فاتحة الكلام
(الاحتفالية عند رائدها والذين اقتنعوا بها هي تجديد لضمير حي يتجدد مع الأجيال وقد ترجع الاحتفالية الكلاسيكية الى الوجود بعد الملل أو عدم الإقتناع .. ومثالا على ذلك نجد الفنانين ادخلوا نغمة الزامر او جرة الغايطة في تجهيزات موسيقية أو اعتمدوا على قرص مدمج لكن المؤمنين بالاحتفالية الكلاسيكية أصروا على عودة نغمة الزامر و جرة الغايطة بحضورهما في مكان الاحتفالية)
هكذا تحدث المسرحي والباحث الاحتفالي ذ. عبد الوهاب عكاوي عن الاحتفالية، بين الكائن والممكن، وبين الماضي و الآتي، وبين القديم والجديد وبين حد الموت وحد البعث، وكما قال الباحث عن دوره في مسرحية ( سالف لونجة) فإنه لا وجود لموت نهائي، وان كل شيء في حياة الأحياء يتعلق بوجود ( يتجدد على الأبد) و ينطبق هذا الموت المتجدد على الاحتفالية وعلى افكارها، وعلى علومها وفنونها
وفي النفس السابق من هذه الكتابة، كنا مع المعرفة، وكانت مولاتنا المعرفة معنا بكل تاكيد، وكنا مع شرط المعرفة في كل فعل، في المخاطرة التجريبية بشكل خاص، وفي الفعل الإبداعي بشكل عام، ، وفي الوجود اليومي بشكل اعم، وعن ذلك النفس المتكلم كتب الكاتب احمد ابو عروة اصدق كلام واحلى كلام واجمل كلام، والذي كان عن مقالة ( المال والبيروقراطية قتلا المسرح المعربي) ولقد وثقت جريدة ( الأحداث المغربية) مشكورة هذا الكلام في احد اعدادها، و احتفظت به للحقيقة والتاريخ، ولقد كانت هذه المقالة بعنوان ( عبد الكريم برشيد صوت مسرحي حقيقي) مهرجانات تلمع، ومسرح يختضر في الظل، من يقتل الروح؟)
وتعقيبا على النفس السابق من هذه الكتابة، والذي كان بعنوان ( المعرفة ثم المعرفة في التجريب العارف) يقول الكاتب والإعلامي والسناريست احمد ابو عروة ما يلي:
(ورقة المبدع عبد الكريم برشيد ليست مجرد رأي في المسرح، بل هي درس في الوعي المسرحي حين يصبح النقدُ معرفة، والمعرفةُ مسؤولية.
لغةٌ حارّة، صافية، تُضيء دروب التجريب وتعيد وضعه في مكانه الطبيعي: قبل العرض لا بعده، في الفكر لا في الادعاء.
برشيد يذكّرنا بأن المسرح لا ينهض بالفرجة وحدها، بل بالفلسفة التي تسندها والأسئلة التي تشعلها.
إنه صوت يوقظ المسرح العربي من سباته، ويعيده إلى جوهره الأول: معرفة تُنقذ الفن من الضياع)
والاحتفالي يمكن ان ينطق بكل اللغات، الكائنة والممكنة، إلا لغة واحدة ووحيدة، والتي هي لغة الخشب، والتي هي لغة الكائنات الخشبية في الأزمان الخشبية
وأما الأستاذ كبير ديكار، والذي عاش التجريب و مارسه، في المدرسة من خلال المسرح المدرسي، والذي هو اليوم احد الأصوات الاحتفالية القادمة من المستقبل، فقد قال في تعقيبه على نفس المقالة ما يلي:
(فعلا أستاذي الفاضل
يلاحظ في تجارب بعض المسرحيين العرب أن التجريب يتحول أحيانا إلى مجرد مغامرة جمالية أو مخاطرة شكلانية لا تستند إلى مرتكزات معرفية واضحة ولا إلى رؤية فلسفية تؤطر الممارسة المسرحية و توجهها. وبدل أن يكون التجريب فعلا واعيا يهدف إلى مساءلة الأشكال السائدة وتوسيع أفق الكتابة الركحية، يصبح في بعض الحالات مجرد تقنية للإبهار ووسيلة لخلق الغرابة والتغريب دون خلفية فكرية تبرر هذه الخيارات أو تمنحها معنى.
غير أن التجريب، في المفهوم المسرحي الحديث، ليس خيارا عابرا ولا ترفا شكليا، بل هو منهج قائم على البحث و مسار معرفي يستند إلى أسس جمالية و فلسفية واضحة، و يستند إلى تاريخ طويل من التحولات التي شهدها المسرح باعتباره فنا حيا يتطور باستمرار. فالتجريب الحقيقي ينبع من وعي نقدي بالسائد، ومن رغبة في اقتراح رؤى جديدة للكتابة والإخراج والأداء والسينوغرافيا. وهو بذلك يشكل تيارا مسرحيا له قواعده ومفاهيمه وأدواته التي تمنحه شرعيته داخل الحقل المسرحي، وتجعل منه خيارا فكريا قبل أن يكون حيلة جمالية أو مؤثرا بصريا)
و يسعدني ويسعد الحقيقة ان يتكلم العارفون، وان يعلم الجميع بأن اغلب ما يعرفه الجميع ليس حقيقة بالضرورة، وهذا هو ما جعلني اكتب كتابا عن ( التيار التجريبي في المسرح العربي) لأعطي فيه المعنى الحقيقي لفعل التجريب بشكل عام، ولمسرح التجريب بشكل خاص
اما منصف إدريسي الخمليشي، وهو الذي يمثل اليوم، ومعه قلة من الشباب المبدع، مستقبل المسرح المغربي، بأخلاقه اولا و بافكاره و اختياراته الجديدة ثانيا، فقد أكد في كلمته على قيم (الجمال النيرة في هذا العالم الذي أصبح يزداد قبحا، يقول بعض من المفكرين أن في القبح قد نرى جمالا، لكن القبح الذي يرى و لو من بعيد قد لا يستوعب لفظة جمال، فشكرا لتشريحكم لطرحكم المسرحي الفلسفي الجمالي الحداثي المحافظ)
وهل الاحتفالية إلا الجمال وعشق الجمال والبحث عن الجمال، وذلك في النفوس العاشقة وفي العقول المفكرة وفي الأرواح الحية، وذلك قبل البحث عن هذا الجمال في الديكور وفي المكياج وفي الأزياء وفي الأقنعة وفي الأضواء والألوان وفي كثير من الحركات العبرانية التي ليس لها اي معنى؟
اما ذعبد الوهاب عكاوي, المسرحي والمؤرخ و المثقف الشامل، والذي تعودت منه ان يكتب مقالة كاملة تعقيپا على اية مقالة اكتبها، فقد قال ما يلي:
(إن المسرح الذي لا يبنى على أسس الوطنية والمواطنة ولا يساهم في الوعي والرقي هو بالنسبة لرجال المسرح و المخلصين له يبقى مجرد سحابة صيف)
نعم، هو المسرح حياتنا الأخرى بالضرورة، حياتنا الأجمل و الأكمل و.الأنبل والأكثر صدقا و مصداقية والأكثر علما ومعرفة، وكل مسرح يكرر قبح الواقع باسم الواقعية، او باسم التجريب، او باسم النضال السياسي، هو .. اللا مسرح ..
فعل مسرحي لا يبدا منا لا يمكن ان يكون منا
هو التاكيد العارف على المعرفة إذن، وذلك في اصدق واجمل واكمل واعلى و أسمى مستوياتها، وهو تاكيد على فعل التجريب ايضا، في معناه الحقيقي طبعا، اي وهو اسىئلة ومسائل، قبل ان يكون مظاهر مبهرة وعابرة، وهو تاكيد على اللغة المسرحية، والتي ليست لغوا، وليست طلاسم الساحر، ولكنها لغة الحكيم الشاعر، وهو تاكيد على المسرح الشامل و المتكامل، بكل ابعاده الفكرية والجمالية والأخلاقية، بعيدا عن ذلك المسرح الخام والفطري والبدائي، والذي لا يتعدى درجة الفرجة البصرية، والتي تولد وتموت في لحظتها وفي ساعتها،، والذي قد يخاطب العين وحدها، من دون ان پخاطب كل الحواس وكل الملكات في جسد الإنسان، ونعرف ان الجمهور في المسرح لا يهمه ولا يعنيه كيف جربت انت المجرب، ولا كيف ركبت مسرحيتك، وما يهمه في المقام الأول والأخير، هو مضمون وروح و جوهر ما فكرت فيه وما أبدعته، وما جعلته للعين ممتعا جماليا، وما جعلته للعقل مقنعا فكريا، وكل شيء غير هذا هو مجرد تفاصيل و جزئيات لا تضيف للمسرح ولا لتاريخ المسرح اية قيمة مضافة
إن الفعل الاحتفالي، سواء في الحياة اليومية او في الحياة المسرحية، هو بالضرورة فعل تاسيسي، يبدا منا نحن الآن هنا، ويبدا بفكرتنا الأساسية، ويبدا انطلاقا من رؤيتنا للعالم، ويبدأ من درجة طموحنا، ويرى الاحتفالي ان فعله يتضمن التجريب بالضرورة، ويتضمن التاصيل ايضا، وهو يلتقي مع الأقدمين في البحث عن الجمال وعن الكمال، كما يلتقي مع كل الذين يبحثون عن الحق والحقيقة، ويبحثون عن الجمال والكمال، هنا وهناك، في كل العالم وفي كل الحقب التاريخية
وفي كتاب ( فلسفة التعييد الاحتفالي) يمكن ان نقرا ما يلي:
( وفي محاولة منها لتأسيس منظومة مترابطة و متناغمة و متجانسة، فقد كان ضروريا ان تبدأ ( الاحتفالية) من البدء، اي ان ترتبط ـ وجدانيا وفكريا وجماليا ـ بالمعيش اليومي الحي، وان تكون حياة مع الآخرين، وان تكون تفكيرا في تفكير الآخرين، وان تكون فلسفة قبل ان تكون صناعة، وان يكون اسم هذه الفلسفة الشاملة و المتكاملة، والتي تتقاطع فيها العلوم والفنون والآداب و الصناعات هو .. فلسفة التعييد الاحتفالي)
و باسم هذه الفلسفة اتكلم واكتب، دفاعا عن الحياة في المسرح، وداعا عن المسرح في الحياة، وإذا كان في هذه الكتابة ما قد يغضب جهة من الجهات فليتأكد بانني لن اعتذر لها.. لماذا؟ لان الحقيقة لا تعتذر، ولأن الحق لا يعتذر
كل تجريب لا تصنعه المبادرات الحرة ليس تجريبا
وهذا المسرح ـ وفي كل مراحله التاريخية ـ كان دائما فعلا متحركا، وكان تجريبا بعد تجريب بعد تجريب إلى ما لا نهاية، ولولا هذا الفعل التجريبي لبقي هذا المسرح ساكنا على صورته الأولى، وهو بالأساس جراة في مقاربة الأساسيات العلمية والفكرية، وليس في مغازلة الشكليات والهروب من الأساسيات في المعرفة والجمال، وهو كشف و اكتشاف و مكاشفة، وهو غموض واضح، وهو فوضى منظمة، وهو فضح و تعرية، وهو اختلاف و مخالفة، وهو حوار بكل اللغات و بأرقى اللغات، ومن اغرب الغرائب ان نجد اليوم من ينسب نفسه الى المسرح، وإلى المسرح التجريبي تحديدا، وان يصر على الهروب من الحوار، مع انه لا مسرح بدون حوار وبدون جدلية فكرية وجمالية
ووجود مسرح تموله الدولة بالمال العام، وتسيره الدولة من خلال موظفين لا علاقة لهم بالمسرح، و تحتضنه الدولة لأهداف غير مسرحية وغير ثقافية وغير إنسانية وغير ديمقراطية، لا يمكن ان يكون مسرحا حقيقيا، ولكنه بالتاكيد مجرد واجهة اعلامية واعلانية و انتخابية، وهذا ما يلبس هذا المسرح لباس المرحلة، وان يجعله يتلون بلون الوزير المتحكم في وزارة الثقافة، مما يجعلنا نقول بان هذا المسرح المغربي ومهرحاناته، هما مجرد بروتوكول شكلي ومجرد فشر حضاري لا أقل ولا أكثر
ووجود مسرح مغربي، له اليوم في الوزارة مديرية، وله اقسام إدارية، وله مدير يفهم فقط في الأمور الإدارية، وله نظام إداري اخرس واعمى وأبكم، وليس له اي نظام فكري وجمالي وأخلاقي، مثل هذا المسرح البيروقراطي لا يمكن ان يكون مسرحا حقيقيا
وتقول الاحتفالية في تعريفها للفعل المسرحي بان المسرح هو ( التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)
وهل وجود مسرح يتحكم فيه الإداريون، و يتحكم فيه وزراء ياتي بهم الحظ الأعمى، هو مسرح حر؟
وهل وجود مسرح تتحكم فيه شروط لعبة الدعم المسرحي، وتتحكم فيه الولايات والمخالفات المصلحية هو مسرح حر؟
ويقول الاحتفالي، في كل كتاباته، بان كل شيء في المغرب اليوم ناجح إلا الثقافة والفن، فهما الحلقتان الأضعف في كل السلسلة السياسة المغربية، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يطالب دائما بإلغاء هذه الوزارة، و بتعويضها بمجلس اعلى للآداب والفنون والعلوم، وان يكون هذا المجلس هو برلمان الثقافة في وطن تتعدد فيه الثقافات واللغات والجهات والحساسيات
ونفس هذا الاحتفالي هو الذي قال ويقول دائما، يمكنك ان تتلاعب بأموال الوطن، ولكنه ابدا لا يمكنك ان تتلاعب بثقافة هذا الوطن، لأن ما هو موجود في هذه الثقافة هو ارواحنا، وهو مخيالنا، وهو عشقنا للفرح، وهو وجداننا الحي، وهو عقولنا التي تفكر.
وهو تاريخنا، وهو عقيدتنا، وهو هويتنا الاحتفالية، وهو ملامحنا العيدية، وهو رؤيتنا الخاصة للعالم، وهل كل هذه الأشياء، وغيرها كثير، يمكن ان تقبل التلاعب، وتقبل التفويت، وتقبل السرقة، وتقبل السمسرة، وتقبل بوجود السماسرة؟
وهل يمكن ان اذكر اليوم اصحاب الذاكرة المثقوبة والمشروخة، بان هذا المسرح المغربي قد اسسه الهواة العاشقون بصفر درهم، وذلك في الستينات و السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي، ولقد اسسوا هذا المسرح بالعبقربة المسرحية، وبالجمال المسرحي، وبالأخلاق المسرحية، وبالولاء للقيم الإنسانية والوطنية وحدها، وليس لشخص وزير عابر، في حكومة عابرة، وذلك بعيدا عن المسكنة والتسول وعن الاسترزاق بالمسرح، كما اسسوا جمهورا بثقافة مسرحية حقيقية، جمهور هو اليوم في حكم الغياب او في حكم العدم ..
هو مسرح تم اغتياله في واضحة النهار إذن، لماذا ومن اجل ماذا ؟لأنه كان مسرح الحرية ومسرح الكرامة، ولقد تم كل.ذلك لحساب مسرح لا فكر فيه ولا علم فيه ولا جمال فيه ولا فن فيه ولا اخلاق فيه، مسرح استفاد بالدعم الوفير بالملايين او بالملايير، وحاله الآن مختصر في وجود مهرجان سنوي يدوم اسبوعا تبداه تكريمات شكلية وينتهي بتوزيع جوائز غير منصفة وغير مقنعة، وتنتهي ايام هذا المهرجان وينتهي معها كل شيء
وفي (فلسفة) هذا العهد ( الجديد) والذي هو اليوم في درجة الصفر، او في درجة ما دون الصفر، يتم قتل المسرح الحقيقي وقتل المسرحيبن الحقيقيين بدم بارد، وتقع كل هذه الجرائم من طرف اشخاص لا يعرفون المسرح، ولا يعرفهم المسرح، ومن طرف مؤسسات و هيئات تدعي الدفاع عن المسرح المغربي والعربي
وفي هذا المسرح اليوم فئة غريبة وعجيبة تتاجر بالمسرح، مع ان هذا المسرح ما كان يوما تجارة، ولا يمكن ان يكون في اي يوم من الأيام تجارة، وهي فئة متطفلة على المسرح، والخطير او الأخطر، هو انها تقامر وتقامر بمستقبل الثقافة المغربية والعربية، والواقع اليوم يشهد على ان هذا المسرح ـ المغربي والعربي ـ يسير في الطريق الخطا، وان الامر يتطلب ثورة ثقافية حقيقية
وفي كتاب ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح حول المسرح الاحتفالي) يسالني الكاتب ذ. عبد السلام لحيابي السؤال التالي ( من يكون اخطر التجار في نظرك، تجار المخدرات ان تجار الأسئلة؟) ليكون جواب الاحتفالي هو:
( الأخطر من تجار المخدرات ومن تجار الأسلحة هم اولئك التجار الذين يبيعون الناس الأوهام)
واعتقد ان كل وزارات الثقافة في العالم العربي وكل هيئات المسرح في العالم العربي لا تنتج اليوم إلا الأوهام، ولا تبيع الناس إلا.. الأوهام..
هم يقيمون وزارات للثقافة، مع ان الغائب الأكبر فيها هو الثقافة، وهو الفاعل الثقافي، و.الموجود فيها فقط مكاتب فيها جيش من الموظفين ومن الإداريين، وهم يقيمون مهرجانات و تظاهرات مسرحية ينفقون عليها بسخاء، مع ان الغائب فيها وعنها هم المسرحيون، وفي نفس هذا المعنى قال اخواننا المصريون المثل الشعبي التالي:
(مولد وصاحبه غايب)
وإذا كان من المنطقي أن يغيب مولاي عبد الله أمغار في موسمه السنوي بمدينة الجديدة، لأنه من اهل الموتى، فكيف يصح أن نغيب نحن اهل المسرح عن موسمنا المسرحي ونحن أحياء؟


