الرئيسيةأعمدةاطلالات:   آخر جزء من سلسلة “اغتصاب الكرامة”…الخوف كسلاح: حين يتحول الإنسان إلى سجين وهمي

اطلالات:   آخر جزء من سلسلة “اغتصاب الكرامة”…الخوف كسلاح: حين يتحول الإنسان إلى سجين وهمي

شخص يقف خلف ظلال تشبه السجن، يرمز إلى الخوف وفقدان الكرامة الإنسانية.

في جوهر الكرامة، يكمن الشعور بالأمان. لكن ماذا لو زُرع في الإنسان خوفٌ لا ينتهي؟

الخوف الطبيعي هو رد فعل فطري لحماية النفس، لكن هناك نوعًا آخر، أكثر دهاءً: الخوف المصنّع. هذا النوع لا يهدف للحماية، بل للسيطرة. يُخلق عبر التهديد، والترويع، والإيحاء الدائم بالخطر—ليس من الخارج، بل من السلطة، من المجتمع، وأحيانًا من النفس ذاتها.

 

التهديدات لا تأتي دائمًا صريحة. أحيانًا تكون بنظرة، أو قانون غامض، أو خبر إعلامي مفبرك. والنتيجة؟ الناس يصمتون، ليس لأنهم لا يملكون رأيًا، بل لأنهم يخشون العواقب.

 

لكن الخطر الحقيقي يبدأ عندما يتحول الخائف إلى أداة لنقل الخوف. يتحدث بلغة القمع دون أن يُدرك، يُخيف أولاده بحجة الحماية، ويبرر الجُبن بالحكمة. وهكذا، يصبح الخوف وباءً يُعدي النفوس دون أن يُرى.

الاستغلال العاطفي: حين يتحول الحب إلى قيد

من أشد أنواع القهر أن يُستخدم الحب كوسيلة لإخضاعك. يُطلب منك التضحية “من أجل العائلة”، أو “من أجل الوطن”، أو “لأنك تحب”، لكن هذه المطالب كثيرًا ما تخفي سرقة للكرامة.

 

أُناس كثيرون تنازلوا عن حقوقهم لأنهم أحبوا، أو لأنهم شعروا بالواجب، فبرروا الاستسلام باسم النُبل. لكن أين الحد الفاصل بين التضحية النبيلة والتنازل القسري؟ الجواب: في نواياك، وفي قدرتك على الرفض دون أن تُجلد داخليًا.

 

الحب لا يجب أن يُلغي الكرامة. من يحبك حقًا، لن يطلب منك أن تهين نفسك. ومن يحب وطنه بصدق، سيقاتل ليجعله مكانًا يُحترم فيه الإنسان، لا ساحةً لتقديس السلطة.

الكرامة في سوق المصالح: من يبيع ومن يشتري؟

في سوق المصالح، الكرامة سلعة مطلوبة. من يُفرّط بمبادئه يحصل غالبًا على مكافآت: مال، منصب، أو حماية. التبريرات كثيرة: “واقعية”، “حنكة”، “دهاء سياسي”… لكن الحقيقة؟ هي خيانة الذات.

 

أُناس كثيرون باعوا ضمائرهم ليصعدوا، لكنهم نسوا أن النجاح الحقيقي لا يحتاج إلى انحناء الظهر. نعم، يمكن أن تنجح دون أن تفقد كرامتك، لكنه طريق أطول، وأصعب. فقط الأحرار يستطيعون خوضه.

الإعلام وصناعة الخضوع: المواطن المثالي صامت

الإعلام ليس مجرد أداة نقل، بل سلاح تشكيل. يُصوّر “المواطن المثالي” كشخص مطيع، لا يُناقش، يُضحّي بصوته وحقوقه من أجل “المصلحة العامة”. والمصيبة أن كثيرين يُصدّقون هذه الصورة.

 

عبر الإعلام، تُشن حملات تُحوّل الظلم إلى واجب، والتنازل إلى بطولة. ويُقنَع الناس أن المطالبة بالكرامة خيانة.

 

كيف نحمي أنفسنا؟ بالوعي النقدي، بعدم الثقة العمياء، وبالسؤال المستمر: من المستفيد من صمتي؟

المجتمع كجلاد: القمع بأيدي الأحبّة

ليس دائمًا الجلاد خارجيًا. أحيانًا يكون هو الجار، أو العائلة، أو حتى الصديق. الخوف من كلام الناس يجعلنا نرتكب جرائم ضد أنفسنا.

 

العادات والتقاليد تُقيد، خصوصًا حين تُستخدم كذريعة لمنع الحرية. الأسوأ؟ أن من تعرضوا للظلم يصبحون أحيانًا جلادين جدد، يكررون ما فُعل بهم.

 

المقاومة لا تعني قطع الصلات، بل إعادة تعريف الانتماء. أن تكون جزءًا من مجتمع، لا يعني أن تذوب فيه حتى تتلاشى.

استعباد الحاجة: الفقر سلاح بيد الأقوياء

حين يصبح الإنسان محتاجًا، يصبح عرضه للبيع. لا لأن كرامته رخيصة، بل لأن جوعه أقوى. يُستغل الفقراء في الحملات، في الانتخابات، في المصانع، وفي الصمت.

 

الكرامة لا تعني الغنى. بل تعني أن ترفض بيع نفسك، حتى في أسوأ الظروف. وهناك دائمًا طريق للخروج، وإن بدا بعيدًا: بالتعليم، بالتعاون، وبمواجهة من يستخدم الحاجة كسوط.

علاقة الكرامة بالوعي: من لا يعلم أنه مقيّد، لن يتحرر

كثيرون يعيشون في العبودية ولا يدركونها. يُضحكون على أنفسهم بشعارات، ويرددون كلامًا ليس لهم. السبب؟ غياب الوعي.

 

الوعي هو الخطوة الأولى نحو الكرامة. لكنه لا يكفي وحده. يحتاج إلى الشجاعة، وإلى الدعم، وإلى بيئة لا تقتل الحالمين.

 

المهم ألا نصمت. أن نتكلم، ونكتب، ونعلم الآخرين—حتى لو بصوت خافت.

وبهذا نصل الى السؤال الأساسي من هذه السلسلة كلها وهو:

كيف تُستعاد الكرامة؟

أول الطريق؟ الاعتراف بأن هناك مشكلة.

ثم يأتي دور الثقافة والتعليم، في بناء شخصية ترى نفسها قيمة لا أداة.

 

التغيير قد يبدأ فرديًا، لكنه يُلهم الجماعات. وشعوب كثيرة—من جنوب إفريقيا إلى أمريكا اللاتينية—استعادت كرامتها حين قررت أن تكسر الصمت.

 

الكرامة لا تُوهب، بل تُنتزع.

وكل ما يسلبك صوتك، قرارك، أو حقك في الاعتراض، هو شكل من أشكال الاغتصاب—ولو تنكر بأسماء الحب، الخوف، أو الوطنية.

 

فلا تكن حارسًا لسجنك. بل كن أول من يكسر بابه.

الدكتورة نزهة الماموني
الدكتورة نزهة الماموني

د. نزهة الماموني

 

تعليق واحد

  1. Nahid MENGAD

    الكرامة حق مشروع، ان لم تحترم يجب أن تنتزع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *