرة أربعين عاماً من الإبداع

رحيل بيونة… الجزائر تودّع صوتها الضاحك وذاكرة أربعين عاماً من الإبداع

الفنانة بيونة

في صباح حزين دوّى صداه عبر مختلف المنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي، استيقظت الجزائر على خبر رحيل الفنانة الكبيرة باية بوزار، المعروفة لدى الجمهور باسم بيونة، عن عمر ناهز 73 عاماً، بعد صراع طويل ومرهق مع المرض. لم يكن الخبر مجرد إعلان وفاة لشخصية فنية عابرة؛ بل كان بمثابة وداعٍ لأحد أهم أعمدة الدراما والكوميديا في الجزائر، وواحدة من أبرز الوجوه التي طبعت بضحكتها العفوية ذاكرة المشاهدين لأكثر من أربعة عقود.

رحيل بيونة لم يكن حدثاً فنياً فحسب، بل كان حدثاً إنسانياً مؤثراً لآلاف الجزائريين الذين رافقوها عبر أعمالها المختلفة، وشاهدوها تكبر وتنضج وتُبدع، وتتحوّل من فنانة شابة حيوية إلى رمز من رموز الفن الشعبي، ثم إلى “أمّ روحية” للكاميرا وللمشاهدين، قبل أن تغيب في لحظة موجعة، تاركة خلفها مسيرة فنية زاخرة وتاريخاً إنسانياً ثرياً وتفاصيل صغيرة لن تُنسى.

وصية أخيرة محمّلة بالحب والحنين

قبل أيام قليلة من رحيلها، كانت بيونة ما تزال تُصارع المرض الذي تسبّب في تدهور حالتها منذ بداية نوفمبر، ومع ذلك ظلّت تحتفظ بقلبها الهادئ وروحها المتواضعة. وفي لحظة من الصراحة المؤلمة، عبّرت عن وصيتها الأخيرة:
“ادفنوني مع أمي.”

وصية بسيطة في كلماتها، كبيرة في معناها، عكست حجم التعلّق بين بيونة ووالدتها الراحلة السيدة جميلة. كانت والدتها بالنسبة إليها أكثر من أم؛ كانت سنداً روحياً ومصدراً للطمأنينة، وغيابها ترك في قلب بيونة فراغاً ظلّ يرافقها حتى ساعاتها الأخيرة. لذلك رغبت أن تكون مثواها الأخير إلى جانبها في مقبرة العالية، المكان نفسه الذي احتضن ذكرى الأم، وسيحتضن الآن الابنة التي لم تتجاوز حنينها يوماً.

رحلة فنية بدأت من المسرح وانتهت في القلوب

وُلدت باية بوزار عام 1952، ودخلت عالم الفن في سبعينيات القرن الماضي، بدايةً من المسرح الشعبي في الجزائر العاصمة. برزت بفضل حضورها القوي على الخشبة، وقدرتها على تجسيد الشخصيات النسائية بحس فطري وجرأة اعتاد عليها المجتمع الجزائري في تلك المرحلة.

انتقل اسم بيونة بسرعة إلى التلفزيون، حيث صنعت لنفسها مكانة مميزة في المسلسلات الكوميدية والاجتماعية. وقد شكّل مسلسل “دار السبيطار” نقطة تحوّل رئيسية في مسيرتها، إذ أظهر قدرتها الفريدة على الدمج بين الطرافة والعفوية والواقعية، ما جعلها إحدى أكثر الوجوه التلفزيونية قرباً من الجمهور.

وفي السينما، شاركت في عدة أعمال لاقت انتشاراً واسعاً داخل الجزائر وخارجها، ما جعلها ممثلة قادرة على التنقّل بسهولة بين الكوميديا والدراما، بين السينما التجارية والأعمال الاجتماعية ذات الرسائل العميقة.

سنوات المرض… صراع مع الجسد وثبات في الروح

عرفت السنوات الأخيرة من حياة بيونة فصولاً صعبة، إذ واجهت أمراضاً متعددة، أبرزها السرطان ومشاكل الجهاز التنفسي. وعلى الرغم من تعرضها لوعكات متكررة ودخولها المستشفى في مناسبات عدة، ظلّت محافظة على هدوئها وقربها من الناس. كانت تتجنّب الظهور الإعلامي حين يشتد المرض، لكنها كانت دائماً محاطة بمحبة عائلتها ومواطنيها الذين لم يتوقفوا عن الدعاء لها.

تدهورت حالتها في الرابع من نوفمبر، ومع ذلك حافظت على قوتها وابتسامتها قدر المستطاع، إلى أن فارقت الحياة صباح الثلاثاء، تاركة وراءها صمتاً ثقيلاً وغياباً لا يمكن تعويضه.

ردود فعل واسعة… الجزائر تنعى “ملكة الكوميديا”

ما إن انتشر خبر رحيلها حتى غمرت مواقع التواصل الاجتماعي موجة كبيرة من رسائل الحزن والتعازي. الفنانون، الإعلاميون، المثقفون، وحتى الجمهور العادي، عبّروا عن صدمتهم لفقدان إحدى أهم الوجوه التي رافقتهم لسنوات.

الفنان القدير صالح أوقروت كتب رسالة مؤثرة عبر حسابه في فيسبوك، أرفقها بصورة الراحلة، جاء فيها:
“اللهم اغفر لها وارحمها واسكنها جناتك وألهم أهلها الصبر والسلوان.”
كانت كلمات قصيرة، لكنها عكست العلاقة الإنسانية التي جمعت بيونة بزملائها، ومدى احترام الوسط الفني لها.

من جهته، قدّم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تعازيه في بيان رسمي جاء فيه:
“تلقيت بتأثر وأسى نبأ انتقال الفنانة المرحومة بيونة إلى جوار رب العزة. تولاها المولى عز وجل بالرحمة والمغفرة. ونحن نودّع واحدة من مشاهير الساحة الفنية اللواتي ساهمن بمواهبهن وإبداعاتهن في العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، حيث تركت الفقيدة بصدقها وتلقائيتها تقديراً واسعاً.”

كلمات الرئيس جسّدت مكانة بيونة الوطنية، فهي ليست مجرد ممثلة، بل رمز اجتماعي ارتبط بذاكرة ملايين الجزائريين.

فنّانة من الشعب وإلى الشعب

ما ميّز بيونة طوال حياتها هو قربها من الناس. كانت ابنة الحي الشعبي، وابنة المطبخ العائلي، وابنة الضحكة البسيطة التي يفهمها الجميع. لم تتكلّف يوماً في أدائها، ولم تسعَ إلى النجومية المصطنعة، بل صنعت مجدها من خلال التلقائية التي ميّزتها في كل دور.

كانت شخصية مرحة، حنونة، وقريبة من القلب، حتى حين تؤدي الأدوار الصعبة أو الدرامية. لذلك، حين رحلت، شعر الكثيرون بأنهم فقدوا “قريبة” أو “أماً ثانية”، وليس مجرد فنانة.

جنازة بوصية الوداع… الرحيل إلى جانب الأم

سيُشيّع جثمان الراحلة بيونة في مقبرة العالية، وفق وصيتها الأخيرة. ستوارى الثرى بجانب والدتها، المكان الذي كانت تزوره وتستحضر فيه ذكريات الطفولة والحياة البسيطة التي عاشتها قبل أن تدخل عالم الشهرة.

وربما تكون هذه الصورة – فنانة كبيرة تُدفن إلى جانب والدتها – هي أجمل نهاية يمكن أن ترسم لمسيرة بدأت بالحنين وانتهت بالسلام.

إرثٌ لن يموت

ستبقى أعمال بيونة جزءاً من الذاكرة الفنية الجزائرية:
– ضحكتها التي لم تتكرر
– طريقتها الفريدة في الإلقاء
– قدرتها على خلق شخصيات لا تُنسى
– حضورها الآسر أمام الكاميرا
– وتواضعها الذي جعلها محبوبة من الجميع

الجزائر فقدت “ملكة الكوميديا”، لكن صوتها سيظلّ يرتدّد على الشاشات، وصورتها ستبقى راسخة في ذاكرة الأجيال.

طنجة الأدبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *