الرئيسيةأخباراعتراف عالمي جديد بالفنان المغربي ماحي بينبين

اعتراف عالمي جديد بالفنان المغربي ماحي بينبين

التشكيلي والروائي المغربي ماحي بينبين

حين يذكر اسم ماحي بينبين في المغرب أو خارجه، تتداعى إلى الذهن صورة فنان تشكيلي وروائي وروائي سينمائي استطاع أن يحفر لنفسه مكانة خاصة في المشهد الثقافي العالمي. فهو المبدع الذي تجاوز حدود مراكش، المدينة التي رأى فيها النور سنة 1959، ليصبح اليوم واحداً من أبرز الوجوه التي تمثل الفن المغربي في الساحات العالمية، سواء عبر لوحاته وأعماله التشكيلية أو من خلال رواياته التي ترجمت إلى لغات عدة، أو حتى عبر مساهماته السينمائية التي ألهمت مخرجين كباراً مثل نبيل عيوش. بينبين ليس مجرد فنان يمارس الرسم أو الكتابة، بل هو شاهد على تحولات سياسية واجتماعية عاشها المغرب في فترة عصيبة، وهو أيضاً ابن عائلة تحمل في طياتها صراعات درامية تصلح أن تُروى كقصة شكسبيرية كاملة.

في شتنبر 2025، دخل اسم ماحي بينبين مرحلة جديدة من مساره الفني بعد أن أعلن المتحف الوطني للفن الإفريقي “سميثونيان” بواشنطن، ومتحف بيريز للفن في ميامي، عن اقتناء أعمال له وإدماجها في مجموعاتهما الفنية الدائمة. وهما مؤسستان مرموقتان في الولايات المتحدة والعالم، يضطلعان بدور رئيسي في عرض الفن الإفريقي واللاتيني وأعمال الشتات. هذه الخطوة لم تكن مجرد صفقة فنية عابرة، بل هي اعتراف واضح بمكانة الفنان المغربي الذي بات يحظى بانتشار واسع في المتاحف العالمية، من غوغنهايم بنيويورك إلى معهد العالم العربي بباريس، مروراً بمتحف محمد السادس بالرباط ومؤسسات أوروبية وأمريكية عديدة. بالنسبة للفنان نفسه، كان لهذا الحدث رمزية كبيرة، إذ صرح بأنه يشعر بالفخر لأن أعماله ستُعرض أمام جمهور متنوع إلى جانب أسماء يكن لها كل الإعجاب، معتبراً أن المؤسستين الأمريكيتين تؤديان دوراً محورياً في إبراز الأصوات الإفريقية وربطها بقضايا مثل الهجرة والذاكرة والمقاومة.

غير أن مسار بينبين لم يكن مفروشاً بالورود، بل صيغ من تجارب شخصية وعائلية مؤلمة. فهو ابن الفقيه محمد بينبين، الذي كان قريباً من الملك الراحل الحسن الثاني، وشقيق عزيز بينبين، المعتقل السياسي السابق في سجن تازمامارت المظلم على خلفية انقلاب الصخيرات عام 1971. هذه التركيبة العائلية الفريدة جعلت ماحي يقول عن نفسه إنه “ابن عائلة شكسبيرية”، إذ اجتمع في بيته أب يعيش في قلب القصر، وأخ يقاسي ويلات الاعتقال في أحد أبشع السجون، وأم مطلقة كافحت وحدها من أجل تربية سبعة أبناء. كان لذلك كله أثر عميق في تكوين رؤيته للحياة وللفن، حيث يصر على أن الكتابة والرسم ليسا سوى محاولة لإعادة صياغة ما عاشه وما شاهده من تناقضات.

طفولة ماحي بينبين اتسمت بالبحث الدائم عن الذات. بعد حصوله على شهادة البكالوريا، اختار متابعة دراسته في فرنسا في تخصص الرياضيات، ليعمل لاحقاً أستاذاً هناك. لكنه لم يتخل يوماً عن حلمه بأن يصبح فناناً. الفن ظل يسكنه، يطارده، يلح عليه حتى ترك التدريس ليكرس حياته للتشكيل والكتابة. وقد أثمرت هذه المغامرة أعمالاً تشكيلية تستكشف مواضيع كونية مثل الهجرة والذاكرة والعدالة الغائبة، مستخدماً تركيبات لونية غنية وأشكالاً تعبيرية تلامس الوجدان وتعيد صياغة القصص الإنسانية في لوحات نابضة بالحياة.

على مستوى الأدب، كتب ماحي روايات عديدة شكلت علامات في الأدب المغربي الحديث. من “قمة العبودية” و”أكلة لحوم البشر” مروراً بـ”جنازة الحليب”، التي استعاد فيها صورة والدته وهي تنتظر عودة ابنها الغائب وتترك له نصيبه من الطعام يومياً، وصولاً إلى “نجوم سيدي مومن” التي تناولت مأساة الإرهاب في الدار البيضاء، و”مجنون الملك” التي مثلت تصالحاً مع صورة والده بعد سنوات من القطيعة. هذه الأخيرة بالتحديد تعكس عمق التجربة الشخصية التي عاشها، حيث يقول إنه ظل يفكر في كتابة رواية عن والده منذ التسعينيات، إلى أن نضجت الفكرة وهو في الستين من عمره، حين تعلم درس الصفح والتسامح من شقيقه الناجي من تازمامارت.

في حواراته، يصر بينبين على أن الكتّاب والفنانين يعيدون صياغة ما عاشوه بطريقة أو بأخرى، وأن تجربته الشخصية ليست مجرد شأن عائلي، بل هي جزء من الذاكرة الجمعية للمغرب خلال ما يعرف بسنوات الرصاص. وهو يرى أن مأساة الاعتقال السياسي لم تطل فقط من كانوا وراء القضبان، بل أيضاً عائلاتهم، من أمهات وآباء وأشقاء عاشوا الألم بصمت. لذلك فإن رواياته ولوحاته تحمل دائماً هذا العمق الإنساني، المستمد من ذاكرة مثقلة بالأسى والرغبة في الصفح في الوقت نفسه.

ماحي لم ينس أيضاً دور والدته التي يعتبرها ملهمته الأولى. فهي التي ناضلت وحدها لإعالة أبنائها، وهي التي أصرّت على أن يعود إلى المغرب قبل وفاتها ليجد مساره النهائي في الفن. كما لم ينس شقيقه الذي علّمه أن الكراهية لا تُنتج سوى الموت البطيء، وأن التسامح هو السبيل الوحيد للمصالحة مع الذات. أما والده، فقد اكتشف فيه لاحقاً شخصية مثقفة وإنساناً راقياً رغم الجراح، فكتب عنه بعد أن تصالح مع نفسه.

إلى جانب ذلك، لم يكن بينبين بعيداً عن الساحة الدولية، إذ تنقل بين فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، وعرض أعماله في كبريات المعارض، كما أقام علاقات ثقافية مع شخصيات من طينة الكاتب الإسباني أغوستين غوميز أركوس، الذي شجعه على الكتابة وأخذ بيده نحو النشر. هذه التجارب سمحت له بأن يصبح صوتاً مغربياً وإفريقياً في النقاشات العالمية حول الفن والهجرة والذاكرة.

التشكيلي والروائي المغربي ماحي بينبين
التشكيلي والروائي المغربي ماحي بينبين

ومع مرور السنوات، صار بينبين واحداً من أكثر الفنانين المغاربة شهرة في الخارج، حتى إن المتاحف العالمية تتسابق لاقتناء أعماله. وجود أعماله في سميثونيان وبيريز اليوم يعزز هذا الحضور، ويضعه إلى جانب أسماء أفريقية بارزة، كما يرسخ صورة المغرب كحاضنة للإبداع الفني المعاصر. في الوقت نفسه، يحرص الفنان على أن يبقى مرتبطاً ببلده وبذاكرته، فلا ينفصل عن الواقع الاجتماعي والسياسي للمغرب، الذي يجد في أعماله صدى كبيراً.

أما عن المشهد التشكيلي المغربي، فهو يرى أنه عرف تطوراً لافتاً خلال العقدين الأخيرين، خاصة مع الاهتمام المتزايد من طرف الملك محمد السادس الذي شجع على اقتناء الأعمال الفنية، وهو ما حفّز الأثرياء والطبقات الوسطى على الاستثمار في الفن، محوّلين السوق الفنية المغربية إلى فضاء نابض يستقطب اهتماماً دولياً.

إن الحديث عن ماحي بينبين هو حديث عن مسار متعدد الأبعاد: فنان تشكيلي يحاور الألوان والأشكال ليصوغ بها سرديات عن الهجرة والمقاومة، روائي يكتب عن الذاكرة والعائلة والبلد، ابن لأسرة حملت تناقضات التاريخ المغربي بكل ما فيه من ألم وأمل، ومثقف عالمي يناضل من أجل أن يكون الفن أداة للتغيير والتأمل. من هنا فإن اعتراف المتاحف الأمريكية به اليوم ليس سوى حلقة جديدة في رحلة طويلة تؤكد أن صوت الفن المغربي يمكن أن يصل إلى كل مكان، إذا ما كان صادقاً ومحمّلاً بالذاكرة والإنسانية.

في النهاية، يظل ماحي بينبين أحد أبرز الوجوه التي جسدت قدرة الفن على تحويل المأساة إلى أمل، والصدمات إلى إبداع، والذاكرة المثقلة إلى حكايات إنسانية كونية. إنه ابن عائلة شكسبيرية بالفعل، لكنه أيضاً ابن المغرب الذي حمل جراحه إلى لوحات وروايات، وجعل منها جسراً للتواصل مع العالم. وبفضل موهبته وإصراره، صار اليوم مرجعاً في الفن التشكيلي المغربي والعربي والإفريقي، ورمزاً لالتقاء الجمال مع الذاكرة في رحلة فنان عالمي الهوى، مغربي الجذور.

طنجة الأدبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *