الرئيسيةأعمدةبيت الحكمة: خبز الدار

بيت الحكمة: خبز الدار

أحمد القصوار

-1-
كان لمجتمع العقود الأخيرة من القرن العشرين (على الأقل) علاقة مميزة بالخبز؛ خبز الدار. كانت امهاتنا وجداتنا وخالاتنا وعماتنا وجاراتنا لا يلجأن لما نعت ب ” خبز الزنقة” الا عند الحاجة وفي حالات استثنائية.
كان الخبز في اغلبية المنازل صناعة يدوية نسائية شبه حصرية عند ربة البيت ومهارة خاصة تورثها الام لابنتها، وضرورة طبيعية وبديهية داخل كل البيوت. لم تكن المرأة حاملة لهذه الصفة بشكل كامل ومكتمل الا لأنها ” تاتعرف تعجن”. كان جهل المرأة، بله الفتاة المقبلة على الزواج لفن الطبخ والعجين منقصة ومدعاة للسخرية والذم.
-2-
في قناعة مجتمعنا ومعتقده الرسمي في العقود الأخيرة من القرن العشرين ( على الأقل)، لا مناص من التمكن من مهارة ” العجين” و “العجينة”، والا صارت المرأة معرضة لأنواع من سوء الفهم، مما يجعل “الناس” يفسرون ابتعاد “العرسان والخطاب” عنها بهذا السبب.
كنا أطفالا شاهدي عيان امام امهاتنا وقريباتنا وهن يحضرن ” خبز الدار” بمختلف مراحل العجين من وضع “القصرية” وتحضير الطحين و” الماء الساخن” الى ان ” يخمر/ يختمر” الخبز ” المكرص” فوق “الوصلة” ونذهب به الى “الفران”. في المناسبات الكبرى، يتحول عجن الخبز الى ” كرنفال” من “الكصاعي” او “القصريات”، حيث يتطلب عجن عشرات او مئات الخبزات لتعاون حثيث بين نساء الحفل وتقسيما للأدوار والمهام.
في مناسبات الأعياد وحفلات الختان والاعراس، يكون للخبز مذاق اخر محبب وجميل. تستعمل توابل مغربية داخل او فوق العجين من قبيل “الزلجلان” و”النافع” بحيث يكسر روتين طعم الخبز العادي. كان خبزا يقف في منزلة بين المنزلتين: بين الخبز العادي والحلوى المغربية.
كان خبزا استثنائيا وخاصا للاستعمال في يومين او ثلاثة أيام.
كان خبزا متمتعا بالاستقلالية التامة، حيث كنا نأكله “حافيا”؛ أي لوحده من دون مرق او زبدة او زيت او غيره.
انه ” الخبز الحافي/ الحرفي الذي احبته أجيال من المغاربة. اكلته بكل حب ورضا بين الوجبات او قبلها او لسد الرمق و”قتل” الجوع.
كنا نسمع اباءنا ينعتون الخبز ب النعمة”. انه نعمة من الله تعالى تستوجب الاحترام، سواء كان عبارة عن خبزة كاملة او شدق صغير.
حينما نجد قطعة من الخبز مرمية على قارعة الطريق، لا بد من حملها، وأحيانا تقبيلها، من اجل وضعها بعيدا عن إمكانية دوسها بأرجل المشاة.
الخبز هو استمرارية للإيمان بالله بأشكال أخرى.
-4-
واذا كانت النساء يقمن بالعجين ومراقبة اكتمال الاختمار (واش خخمر او باقي)، فقد كنا أطفالا مكلفين بإيصاله الى “الفران” او جلبه منه بعد الطهي ساخنا؛ بمجرد خروجه من الفرن، او باردا اذا ما طالت مدة خروجه من الفرن. لم تكن امهاتنا تترددن في توصية ” الطراح” بان يكون الخبز مكتمل الطهي: ” منزز”؛ أي لا يكون الطهي ناقصا بحيث يبدو الخبز رخوا ولونه ابيض وأقرب الى اللون الأصلي للعجين.
-5-
كنا أطفالا نربط علاقة عجيبة بالخبزة الصغيرة: ” الكرصة”. كان ثمنها زهيدا، وأحيانا بالمجان. لا مناص من قطع شدق ( دغمة) منها داخل الفران او في الطريق. أحيانا يتم اقتسامها مع الاصدقاء المرافقين. كان لأكل خبز ” الكرصة” الصغيرة متعة مميزة، خصوصا إذا كانت قد خرجت للتو من الفرن. تكون ساخنة ورطبة وذات رائحة عطرة، بحيث تطفئ نار جوعنا الذي يصرخ في بطوننا بعد ساعات من لعب الكرة.
-6-
في اوج سنوات الجفاف اضطرت الاف الاسر المغربية لشراء ” طحين السوق” من اجل عجن الخبز. توارث المغاربة خبز القمح والشعير، لكن الحاجة اضطرتهم لاستعمال ” الطحين الأبيض” المستورد من فرنسا وامريكا والناجم عن أنواع دخيلة وغريبة عن القمح المغربي. عمدت امهاتنا الى عجن الطحين الأبيض” او خلطه بما تبقى من دقيق القمح المحلي. كانت بداية الثمانينيات سنوات قحط وجفاف جعلت الخبز الأبيض يتمدد ويتوسع استعماله جنبا الى جنب الخبز المغربي من القمح او الشعير.
استحسن بعض الأطفال ” خبز الفورص” لبياضه وليونة قضمه عندما يكون ساخنا. وازعم انه سمي ب “الفورص” Forces لان بدايات مشاهدته واستخدامه تمت في غضون الحرب العالمية الثانية من قبل القوات ” المسلحة الامريكية. سرعان ما يتحول الى ” حجرة صماء” عندما يبرد وتمر ساعات طوال على إخراجه من “الفران”. يصير كالشاة الجرباء التي لا يريد ان يلمسها أحد، خصوصا ابان فطور الصباح. لا تنفع معه زبدة ولا عسل ولا سمن ولا زيت الزيتون. تلجا امهاتنا الى تسخينه او إعادة تسخينه لعل وعسى يصبح قابلا للمضغ والقضم.
-7-

