✍️ اطلالات … محاربة التفاهة تبدأ من المدرسة والمركز الثقافي:
مواجهة الفساد من جذوره
تشهد مجتمعاتنا اليوم موجة متنامية من المحتوى التافه، الذي ينجح في جذب جمهور واسع على منصات التواصل والقنوات الإعلامية، في الوقت الذي يسعى فيه بعض الحقوقيين والمثقفين إلى محاربته عبر الحملات الدعائية أو المطالبة بإغلاق القنوات. ورغم أن هذه المبادرات تحمل نوايا طيبة، فإن الاقتصار على محاربة النتائج دون معالجة الأسباب الأساسية يثير علامات استفهام جدية حول فعاليتها وأهدافها الحقيقية.
إن التفاهة ليست ظاهرة عرضية، ولا مجرد قنوات أو برامج هابطة يمكن إزالتها بالحجب، بل هي نتاج بيئة ثقافية وتعليمية ضعيفة، حيث تغيب المناهج التي تنمي التفكير النقدي، وتقل الأنشطة الثقافية والفنية، ويضعف دور المراكز الثقافية والمدارس في بناء وعي المواطنين.
- المدرسة والمركز الثقافي: خط الدفاع الأول لمحاربة التفاهة والفساد:
المدرسة ليست مجرد مكان لتلقين المعلومات، بل هي بيئة لتشكيل القيم والوعي النقدي، وغرس حب المعرفة والتمييز بين الجيد والرديء. ومن دون مدرسة قوية، يصبح الفرد عرضة للاستقطاب الإعلامي والمحتوى التافه. أما المركز الثقافي، فهو يوفّر مساحة للإبداع والمعرفة، من خلال المعارض والورش الفنية والأنشطة الثقافية التي تقرّب الثقافة من المواطن، وتجعله مشاركًا في الحياة الثقافية لا مستهلكًا سلبيًا.
عندما تتكامل المدرسة والمركز الثقافي في أداء رسالتهما، يصبح لدى المجتمع مناعة ضد المحتوى التافه، ويبدأ بناء جمهور واعٍ قادر على التفريق بين ما يثري الفكر وما يضيّع الوقت والجهد.
2 . التفاهة نتيجة خلل بيئي وثقافي:
القنوات والبرامج التافهة لا تنشأ في فراغ، بل تجد أرضًا خصبة حيث:
ــ يضعف التعليم، ولا تُغرس لدى الطلاب مهارات التفكير النقدي والتحليل.
ــ تغيب البرامج الثقافية الجاذبة والمحفزة للإبداع.
ــ يقلّ الاستثمار في التنمية الفكرية والاجتماعية.
ـــ توجد فجوات كبيرة في الإعلام الهادف والأنشطة الشبابية.
ان الدراسات الحديثة تشير إلى أن الشباب الذين لا يجدون بدائل ثقافية وإبداعية أكثر ميلًا لمتابعة المحتوى السطحي، ما يؤدي إلى تغذية السوق الإعلامي التافه واستمراريته.
- الصمت الحقوقي: تواطؤ ضمني على استمرار الفساد:
وما يثير القلق هو أن بعض الحقوقيين والمحامين والمؤثرين، الذين يتشدقون بالغيرة على الوطن ومحاربة التفاهة، يصمون آذانهم عن صرخات الاستغاثة لإنقاذ قطاعات حساسة مثل قطاع الثقافة، أو عن الاختلالات في التعليم والفنون والمراكز الثقافية.
وللتحذير، هذا الصمت ليس حيادية، بل هو تواطؤ ضمني على استمرار الواقع الفاسد. لا حاجة للتشدق بالغيرة على الوطن من التفاهة بينما تُترك جذور المشكلة دون معالجة. أي حملة لا تدعم إصلاح التعليم والمراكز الثقافية هي حملة ناقصة ومحدودة الأثر.
- إصلاح التعليم والمركز الثقافي: هي المعركة الحقيقية:
تبين التجارب العالمية أن الدول التي نجحت في الحد من التفاهة لم تعتمد على المنع أو الحجب، بل على تطوير التعليم وتفعيل المراكز الثقافية والمناهج المدرسية: إدراج مهارات التفكير النقدي، والوعي الإعلامي، والفلسفة المبسطة، لتعزيز القدرة على التمييز بين المعلومات المفيدة والسطحية.
دعم الأنشطة الثقافية والفنية، من إنشاء مكتبات عامة، ورش فنية، نوادي أدبية، ومسارح شبابية، لتقريب الثقافة من المواطن وجعلها جزءًا من حياته اليومية.
دعم المبادرات الإبداعية للشباب: مشاريع الكتابة، السينما، الفنون التشكيلية، والإعلام البديل، لتقديم محتوى جاذب وبديل للمحتوى التافه.
غرس القيم المجتمعية في المدرسة والمركز الثقافي: التعليم بالقيم، والتربية على المسؤولية، والانخراط في العمل المجتمعي، لتكوين أفراد واعين قادرين على مواجهة التفاهة.
من الأمثلة على نجاح هذا النهج:
في فنلندا، التعليم القائم على التفكير النقدي والقراءة الموسعة أسهم في انخفاض متابعة المحتوى السطحي لدى الشباب.
في كوريا الجنوبية، الدعم الحكومي للمراكز الثقافية والنوادي الفنية أوجد بدائل جاذبة للشباب بعيدًا عن المحتوى التجاري الفارغ.
تجارب عربية محدودة، مثل المكتبات الثقافية في بعض المدن الكبرى، أثبتت أن الأنشطة الثقافية الجاذبة تقلل من انجراف الشباب نحو القنوات التافهة، لكنها بحاجة لتوسيع نطاقها.
- إحصاءات عالمية تدعم إصلاح التعليم والثقافة:
ــ البيانات الحديثة من اليونسكو وتقرير GEM تشير إلى:
ــ الحاجة إلى 97 مليار دولار سنويًا في بعض الدول لتحقيق تعليم جيد شامل.
ــ نحو 244 مليون طفل وشاب غير ملتحق بالمدارس الابتدائية أو الثانوية على مستوى العالم.
ضعف التمويل يؤدي إلى محدودية التعليم والدعم الثقافي، مما يجعل الشباب أكثر عرضة لمحتوى سطحي وتافه.
لهذا كله، فان المبادرات التي تركز على التعليم الفني والثقافي والدراية الإعلامية أثبتت فعاليتها في خلق وعي نقدي لدى الشباب، وبالتالي تقليل الانجراف وراء المحتوى الرديء.
وهذه الأرقام تؤكد أن إصلاح التعليم والمراكز الثقافية ليس رفاهية، بل ضرورة أساسية لمحاربة التفاهة والفساد من جذوره.
- بناء البديل: هوالطريق الوحيد للنجاح:
الحجب والمنع أدوات مؤقتة، أما الاستثمار في الإنسان، عبر المدرسة والمركز الثقافي، فهو الحل المستدام، والذي يناسب فعاليات اليوم الدراسي لطرح مشاورات حول التنمية المستدامة الذي اعتمد خطابي ملك البلاد الأخيرين، وتوجيهاته السامية نحو الحد من سير المغرب بسرعتين. لأن الشباب عندما يجد محتوى مفيدًا وجاذبًا، ويشارك في أنشطة ثقافية وإبداعية، خاصة إذا تم احترام توصيات قطاع الثقافة في هذا اليوم الدراسي المميز والتي قدمت عناصر للصناعة الثقافية والسينمائية. فهي من جهة تساهم في خلق مناصب شغل، ومن جهة أخرى تساهم في محاربة التفاهة من جذورها. وبهذا يصبح من الصعب على التفاهة أن تجد لها موطئ قدم. لان هذا النهج يحقق:
ــ جمهورًا واعيًا ومشاركًا، لا مجرد مستهلك سلبي.
ــ محتوى بديلًا يتنافس مع المحتوى التافه ويزيحه.
ـــ جمهورا او شريحة مجتمعية تمتلك صناعة مدرة للارباح تسخرها في ما يعود على الوطن بالفائدة.
وبالتالي نقدم بالصناعة الثقافية والسينمائية والتعليمية، إصلاحًا جذريًا يمكن أن يقلص الفساد الثقافي والاجتماعي من الأساس.
وفي النهاية، نؤكد على هؤلاء المحامين والحقوقيين والمؤثرين وحتى الصحافيين بان صم آذانهم عن استغاثة لانقاد قطاعات حساسة مثل قطاع الثقافة، يجعل تشدقهم بمحاربة التفاهة يفتقد الى تعميق تفكيرهم ومسؤولياتهم تجاه الوطن .لان الإصلاح الحقيقي الذي نأمله للبلاد والاجيال ليس مجرد حملة ضد قناة أو برنامج، بل معركة ضد الظروف التي تجعل التفاهة ممكنة وواسعة الانتشار. والمدرسة والمركز الثقافي هما نقطة البداية لمحاربة الفساد من جذوره. وصمت الحقوقيين عن دعم إصلاح التعليم والثقافة ليس حيادية، بل تواطؤ ضمني على استمرار الواقع الفاسد. لان دعم التعليم والمراكز الثقافية والمبادرات الإبداعية والإعلامية التوعوية سيخلق جمهورًا واعيًا، ويجعل المحتوى التافه عاجزًا عن الاستمرار. أي حملة لا تراعي هذه الحقيقة تبقى ناقصة وذات أثر محدود، مهما كانت شعاراتها الوطنية ومهما بلغت شدتها في محاربة التفاهة.

الدكتورة نزهة الماموني


الاستثمار في العقول يقطع الطريق على الانحراف بجميع أشكاله.