في مجموعته القصصية “الرحلة إلى جبل قاف”، المؤهلة للقائمة القصيرة لجائزة سرد الذهب المقدمة من مركز أبو ظبي للغة العربية، يقدم الكاتب المغربي محمد سعيد احجيوج تسع قصص قصيرة تشكل في مجملها نسيجًا متشابكًا من الأسئلة الفلسفية حول طبيعة السرد والحقيقة والخيال، حيث يستدعي التراث السردي العربي والعالمي ليفككه ويعيد بناءه في أفق تجريبي جديد. تتميز هذه القصص بكثافتها الفكرية وبراعتها في توظيف تقنيات ما وراء القص (الميتاسرد)، إذ تتحول الحكاية من مجرد وسيلة للتسلية أو العبرة إلى موضوع للتأمل الفلسفي. ويبرز في هذا السياق التناص الخلاق مع حكايات ألف ليلة وليلة كأحد المحاور الأساسية التي تشكل خمسًا من قصص المجموعة، حيث لا يكتفي احجيوج باستدعاء شخصيات الليالي وحكاياتها، بل يقلب الطاولة على النص الأم، مفككًا بنيته السردية مسائلًا أسسه الجمالية والفلسفية، ليخلق نصوصًا جديدة تتحاور مع التراث وتتمرد عليه في ذات الآن.
تشكل شخصيتا شهريار وشهرزاد محورًا مركزيًا في معظم القصص التي تتناص مع “ألف ليلة وليلة”، غير أن احجيوج يعيد تشكيلهما في سياقات جديدة تكشف عن أبعاد غير مستكشفة في النص الأصلي، ولا يكتفي باستدعائهما كشخصيات جاهزة من التراث. في قصة “الظهور الثاني لكتاب الرمل”، يظهر شهريار كقارئ مسكون بالكتب السحرية، محاصر في دوامة قراءة لا نهائية لكتاب الرمل البورخيسي، حيث تتحول الحكاية من فعل شفهي إلى نص مكتوب يستحيل إنهاؤه. هذا التحول من الشفهي إلى المكتوب، ومن المحدود إلى اللانهائي، يمثل تعليقًا ذكيًا على طبيعة “ألف ليلة وليلة” نفسها ككتاب لا يكتمل، نص متشعب يتوالد من داخله، ولذلك يمكن اعتبار قصص هذه المجموعة جزءًا من نسيج الحكايات التي تردف من، وفي، عوالم ألف ليلة وليلة باعتبارها كتابا يمثل الصوت الإنساني في كل مكان وزمان.
في “نبوءة المجوس وحكاية عن تأويل الأحلام”، يعود احجيوج إلى البداية، إلى اللحظة التأسيسية لقصة شهريار وزوجته الخائنة، لكنه يضيف طبقة جديدة من التعقيد: النبوءة التي تسبق الخيانة، والتي تجعل من شهريار سجينًا لقدر مكتوب سلفًا. هنا يطرح السؤال الفلسفي الأزلي عن الرجل والفراشة أيهما يحلم بالآخر، بصيغة أخرى: هل الخيانة نتيجة حتمية للنبوءة، أم أن النبوءة مجرد تنبؤ بما هو آتٍ؟ هل شهريار ضحية القدر أم صانعه؟ يتحول النص إلى تأمل في العلاقة بين القراءة والواقع، بين التأويل والحدث، وفي كيفية تشكيل السرد للحقيقة بدلًا من مجرد تمثيلها.
في قصة “فلما جاء دور شهرزاد”، يصل احجيوج إلى ذروة تفكيكه للنص الأصلي، حيث يقلب المعادلة السردية رأسًا على عقب. هنا، لا تتطوع شهرزاد لانقاذ بنات جنسها، بل تقرر الهرب من مصيرها، غير أنه لا مفر، وتجد نفسها تحت قدميّ شهريار عاجزة عن إنقاذ نفسها من الموت. يُذيّل احجيوج هذه القصة بخمس ملاحق حوارية تفكك الخطاب الذكوري وتغوص عميقا في لعبة الميتاسرد.
يشكل موضوع الحلم وتأويله محورًا أساسيًا في التناص مع “ألف ليلة وليلة”، وهو ما يتجلى بوضوح في قصتي “مكر الأحلام” و”شهريار يحلم بالصياد الذي يحلم أنه شهريار”. في “مكر الأحلام”، يستدعي احجيوج حكاية “الحالمان” من الليالي، تلك القصة البورخيسية بامتياز عن رجلين يحلم كل منهما بكنز في مدينة الآخر. غير أن احجيوج يضيف طبقة جديدة من التعقيد تدخل الراوي رفقة بورخيس إلى عوالم الحكاية في مبارزة نقدية وتحليلية للحكاية، وهو ما يمثل بؤرة المشروع السردي لاحجيوج: تفكيك فكرة الأصل والنسخة، والكشف عن أن كل نص هو بالضرورة تناص، كل حكاية هي إعادة رواية لحكاية سابقة. وفي “شهريار يحلم بالصياد الذي يحلم أنه شهريار”، يدمج احجيوج عدة حكايات من الليالي في نص واحد متشابك، حيث يحلم شهريار بحكاية الصياد والعفريت، لكن الحلم ينفتح على حكايات أخرى داخلية، في بنية سردية متداخلة تذكرنا بالصناديق الصينية أو الدمى الروسية المتداخلة.
ما يميز هذه القصة هو أنها تجعل من الحلم نفسه نصًا قابلًا للقراءة والتأويل، وهو ما يطرح سؤالًا فلسفيًا عميقًأ: هل الأحلام نصوص نقرأها أم نصوص تقرأنا؟ هل نحن قراء أحلامنا أم أن أحلامنا هي التي تقرأنا؟ في هذا السياق، يتحول الحلم من مجرد ظاهرة نفسية إلى فضاء سردي يمكن فيه للحكايات أن تتقاطع وتتداخل، وللشخصيات أن تنتقل من نص إلى آخر بحرية. وهي الفكرة نفسها التي يؤسس لها احجيوج في القصة الأولى من المجموعة، عن كتاب الرمل غير النهائي.
أحد الأسئلة المحورية التي تطرحها قصص احجيوج المتناصة مع الليالي هو: هل السرد إنقاذ أم لعنة؟ في النص الأصلي، السرد هو ما ينقذ شهرزاد من الموت، لكن في نصوص احجيوج، يتحول السرد إلى سجن لا مخرج منه. شهريار المحاصر في صفحات كتاب الرمل اللانهائية، شهرزاد العاجزة عن رواية قصة لم يسمع بها شهريار من قبل، الحالمان المحاصران في حلقة من الأحلام المتبادلة – كل هؤلاء سجناء السرد، محاصرون في نصوص لا يمكنهم الخروج منها، وأقدار تضيق عليهم الخناق.
هذا التحول من السرد كإنقاذ إلى السرد كسجن يعكس وعيًا حديثًا بإشكاليات النص والخطاب. نحن محاصرون في اللغة، في الحكايات، في النصوص التي نرثها ونعيد إنتاجها. لا يمكننا الخروج من السرد لأننا نحن أنفسنا كائنات سردية، مشكّلون من الحكايات التي نرويها ونسمعها. وفي هذا السياق، يصبح مشروع احجيوج السردي محاولة لكشف هذا السجن، ليس بالضرورة بغرض الهروب منه -فالهروب مستحيل كما يظهر بوضوح في قصة الرحلة إلى جبل قاف في ختام الكتاب- إنما بغرض فهم آليات عمله.
ما يميز توظيف احجيوج للتناص مع “ألف ليلة وليلة” أنه ليس تناصًا احتفائيًا أو استعراضيًا، بل هو تناص نقدي بامتياز. لا يستدعي احجيوج الليالي لمجرد الاستفادة من شهرتها أو لإضفاء طابع “شرقي” على نصوصه، بل يستدعيها ليفككها، ليكشف عن تناقضاتها الداخلية، وليطرح أسئلة لم يطرحها النص الأصلي على نفسه، وذلك ما يبرز بشكل واضح جدا في قصة مكر الأحلام.
في هذا السياق، يمكن قراءة هذه القصص، كما غيرها من قصص المجموعة، كنوع من “النقد الإبداعي”، حيث يصبح النص الأدبي نفسه أداة نقدية. بدلًا من كتابة دراسة نقدية تقليدية عن “ألف ليلة وليلة”، يكتب احجيوج قصصًا تمارس النقد من داخل الفعل السردي نفسه. هذه الاستراتيجية تتيح له طرح أسئلة فلسفية معقدة حول طبيعة السرد والحقيقة والخيال، من دون الوقوع في جفاف الخطاب النقدي التقليدي.
كما أن هذا التناص لا يقتصر على “ألف ليلة وليلة” وحدها، بل يمتد ليشمل بورخيس وكالفينو وكافكا وغيرهم من أعلام الأدب العالمي، مما يخلق شبكة معقدة من العلاقات النصية تتجاوز الثنائية البسيطة بين التراث والحداثة، بين الشرق والغرب. في قصص احجيوج، تتحاور كل هذه النصوص وتتقاطع، مشكلة فضاء سرديًا متعدد الطبقات، حيث لا توجد حدود واضحة بين النص الأصلي والنص الثانوي، بين المركز والهامش.
في نهاية المطاف، تشكل قصص احجيوج المتناصة مع “ألف ليلة وليلة” مساهمة مهمة في تطوير السرد العربي باتجاه ما بعد حداثي، وفي الآن نفسه يخاطب التراث برؤية نقدية وجدلية. إنها نصوص واعية بذاتها، تكشف عن بنيتها السردية بدلًا من إخفائها، وتطرح أسئلة فلسفية حول طبيعة الحكاية والحقيقة والخيال. في هذه النصوص، لا توجد حكايات بريئة، لا توجد نصوص شفافة تنقل الواقع كما هو؛ كل نص هو إعادة كتابة لنصوص سابقة، كل حكاية هي صدى لحكايات أخرى.
وبهذا المعنى، يمكن القول إن احجيوج لا يكتب “عن” ألف ليلة وليلة، بل يكتب “مع” ألف ليلة وليلة و”ضد” ألف ليلة وليلة في آن. إنه يستدعي التراث السردي العربي ليحاوره ويتحداه، ليكشف عن إمكانياته غير المستكشفة، وليبرهن على أن هذا التراث هو مادة حية قابلة لإعادة التشكيل والتفكيك وإعادة البناء. وفي هذا، تكمن أهمية مشروعه السردي وأصالته.
ابتسام المنصوري