عند طاولة وجبة الغذاء، كانت امهاتنا واباؤنا يحرصون على توزيع ما تبقى من خبز أمس قبل الشروع في “تدشين” خبز اليوم الساخن الجديد الذي جلب للتو من الفران. كانت هذه القاعدة عرضة للرفض والاحتجاج الصامت في الغالب. يفضل اغلب الأطفال الخبز الساخن وسهل الاستعمال والهضم والقضم على الخبز ” البايت” الذي يبدو ثقيلا وصعبا وخشنا عندما يلامس افواهنا واسناننا اللينة.
لم تكن بقايا الخبز او الخبز “البايت” غير المستعمل لسبب من الأسباب ترمى او تضيع. يتم التصدق بها على ” المساكين” الذين يجولون الازقة والشوارع طلبا ” للخبز الكارم”. يأخذون ما تيسر منه، مع سيل من الدعوات بالصحة والعافية والرزق والترحم على الموتى من الاهل والاقارب. كان ” المساكين” الذين يطلبون ” الخبز الكارم ” ذوو فصاحة نادرة ويقدرون الخبز حق قدره. يستعملونه لإطعام حيواناتهم الاليفة او يبيعونه ” بالكيلو” لربح دراهم معدودات.
-8-
لم نكن نلجأ ل ” خبز الزنقة” الا للضرورة، او في عطل نهاية الأسبوع، ويعض المناسبات او الزيارات العائلية المفاجئة. كان صباح يوم الاحد مخصصا اما ل”الكومير” او “السفنج” او لهما معا. وعند قدوم ضيف او ضيوف على عجل، او يتوجب عليهم السفر مبكرا وقبل جلب “خبز الدار” من الفران، كان لا بد من الاستعانة ب”خبز الزنقة” لسد الحاجة. كان ” خبز الزنقة” علامة على الطارئ والمؤقت والفجائي والعابر.
-9-
كان “خبز الدار” هو الخبز «الدايم ” والثابت والحامل للمعنى وللقيمة وللإرث الجماعي الذي يتم تناقله جيلا بعد جيل. هو أحد الرموز الأساسية التي تكثف علاقة مجتمعنا واطيافه الشعبية بمكون أساسي في الطعام المغربي. لم يكن خبزا للطعام ويقوم بدور بيولوجي في التغذية، بل كان- وربما لا يزال- حاملا بتراث قديم ورثناه عن اجدادنا وجداتنا وتكاملت فيه الابعاد الدينية والصحية والاقتصادية والتربوية بشكل قل نظيره.
كان خبز الدار مجالا من مجالات العمران البشري وارثا حضاريا يتنقل ويتغير من جيل الى جيل. تخلينا تدريجيا عن الفران الخارجي بواسطة “الوصلة”، وحلت الافران المنزلية متعددة الاشكال والألوان والاستخدامات. مع ذلك، بقي “خبز الدار” يقاوم ويحافظ على رمزيته ووظائفه الثقافية والغذائية المفيدة. انه احد علامات الثقافة البيئية والتغذية الجيدة وسط رمال العصر الرقمي و رغبات اجيال مابعد “وصلة” الخبز. وتلك قصة أخرى.

أحمد القصوار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *